إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

بعضٌ من حزبنا في سورية الجنوبية بقلم الأمين سليم سعدو سالم

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2020-02-20

إقرأ ايضاً


في سنوات سابقة، نشرنا الكثير من المعلومات عن الحزب السوري القومي الاجتماعي في سورية الجنوبية، بما في ذلك من نبذات عن عدد غير قليل من أمناء ورفقاء كان لهم مسؤولياتهم وحضورهم الحزبي.

في كتابه "حان الوقت"، يورد الأمين سليم سعدو سالم في عدد كبير من صفحاته، معلومات جيدة عن تاريخ حزبنا في فلسطين، جديرة بأن تُقرَأ.

منها اخترنا التالي.

ل. ن.

*

في حيفا كانت البداية:

كنت في محطة سكة الحديد في حيفا أوائل عام 1943 أشاهد على الرصيف قوافل الجنود الإنغليز العائدين أو المسافرين إلى مصر وليبيا إبّان معارك "العلمين"، وكان قطار قد أفرغ حمولته من أولئك الجنود على الرصيف في انتظار ركوب قطار آخر، بعضهم يتناول طعاماً وبعضٌ آخر يرتّب حقيبته العسكرية، وغيرهم يحاول أن ينام... وكان هناك مجموعة تتبادل الحديث والنكات وتضحك، فاقترب منهم شابٌ فلسطيني وبعد حديث، كما يبدو، تبيّن أنّه مصارع وبرز له أحد الجنود قائلاً إنّه يريد منازلته بالمصارعة... وهكذا وسط هرج ومرج وصراخ من هنا وهناك لتشجيع هذا أو ذاك، تعارك الشاب الفلسطيني والجندي الإنغليزي في جولات مصارعة والكل من حولهما يصرخ ويشجّع، حين ينتصر الجندي ويُلقي الشاب الفلسطيني أرضاً ترتفع صرخات الابتهاج. وحدث أن تمكّن الفلسطيني من طرح الجندي أرضاً في حالة استسلام، فما كان من عددٍ من أولئك الجنود وانتصاراً لزميلهم إلّا أن وثبوا على الشاب الفلسطيني يوسعونه ضرباً ولكماً حتى أدموه، فوقع أرضاً وراحوا يركلونه بأرجلهم.... فشعرت بالغضب و... المذلّة أيضاً.

شاب عربي، فلسطيني يُضرب ويُركل بالأقدام في بلده من قِبَل جنود انغليز أتوا من وراء البحار، كلّ ذنبه أنّه لبّى دعوة تحدٍّ من جندي استهتر به وبقوّة عضلاته ودعاه إلى المصارعة لاختبار أيّهما الأقوى، وكان ذنبه أنّه الأقوى. كان إلى جانبي شاب يعمل في سكة الحديد لا أزال أتذكّر اسمه – محمود حسونة.

ابتعدنا عن المكان متوجّهين إلى البوفيه (مقهى صغير يقدّم الوجبات الخفيفة والمرطبات، وهو أشبه بما نسمّيه اليوم "سناك بار" صغير مخصّص لعمّال وموظّفي محطة سكة الحديد، ورحت أعبّر عن إحساسي وألمي لما شاهدت، وتبادلت الحديث مع محمود الذي راح يتحدّث بلغة بدت لي غريبة بعض الشيء. هؤلاء الجنود ما كانوا ليتصرّفوا كما فعلوا لولا إحساسهم بعظمة حكومتهم وبلدهم وبقوّتهم. إنّه الاستعمار يا سليم... ونحن الشعوب الضعيفة... يجب أن ننهض لنكون مثلهم على الأقل... تاريخنا يقول إنّنا كنّا في مقدمة أمم العالم. انظر ماذا فعل الانغليز بعد "وعد بلفور" الذي أعطوا بموجبه بلداً لا حقّ لهم فيه إلى جماعات يهودية لا تاريخ لهم فيه سوى الادّعاء والتزوير... انظر إلى ما فعلوه في سوريا ولبنان من تحريك النزعات الطائفية والإقليمية لتمزيق أبناء الأمة الواحدة. كانت تلك الكوارث بسبب جهلنا تاريخ أمتنا، ومن لا تاريخ له لا وجود له ولا يُحسَب له أي حساب في صراعات الأمم. نحن في حاجة لتنظيم وقيادة واعية تعرف ما تريد وتعمل من أجل تحقيق ما تريد... شعرتُ بما يشبه الدوّامة في رأسي... ماذا يقول محمود؟ إنّه يفتح أمامي عوالم لم أعرفها من قبل، ويحدّثني بلغة واضحة عن أمور أحسّها وأشهد تأثيرها في كلّ يوم، وأعيشها وسمعت تفاصيلها من والدي وأهلي وسكان الحيّ حيث أعيش. وهكذا تبادلت مع محمود حديثاً شعرت بعده أني الأضعف حجة والأقلّ اطّلاعاً رغم أني أعلى منه تعلّماً مدرسياً. المدرسة أساس، لكنّها ليست كلّ شيء في مواجهة متطلبات الحياة.

