في خطاب لافت في كانون الأول 2014 في جامعة الأزهر دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى «ثورة» في الإسلام. تلتقي هذه الدعوة مع دعوات للعديد من المطالبين بتغيير ما في «الإسلام»، خصوصاً بعد أن عمّت أعمال «الدولة الإسلامية» في بلاد الشام والرافدين وفي الخارج الفضاء الإعلامي وما أعطت من صورة مشوّهة عن الإسلام في شكل وكأنه مقصود ومدروس. فالمسلم الذي يعيش في الغرب في شكل عام يُنظر إليه كإرهابي هاوٍ للقتل وصاحب «ثقافة الموت»، وأن الفكر الذي تحمله «الدولة الإسلامية» هو ما تؤمن به أكثرية المسلمين. طبعاً هذا غير صحيح ولكن قوّة الاندفاع الإعلامي طغت على يقين الموضوع. من جهة أخرى رافقت أعمال المجموعات المتطرّفة دعوات من قبل مثقّفين عرب ومسلمين يدعون فيها إلى قطيعة مع التراث كحلّ للخروج من المأزق الذي وقعت فيه المجتمعات العربية وكأن أقوال وأعمال المتطرّفين هدفها إيجاد تلك الدعوات!
ليست هذه الحالة من التطرّف الموجودة في بعض الأوساط الإسلامية جديدة في تاريخ الأمة. فقد شهدت الأمة موجات من التطرّف إثر تراجع الدولة المركزية أمام الغزوات الخارجية، من حملات الفرنج إلى غزوات المغول إلى انحطاط الحكم المركزي إلى الحقبة الاستعمارية في القرن التاسع عشر والعشرين. فظهرت دعوات هدفها شدّ العصب والعودة إلى الأصول. ليس هدفنا تبرير أي حركة تطرّف، بل العكس، فهي محاولة فقط لفهم تلك الظاهرة التي تنشب من حين إلى آخر. وهذه الظاهرة، أي ظاهرة «داعش»، التي اعتمدت ثقافة العنف كترويج لقوة مزعومة واصطناعية كما يفعل الغرب في شكل مبرمج ومدروس في أفلامه وصادراته «الثقافية»، مع بعض التبريرات المغرضة المبنية على اجتهادات خارج سياقها وفي كثيرها غير صحيحة. فهذه الظاهرة تعمل وكأن مهمتها خدمة الغرب والكيان الصهيوني وتشويه وتدمير الإسلام! وهذا ما لا يمكننا القبول به شكلاً ومضموناً لا من الناحية الأخلاقية والإنسانية ولا من الناحية الموضوعية ناهيك عن الناحية الشرعية.
كما أن هذه الأمة التي واجهت منذ اللحظات الأولى حملات عسكرية حاولت تكسيرها والقضاء عليها لكن قوة الدعوة الإسلامية والفكر الذي حملته جعلته ينتصر على أعدائها. فعلى رغم كل شيء أصبح عدد المسلمين يفوق المليار ونصف من البشر. ألم يسأل المشكّكون بالإسلام لماذا استمرّ الإسلام بالانتشار على رغم احتلال دار الإسلام من قوى الاستعمار لفترات طويلة، بل العكس زاد العدد فيهم!؟ والإجابة على ذلك بسيط: انتشر الإسلام في العالم وما زال لأنه دخل العقل والقلب مثل الريح العطر تماشياً مع الفطرة الإنسانية! ففي آخر المطاف فكل ما هو خارج عن الفطرة في الإسلام لن يدوم والاستعمار مثل التطرّف الذي يخلقه لن يدوم!