تكرّرت لقاءاتي بمحمود حسونة(1) وفهمت منه بوجود حزب – لم يذكر اسمه – بل ذكّرني ببعض أناشيدنا المدرسية التي ننشدها صباح كل يوم في ملعب المدرسة قبل دخولنا إلى الصفوف: بلاد العرب أوطاني: من الشام لبغدان، وغيرها مثل "أنت سوريا بلادي: أنت عنوان الفخامة – كل من يأتيك يوماً: طامعاً يلقى حمامه".

المهم أنني استمتعت بحديثه ومنطقه حين يقول: ألم تسمع بالقائد سعيد العاص الذي قاد المعارك الضارية ضدّ الانغليز واليهود في ثورة الـ 36 واستشهد هنا في فلسطين وهو السوريّ المولد والمنشأ؟ ماذا جاء به إلى هنا؟ فقط لأنّه يشعر أنّ هذا وطنه... جزء من وطنه السوريّ الكبير... وهكذا تكرّرت لقاءاتي بمحمود حسونة حتى أفصح لي عن وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة زعيمه أنطون سعاده... اللبناني المؤمن بالوطن السوري الكبير.

كنت أعرف محمد شلبي(2) منذ وقتٍ طويل، لكنّني لم أكن أعرف أنّه عضو في هذا الحزب...

جاءني محمود حسونة بكتيّب عنوانه "مبادئ الحزب السوري القومي مشروحة بقلم الزعيم"... قرأتها وناقشت محمود بنقاط لم أستوعبها... والمهم أنّه جرى ترشيحي بعد أكثر من ثلاثة أشهر لعضوية الحزب وقد تمّ هذا في أواسط عام 1943.


مديرية الزعيم:

التنظيم الإداري في الحزب يقوم على المديرية، مجموعة الأعضاء في حيّ أو مناطق متقاربة يشكّلون "المديرية" ومجموع المديريات في المدينة أو في قرى متجاورة يشكّلون منفذية، ومنفذية حيفا التي يتولّى مسؤولية المنفذ العام فيها كميل جدع(3) تضمّ عدة مديريات منها كانت "مديرية الزعيم" التي انضممت إليها ومديرها محمد شلبي. وعرفت فيما بعد أنّها المديرية التي تعتبر مديرية مقاتلة، ويتمّ استنفار أفرادها عند الحاجة.

مثال على ذلك حين قدم إلى حيفا عميد الإذاعة (وربما كان عميد الثقافة) فايز صايغ – ربما في العام 1946 أو 1947، وتمّ ترتيب أن يلقي محاضرة في النادي الأرثوذكسي – وكان الشيوعيون العاملون تحت اسم تنظيم "جبهة التحرر الوطني" يشكلون الخصم اللدود للقوميين، يتحرّشون بنا في كلّ مناسبة، ويتّهمون القوميين بالعمالة للنازية والفاشستية وبكلّ موبقة في نظر الحلفاء، على اعتبار أنّ الشيوعيين في كلّ مكان من العالم يقفون إلى جانب الاتحاد السوفياتي، وتالياً إلى جانب الانغليز والأميركيين والغرب عامّة في ما سُمّي معسكر الحلفاء ضد ألمانيا النازية.. وكان اللافت فعلاً أنّ السلطات البريطانية كانت تتغاضى عن نشاط الشيوعيين بحكم التحالف البريطاني الغربي إبان الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفياتي ضدّ النازية، بينما كان القوميون تحت الرقابة الدائمة والمزعجة بطبيعة الحال. في تلك المرحلة، أُتيح للشيوعيين إقامة مراكز ومكاتب لهم وتشكيل حزب تحت اسم "جبهة التحرر الوطني" وأمين سرّه السيد إميل توما، وأحد أبرز معاونيه كان إميل حبيبي، بينما كان القوميون تحت المراقبة والمضايقات المستمرة.

صدرت الأوامر لمديرية الزعيم بتولّي الحراسة والإشراف على أمن العميد فايز الصايغ، وعلى سلامة وهدوء الجو في أثناء المحاضرة خشية من عمليات شغب من قِبل الشيوعيين الذين لهم سوابق في هذا المجال.

أشرف محمد شلبي وجميل عطية(4) على الترتيبات الضرورية، وتمّ توزيع أعضاء المديرية مسبقاً في مختلف أرجاء القاعة بشكل محسوب... وحدث ما كان متوقّعاً... حين كان العميد صايغ يتكلّم – وهو خطيب منابر من الطراز الأول – وقف شاب نعرفه أنّه شيوعي – يقاطعه بطريقة فظّة واستفزازية وصدف أن كان إلى جانبه قومي اسمه توفيق زغلول(5)، فما كان منه إلّا أن وضع يده على كتف المقاطع وشدّ به ليجلس قائلاً بصوت سمعه كلّ من في القاعة "أقعد ولاْ". فجلس مرغماً، وتابع العميد كلامه كأنّ شيئاً لم يكن.


نظامية الحزب!

انضباط وسلوكية القوميين الاجتماعية كانت مضرب الأمثال. في الوسط الحزبي أمر عادي، بل وطبيعي. ولكن في تعامل القوميين مع مواطنيهم، وصل الأمر أن يقول مواطن لقومي لا يعرفه من قبل: إنّك سوري قومي، ولما سأله كيف عرف، قال ذلك المواطن: إنك حلفت بشرفك وكنت صادقاً.

نُقل عن الزعيم أنّه قال ما معناه أنّ مشية القومي وكلامه يجب أن يدلّا عليه.

القصة التي سأرويها هنا حدثت يوم تناقل أعضاء مديرية الزعيم أنّ حضرة منفذ عام حيفا – وكان يومها كميل جدع – سوف يحضر اجتماع المديرية يوم كذا. باختصار شديد، أقول إنّ موعد الاجتماع وكان في السابعة (أو الثامنة مساء) في بيت محمد شلبي، قد أزفَ ونظر المدير في ساعته وعند الثامنة تماماً افتتح الاجتماع بِاسم سورية وسعاده – ولم تمضِ دقيقتان أو ثلاث دقائق حتى وصل المنفذ، وتولّى الرفيق المكلّف بالحراسة إبلاغنا ذلك، وكان الناموس يقرأ محضر الاجتماع السابق، فما كان من المدير محمد شلبي إلّا أن قال له: فلينتظر حضرة المنفّذ في الغرفة الأخرى، لأنّه تأخّر والاجتماع قد بدأ. بعد أن أتمّ الناموس قراءة المحضر، رفع المدير الجلسة واستقبل المنفذ الذي اعتذر عن تأخّره.

هذا نموذج عن الانضباط الحزبي وأهمية التقيّد بالموعد.


رسالتان: إلى الزعيم ومن الزعيم

كانت فروع الحزب في سوريا الجنوبية عبارة عن منفذيات ومديريات تديرها مفوّضية "سورية الجنوبية" والمفوّض العام كان الرفيق الدكتور يوسف صايغ – أخ فايز صايغ – عميد الثقافة آنذاك ومقرّه في القدس. ولصعوبة الأوضاع وتعذّر الاتصالات يومها ترك لكلّ منفذية أن تدبّر شؤون القتال والدفاع حسب أوضاعها المحليّة، أي أن تكون شبه جبهة مستقلة، فكان أن قاد محمد شلبي عملية إنشاء قوّة حزبية تابعة لمنفذية حيفا تتمتّع بقدر كبير من حرية الحركة حسب الظروف والتطورات. وقبل أن يندلع القتال عنيفاً، ارتأت المنفذية أن تستطلع رأي الزعيم وتسترشد بتوجيهاته وقراراته في أي خطوة قبل أن تقدم عليها. فتمّ إعداد رسالة تضمّنت بدايتها استعراضاً للأوضاع العامة وتدرّجت إلى وضع المنفذية واستعداداتها القتالية. وصدر أمر المنفذ العام بتكليف الرفيق سليم سعدو سالم مع رفيق آخر اسمه عثمان عيد(6) بحمل الرسالة والتوجّه إلى بيروت. السفر يجب ألّا يكون على الطريق الرسمية المزروعة بالعديد من المستعمرات التي تحوّلت إلى قلاع عسكرية، فكان لا بدّ من التسلّل إلى لبنان عبر الجبال وفي الوقت نفسه لا يجوز أن تكون الرسالة عرضة للضياع أو للمصادرة من اليهود أو من الانغليز.