فلا يجب أن نخلط بين أسباب تراجع المجتمعات الإسلامية وبين الفكر الديني بغض النظر عن صواب بعض الطروحات أو عدمها بل إن أسباب التراجع تعود إلى أسباب موضوعية كتغيير في موازين القوى ولطبيعة حركة الحضارات التي تنمو وتزدهر ثم تتراجع. نتمنّى على القارئ إعادة قراءة العلاّمة ابن خلدون فهو عصري بكل معنى الكلمة للعصرنة! واللافت للنظر أن التراجع في القوة السياسية والاقتصادية والثقافية لم يرافقها تراجع في الدين بينما الحضارات الأخرى التي سبقت الحضارة العربية الإسلامية تراجعت ومعها كل مقوّماتها الفكرية والروحية. ألم تنهار الدولة الرومانية التي اعتنقت المسيحية ولكنها انهارت تحت ضربات البرابرة وتراجعت معها الكنيسة الكاثوليكية فازدهرت مذاهب مسيحية مناهضة للعقيدة المركزية للكنيسة الكاثوليكية كالآريوسية في غرب أوروبا وشمال أفريقيا مما سهل انتشار الدعوة الإسلامية فيها لما فيها تقارب معها في العديد من المعتقدات؟
بعض المسلمين المتغرّبين يعتبر أن الإسلام عائق للنمو وبخاصة النمو الرأس المالي. ويذهبون في دعم نظريتهم إلى الآيات القرآنية التي تحدّد توزيع الإرث وتساهم في تفتيته على الوارثين بينما في أوروبا كانت قاعدة البكرية هي التي تجمّع الإرث في يد بكرية الأولاد وتساهم في تنمية الثروة ورأس المال. كما أن التشريعات المنبثقة من الشريعة الإسلامية التي تحدّد طبيعة العلاقات التجارية بين الأطراف لم تتطوّر بما يكفي لتواكب التقدّم في العلاقات والتبادل التجاري. هذه الأطروحات المغرضة تحاول أن تضع اللوم على جوهر الدين وأن التطوّر الاقتصادي لا بد من أن ينفض عن كاهله العبء الديني. نعتقد أن هؤلاء لم يفهموا جوهر الإسلام. فالإسلام ليس معنياً بتنمية الثروة بمقدار ما هو معني بتوزيعها العادل. فآيات الإرث في القرآن الكريم تهدف إلى عدم إيجاد البنية التي تساهم في تمركز الثروة في يد القلّة بل لتوزيعها على مروحة واسعة من المستفيدين من الأقربين والجار وابن السبيل.
وهناك آيات تهدف إلى التنديد بالاكتناز وتدعو إلى الإنفاق سواء كزكاة أو عمل خير. فجوهر الزكاة هو التنمية وليس فقط الإحسان! وعلى المؤمن أن ينفق بعد ما أن أشبع حاجاته. فالآية الكريمة تقول: «ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو» والعفو هو كل ما يفوق الحاجة. أي يمكن القول إن القرآن أرسخ قاعدة الإنفاق في سيبل النمو منذ أربعة عشر قرناً! فقد كان سبّاقاً لنظرية جون مينارد كينز الذي لم يكتشف تلك القاعدة إلاّ في الثلاثينات من القرن الماضي! كل ذلك لم يمنع المسلمين من خلق حضارة ومعرفة وازدهار ما زال العالم حتى اليوم مستفيداً منها. ويبقى السؤال لماذا تراجع المسلمون؟ سؤال سبقنا فيه العديد من المفكّرين كالأمير شكيب أرسلان وما زلنا نبحث عن حلول نابعة من واقعنا وليست مستوردة! فاستيراد الحلول والأفكار من دون إخضاعها للتدقيق والتمحيص غير مفيد بل مدمّر كنظرية «الديمقراطية» في مجتمعات فئوية ريعية مثلاً!
إذاً، ليس الدين عائقاً في وجه النمو والتنمية بل العكس وإلاّ لما كانت حضارة وازدهار على مدى القرون. والتركيز على العدالة في توزيع الثروة دلالة على الوعي الاجتماعي المفقود في الحضارة الغربية الحديثة حيث أُجبرت الدولة الحديثة على تقديم الخدمات الاجتماعية لأن لو تركت الأمور لخاطر الفعّاليات الاقتصادية والسياسية لزاد التناقض بين مكوّنات المجتمع. والدعوات الحديثة عند المحافظين في الغرب لتفكيك دولة الرعاية على قاعدة حجج واهية ليست إلاّ نتيجة عن ثقافة الجشع تحت راية «الحرّية» للفرد. على كل حال هذا موضوع يحتاج إلى بحث معمّق ولكن أشرنا إليه من باب التأكيد أن النموذج الغربي ليس بالضرورة ذلك الحل المثالي أو الناجع لمجتمعاتنا. فالنموذج الغربي يعاني من مشاكل بنيوية وأخلاقية من الصعب أن يخرج منها بسهولة.