الرحلة والرسالة:

نعم، كنت مكلّفاً من منفذية حيفا – وكان رأي المنفذ العام كميل جدع – أن أنقل رسالة شفوية إلى الزعيم وأحمل منه التوجيه الحزبي اللازم.

الرسالة الشفوية تدور حول الأوضاع في سورية الجنوبية – فلسطين – وتتعلّق بما لدى القوميين من سلاح يدوي وهو قليل جداً لا يصمد أمام السلاح التي تتزوّد به الجماعات اليهودية.

هنا تضغط على الذاكرة تفاهة ما ورد في الكتاب الذي أصدرته الحكومة اللبنانية تحت اسم "قضية الحزب القومي" إثر فشل الثورة القومية الأولى واغتيال الزعيم تحت ستارة المحاكمة. جاء في الكتاب الحكومي أنّ القوميين كانوا يهرّبون السلاح من فلسطين إلى لبنان استعداداً لمؤامرتهم، بينما الحقيقة عكس ذلك تماماً. وأنا أعرف جيداً وأتذكّر كيف كنّا نعبر الجبال ونحن نحمل بضع بنادق أو أكياس من الذخيرة نقوم بتهريبها من لبنان إلى فلسطين. السلاح كان يتمّ تهريبه من لبنان إلى فلسطين لمحاربة اليهود، بينما كان بعض زعماء لبنان يعمل لصالح اليهود.

المهم أنّنا كنا نريد أن نعرف ما هو موقف الحزب الرسمي ممّا يحدث في فلسطين، وقد بدأت للتوّ بوادر العاصفة الصهيونية تتفجّر منذرة بما سيكون على ضوء الاستفزازات اليومية التي تقوم بها الجماعات اليهودية، وما يترتّب على الشعب الفلسطيني من ضرورة الاستعداد لأعمال المقاومة. ثم أن أطلع الزعيم على نتائج الاتصالات التي كانت تجرى بين القوميين والهيئة العربية العليا ممثّلة باللجان المحلية في كلّ مدينة. أعدّت المنفذية كتاباً كان عبارة عن تقرير مكثّف، ليرفع إلى الزعيم، ويتضمّن توصيفاً لأوضاع الحزب – أعني أوضاع منفذية حيفا من الناحية التدريبية والعسكرية، وفيه أيضاً معلومات عن عدد المقاتلين القوميين وبضعة سطور عن السيرة الحزبية لمن يتقنون استخدام السلاح... إضافة إلى الوضع الميداني والعسكري لمدينة حيفا.


رسالة كاستظهار مدرسي!

طُلب من الرفيق سليم سعدو سالم – المذيع في مديرية الزعيم التابعة لمنفذية حيفا، أن يحفظ النص حرفياً – كما لو كان استظهاراً أو نصّاً مدرسياً، وهو عبارة عن ثلاث صفحات تقريباً. وتمّ السفر من حيفا إلى عكا أولاً ومن ثمّ إلى ترشيحا ومن بعدها كان المشي على الجبال هو السبيل الوحيد.

وصلت إلى بيروت مع الرفيق عثمان عيد، وقادتني قدماي في وقت متأخر من المساء إلى مركز منفذية بيروت في باب إدريس – وكان المنفذ العام الرفيق (الامين) جبران جريج غير موجود هناك. أرشدني من كان هناك إلى كيفية الوصول إلى ضهور الشوير، إلى المخيم القومي المُقام على تلّة عند مدخل البلدة.

رافقني أحد الرفقاء واسمه فكتور أسعد(7) في صبيحة اليوم التالي إلى بيت على جانب الطريق الموصل إلى العرزال، هبطنا إليه بضع درجات وطلب مني الانتظار قليلاً.

لا أستطيع اليوم استعادة المشاعر التي تولّتني في انتظار مقابلة الزعيم، لكنّها كانت بالأكيد خليطاً من الرهبة أولاً – رهبة مقابلة زعيم الحزب الذي يتصدّى لتغيير مسار المؤامرة ويقود عشرات آلاف الرجال المؤمنين به وبرسالته ومهمّته، إلى جانب الفرح في أن أقابله.

لم أدخل إلى البيت، بل جلست على مقعد خشبيّ تحت عريشة إلى أن أطلّ الزعيم. إذن، هذا هو من أقسمت له الولاء والطاعة قبل أن أقابله. شعرت برهبة، لكن ابتسامته المريحة أزاحت عنّي ما شعرت به من توتر وقد بدا لي أنّه كان يتوقّع قدومي ولا أستغرب أن تكون منفذية حيفا قد اتصلت به تعلمه بذلك.

ليس مهماً سرد التفاصيل، لكنني نقلت الرسالة وفيها صورة واضحة عن منفذية حيفا ومدى استعدادها للمواجهة وعدد قطع السلاح الفردي المتوافر لدينا، وكم كان عدد الذين لديهم خبرة في القتال إلى جانب عدد الذين تمّ تدريبهم حزبياً.


رفيقي سمح بها!

كنتُ أحمل آلة تصوير – كاميرا – وضعتها على طاولة خشبية كانت هناك، واقتربت منها ابنة الزعيم – صفية وأمسكت بها فانتهرها والدها قائلاً بلغة عربية فصيحة: صفيّة! اتركي الكاميرا، فالتفتت إليه ابنة الرابعة أو الخامسة – لا أدري – قائلة: ولكن رفيقي سمح لي بها! قالتها بلغة عربية فصحى أيضاً.

كدتُ أطير فرحاً ودهشة وأنا أسمع جواب تلك الطفلة – ابنة الزعيم – تخاطب أباها بتلك النبرة المستقلة والكلمات الدقيقة. إنّه الزعيم إذن، يعلّم طفلته اللغة العربية الفصحى ولا يخاطبها إلّا بها، ومن المرجّح أنّي تمنّيت ولو في عقلي الباطن أن يسمع تلك الكلمات كلّ أولئك الذين يتّهمون سعاده ويتّهمون الحزب بمعاداة العروبة، وهم لا يعرفون كيف يعبّر واحدهم عن أبسط مطالبه اليومية بلغته المفترض أن تكون العربية، بل يستخدمون الفرنسية كلغة أم ويربّون أولادهم على تعلّم واستخدام أي لغة أجنبية – حتى ولو كانت لغة أهل موزمبيق أو بلاد واق واق، لأنّ اللغة العربية في نظرهم ليست لغة حضارة وتمدّن. حين عدت إلى حيفا، رويت قصة الطفلة صفية – ابنة الزعيم – والكاميرا إلى الكثيرين ممّن أعرف، وأذكر أيضاً أني كمذيع أشرت إليها في اجتماع للمديرية كبرهان على التوجيه التربوي الذي يجب أن نسلكه حتى مع أطفالنا وفي بيوتنا بشكل عام.

أعود إلى لقائي الأول ذاك بالزعيم، ولقد تلوت عليه في ضهور الشوير النصّ الذي حفظته في حيفا، وسمعت واستوعبت ردّ الزعيم وتوجيهاته بدقّة وبكلّ التفاصيل كما طلب. موضوع الرسالة الجواب يدور حول موقف القوميين في سوريا الجنوبية (فلسطين) تجاه الاستعدادات التي بدا أنّها تتهيّأ لصدام مع الصهاينة هناك. يجب على القوميين المشاركة في القتال – ذلك واجب قومي ووطني – ولكن ليس في صفوف الهيئة العربية العليا أو غيرها من منطلق أنّ ما يسيّر تلك الهيئات والتنظيمات هي الحوافز السياسية المنقسمة بين مصر والأردن، بين ملك مصر وملك الأردن. على القوميين أن يحاربوا ضمن وحداتهم الحزبية وليس ضمن الوحدات التابعة للتنظيمات الأخرى المحكومة سياسياً، والتي يمكن أن تواجه المتاعب والمواقف المتناقضة حسب التوجهات السياسية عند من يمسكون بزمام الأمور، وهي بدورها تخضع للمساومات والتسويات و... بوس اللحى. ذلك حتى لا يقع القوميون ضحية المؤامرات والاتفاقيات والتطبيقات السياسية التي كان واضحاً أنّها تجري على قدم وساق بسبب النزاع بين الملك فاروق في مصر والملك عبدالله في الأردن، وبسبب النزاعات بين دمشق وبغداد، وبخاصة تلك المتعلقة بالتعيينات في المراكز القيادية للثورة الفلسطينية المقبلة. إضافة إلى تلك الخلافات الكامنة وراء تعيين فوزي القاوقجي قائداً لجيش الإنقاذ أو تعيين شخص آخر يكون أقرب إلى هذا المحور أو ذاك.