فإذا كان الإسلام غير مسؤول عن التخلّف الاقتصادي فعمّ هو مسؤول؟ يعتقد العديد من المثقّفين المتغرّبين أن الإسلام مرتبط بثقافة العنف ويستندون بذلك إلى ما يقوله المتطرّفون. وهذه مفارقة مأسوية حيث المتشدّقون بالحداثة يلجأون إلى بعض الكتابات والاجتهادات التي لا تشكلّ أي نوع من الإجماع عند المسلمين. فتعميم بعض الأحكام والاجتهادات المغرضة على الدين كله أكثر من مغالطة بل افتراء. ففي هذا السياق هناك آيات قرآنية تسمح بالقتال ولكن تحت حجة الدفاع عن النفس ورد الاعتداء وقتال الأعداء بمثل ما يقاتلون المسلمين! لا يسمح القرآن مطلقاً بالاعتداء على الآخرين ولا التنكيل بالأسير. فإذا تمّ تحريف بعض الآيات فهذا لا يعني أن الدين مصاب جزئياً أو بكامله وأن الدعوة لتغيير ما بسبب «العنف» لا جدوى لها لأن موضوعها لا يستلزم ذلك. فهل يريد المثقّفون المتغرّبون نزع مقوّمات الدفاع في الإسلام؟
نلفت النظر هنا إلى دراسة أعدتها مؤسسة راند كوربوريشن عام 2004 وحرّرتها شيرل بينار، وهي زوجة زلمان خليل زاد أحد قادة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. جاء في هذه الدراسة حول كيفية التعامل مع القوى الإسلامية ووضعت استراتيجية متعدّدة الأبعاد هدفها «خلع مخالب» الإسلام. فهل هو ذلك هدف المثقفين المتغرّبين؟
لم يسأل المتغرّبون لماذا صدى الدعوات التي يصنّفونها «أصولية» أو «متطرّفة» كبير عند شرائح واسعة من المسلمين؟ لماذا لا يعتبرون تلك الدعوات تعبيراً عن إحباط وشعور بالاستهداف والتهميش؟ هذا لا يعني الموافقة على أساليب التعبير عن الإحباط والتهميش ولكن علينا واجب فهم والبحث عن الأسباب؟ من جهة أخرى لماذا يتجاهل المتغرّبون دور المال النفطي في تغذية وترويج تلك الأفكار المشوّهة ونسبها إلى «إسلام صحيح» إن لم يكن «الإسلام الصحيح الوحيد» عندهم؟ المسلمون في شكل عام وبعض المسلمين المتنفّذين في شكل خاص مسؤولون عما يتمّ من تحريف للنصوص. ألم يحذّر القرآن الكريم في آية كريمة الذين يحرّفون ما أُنزل إليهم؟: «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون» البقرة 79 .