المساومات بدأت قبل أن يبدأ القتال ضدّ اليهود وضدّ المخططات الصهيونية. أتذكّر اليوم أنّ الزعيم خلال الساعات القليلة التي سعدتُ بها آنذاك قد سرد عليّ نتفاً من قتال القوميين في ثورة عام 1936، كما ذكر بعض الأسماء التي لم أعد اليوم أتذكّر تفاصيلها ثم... كانت أوامر الزعيم التي سمعتها منه شخصياً وحرفياً أيضاً، ونقلتها إلى مسؤولي منفذية حيفا – كما طُلب مني – واضحة جداً: عليكم بالقتال، ولكن تحت راية الزوبعة وليس تحت رايات أخرى تخضع للمساومات والاتصالات السياسية والتكتيكية والتوجيهات الخارجية أيضاً.

لا أجزم أنّي أنقل هنا حرفياً ما قاله لي الزعيم، لكنني مقتنع أنّه يكاد يكون حرفياً: كان نظره مصوّباً إلى عينيّ وكأنّه أراد أن يزرع تلك الكلمات في عقلي حتى لا أنسى حرفاً واحداً ممّا يقول: " يا رفيق سليم، القومي الواعي يعرف تماماً ماذا يجب أن يفعل دون أن يتلقّى أمراً خطياً من الزعيم".


إلى الطابور... سر!

عدت إلى حيفا أحمل رسالة الزعيم الشفهية في ما يجب أن يكون عليه موقف القوميين هناك. وبدأ التدريب على قطع سلاح خفيف "لا يُسمن ولا يغني من جوع"، لكن الإرادة الصلبة والاقتناع بقداسة ما نقوم به أدّيا إلى عدّة عمليات عسكرية هزّت الصهاينة هناك، التدريب كان يتمّ نظرياً في البيوت – كيف نفكّ ونعيد تركيب قطعة الرشاش اليدوي، وعملياً بإطلاق النار عند سفح جبل الكرمل المطلّ على قرية الطيرة.

كنا نبحث دوماً عن أماكن بعيدة لكي نتدرّب على السلاح، وفي إحدى المرات رافقت منفذ عام حيفا – كميل جدع ومدير مديرية الزعيم – محمد شلبي، وإبراهيم ناصر(8) إلى قرية "بيت جن" في الشمال الفلسطيني لتفقّد القوميين فيها وبحث إمكانية التدرّب في جوارها.

في البداية، وكانت المهمات في حيفا تتلخّص بحراسة المنطقة، كل مديرية تتولّى حراسة منطقتها دون صخب وضجيج، ودون تدخّل في عمل التنظيمات الأخرى. ولكن كان من أبرز ما قام به قوميّو مديرية الزعيم التابعة لمنفذية حيفا نسف مبنى المطاحن الكبرى. لا أعرف التفاصيل ولم أطّلع عليها في حينها. كانت العملية سريّة للغاية، فلم يطّلع عليها إلا الذين كلّفوا القيام بها، لكنّني علمت بعضها في ما بعد من الحلقة التي نفّذت العملية: محمد شلبي وحمدوش وجميل عطية وعثمان دكناش، إلى جانب آخرين غير أعضاء في الحزب.


نسف المطاحن الكبرى:

كان هناك مواطنون لا يحاربون تحت راية اللجنة العربية العليا، لكن حماستهم واندفاعهم ووعيهم أو تقديرهم لما يقوم به أفراد من الحزب دفعهم إلى تأمين كمية من المتفجرات وُضعت تحت تصرّف الرفيق محمد شلبي الذي كان يشغل وظيفة إدارية عليا في مصلحة سكة الحديد، فاستعان بموظّف قومي في المصلحة نفسها يعمل سائق قاطرة اسمه حمد، وكنّا نناديه تحبّباً "حمدوش"، وكذلك تمّت الاستعانة بعدد من القوميين والمواطنين غير الحزبيين ممّن يعملون في سكة الحديد. وتولّى الرفيق فايز الزبن(9) إعداد ساعة تفجير وتمّ ضبطها على وقت محدّد.

جرى شحن المتفجرات في عربة قطار شحن، وهي عبارة عن "قازان" لنقل المحروقات، وكان أمراً عادياً أن تتمّ مناورة القطار من أجل إدخال عربات القمح إلى مبنى المطحنة التي تحوّلت إلى قلعة شاهقة يشرف القناصة اليهود منها على معظم أحياء المدينة وطرقاتها، فيمنعون عبورها ويقتلون العشرات من دون أن تكون هناك وسيلة لوقف تلك الاعتداءات إلّا بنسف المبنى، وهذا ما كان. فلقد تمّ تنفيذ الخطة حرفياً وبأعلى قدر من الدقة والنجاح، ونسف المبنى الشاهق الذي كان يحرم السكان العرب من الحركة أو السير على الطرقات بخاصة في شارع الناصرة ودوّار الملك فيصل ومنطقة وادي الصليب، حتى مبنى مصنع السغاير المعروف بِاسم "قرمان، ديك وسلطي".

كانت علاقتي شخصية بمحمد جميل يونس – منفذ عام عكا – وكنت أعرف العديد من أفراد عائلته كما أعرف والده الذي كان يمتلك متجراً لبيع الأقمشة. وهكذا، فإنّ علاقتي الشخصية بمنفذ عام عكا أتاحت لي الاطّلاع على الكثير من العمليات العسكرية التي تولّاها قوميون هناك. لا توجد في عكا مطاحن ومراكز قنّاصة لليهود، ولهذا كان القتال مختلفاً عمّا يحدث في حيفا أو غيرها. مشاركة القوميين في القتال كانت ضمن خطة التعرّض للقوافل اليهودية التي تعبر من الجنوب إلى الشمال، من حيفا ومستعمرة موتسكن بشكل خاص، إلى نهاريّا شمالاً.

وفي القدس لا يختلف الأمر إلّا من حيث العدد ونوعية أو حجم العمليات العسكرية التي يقوم بها قوميون اجتماعيون، قضت سياسة المحاور والتشرذم بحرمانهم من السلاح فلم يبقَ امامهم إلّا الاعتماد على أنفسهم وعلى جيوبهم وما يستطيعون تدبيره من سلاح بسيط لا قدرة له على الصمود أمام السلاح الحديث والمتطوّر في أيدي اليهود.

أكثر من مرة قمت مع عدد من رفاقي بنقل أسلحة خفيفة اشتريناها بأموالنا الخاصة، من لبنان إلى فلسطين. ولكن المدّعي العام – يوسف شربل لم يخجل أن يقول إنّ الحزب كان ينقل السلاح من فلسطين، حيث يجب مواجهة اليهود، إلى لبنان للقيام بتدميره ونسف استقراره. المثل الشعبي يقول: اللي استحوا ماتوا!

شيء واحد تمّ نقله من فلسطين إلى لبنان – لم يكن سلاحاً بل جهاز إذاعة لاسلكي نقّال أعدّه الرفيق المناضل فايز زبن، وكان خبيراً في مثل هذه الأمور، وقد شارك في نقل هذا الجهاز عن طريق البحر عدد من الرفقاء من فلسطين ولبنان، أعرف منهم إبراهيم ناصر. وكان الجهاز ليوضع في تصرّف الحزب لمواجهة الحملة الحكومية آنذاك، ولا أعرف إن تمّ تشغيله في لبنان أم لا.


هوامش

(1) محمود حسونة: لا معلومات لدينا عنه. نأمل ممن عرفه ان يفيدنا عنه.

(2) محمد شلبي: للإطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول إلى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info .

(3) كميل جدع: كما اعلاه

(4) جميل عطية: لا معلومات لدينا عنه. نأمل ممن عرفه ان يفيدنا عنه.

(5) توفيق زغلول: كما آنفاً.

(6) عثمان عيد: كما آنفاً.

(7) فكتور أسعد: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.

(8) إبراهيم ناصر: كما آنفاً.

(9) فايز الزبن: شارك في الثورة القومية الاجتماعية، وقد نشرنا ان الاسم هو "فايز الزبن" (بالباء) لا "فايز الزين" (بالياء) كما ورد الاسم في اكثر من مناسبة.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024