يبقى الهاجس الكبير عند المتغرّبين وهو فقه المرأة الذي يقيّمونه بما يحدث في الغرب. والسؤال البديهي هو مشروعية تلك المقاربة مع الغرب وهل النموذج الغربي هو المطلوب؟ ولكن نعتبر أن فقه المرأة بحاجة إلى مراجعة وفقاً لقراءات عصرية للنص القرآني وللحديث. فطبيعة المجتمعات العصرية مختلفة عن المجتمعات في القرون الماضية، منها إمكانية المرآة إعالة نفسها. فاستقلال المرآة اقتصادياً يزعج العديد فيعتبرونه تهديداً للقوّامة الذكورية التي نعتبر التفسيرات لها المروّجة بحاجة إلى إعادة النظر. ليس هنا المجال للخوض في سجال فقهي وفكري بل نشير أن هناك العديد من الباحثين المسلمين تطرّقوا إلى ذلك الموضوع وحاولوا إيجاد الحلول التي تتناسب مع جوهر العقيدة ومقتضيات العصر. لكن نطرح سؤالاً نعتبره جوهرياً: هل من الممكن إعادة النظر في فقه المرآة من دون المسّ بالهيكلية العامة للأحكام؟ وهل يمكن إحداث مراجعة أو تغيير «الا كارت» أي في شكل انتقائي؟ هذه من بعض المعضلات ولا نعتقد أن «القطيعة الكاملة» هي الحل؟ فالقطيعة هي نوع من الهروب من مواجهة المعضلات وتدّل عن كسل فكري هروباً من مسؤولية المواجهة وبالتالي عن انحطاط أخلاقي.
على كل حال نسأل الذين يدعون إلى «مراجعة» أو «إصلاح» أو «ثورة» في الإسلام أن يحدّدوا ماذا يقصدون ولا يكتفون بعناوين فضفاضة لا تعني شيئاً. لم نجد في معظم الأدبيات التي تتناول موضوع «المراجعة» أو «الإصلاح» أو «الثورة» ما يمكن مناقشته. فترداد أقوال عن المزيد من «الحرّية» أو «تمكين المرأة» لا تسمن ولا تغني عن جوع لأن النص الديني يحفظ حرّية الإنسان وإلاّ كيف يتم التكليف من دون الحرّية. كما أنه يصون حقوق المرأة وفقاً لقراءات معاصرة يمكن اعتمادها. أما عن العنف فلماذا لا يتكلّمون عن العنف الموجود في العهد القديم وبخاصة سفر اللاويين؟ وكيف لا يتكلّمون في العهد الجديد في كتاب «تجلّي نهاية العالم» عن ضرورة مقاومة الوحش الذي سيحاول القضاء على البشرية في معركة ارم جدون؟ وماذا عن بعض المتطرّفين الذين يعتبرون ذلك الوحش هو القرآن الكريم؟ ولماذا لا يتكّلمون عن محاكم التفتيش في عصر النهضة الأوروبية واستعباد الأفارقة بحجة أنهم أحفاد حام المغضوب عليه وابن سيدّنا نوح؟ ولماذا لا يتألمون عن الملايين الذي قتلهم الاحتلال الأميركي للعراق ولا عن قتل الفلسطينيين على يد الصهاينة؟ من أدخل الإرهاب إلى المنطقة سوى العصابات الصهيونية؟ فالكيان الصهيوني مدين بوجوده إلى الإرهاب ولا ينتعش إلاّ بالإرهاب!
وهل غابت العنصرية في الغرب؟ كما هل تجاوز الغرب الدين في دعواته «العلمانية»؟ فلماذا تم رفض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سواء الانتماء التركي للإسلام؟ ولماذا يكتب على الدولار الأميركي: توكّلنا على الله» بينما ينصّ الدستور الأميركي على فصل الكنيسة عن الدولة؟ فعن أي «علمانية» يتكلّمون؟ فلماذا يصرّون على إجراء «مراجعة» أو «إصلاح» أو «ثورة» في الإسلام بينما ما زالوا مكبّلين بكبائر أخلاقية واجتماعية؟
وأخيراً نقول للذين يدعون إلى «ثورة» في الإسلام هل تريدون تدمير المجتمعات الإسلامية عبر حروب أهلية كما جرى في الغرب في القرن السادس والسابع عشر؟ هل قتل المسلمين هو ثمن «المراجعة» أو «الإصلاح» أو «الثورة»؟ لذلك نتمنّى على الذين يدعون إلى «مراجعة» أو «إصلاح» أو «ثورة» في الإسلام أن يكونوا أكثر دقة ومعرفة بالدين وبخاصة بالقرآن الكريم بدلاً من ترويج أفكار جاءت من الغرب لتدمّر مجتمعاتنا وثقافتنا.
|