في كلّ سنة مثل هذا اليوم يحتفل الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلّة وفي الشتات بـ «يوم الأرض». لكن هذه السنة يحمل ذلك الاحتفال نكهة مختلفة عن السنوات الماضية، علماً أنّ تلك السنوات مهّدت لظهور تلك النكهة.
فهذه السنوات الأخيرة، شهدت تحوّلات جذرية في ميزان الصراع مع الكيان الصهيوني. وهذه التحوّلات تمثّلت بعناد الشعب «الجبّار»، وهذه وصفة الرئيس الشهيد قائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات، الرافض للاستسلام ولمشاريع التسوية كافة، رغم الانحرافات التي أصابت عدداً من محطات السلوك والمواقف القيادية الفلسطينية، منها التنسيق الأمني مع الاحتلال. فالانتفاضة الفلسطينية ما زالت قائمة وإنْ تعدّدت وتائر حدّتها إلاّ أنها تظهر يوماً بعد يوم حيوية وإبداع وعبقرية هذا الشعب في مقاومة احتلال تدعمه الولايات المتحدة والغرب بشكل عام والآن بعض الدول العربية.
هذا الشعب الذي ابتدع سلاحاً لم يستطع العدو جمعه بدءاً بالحجارة ومروراً بالبنادق والصواريخ، وعندما تعذّرت الأخيرة بسبب التنسيق الأمني مع الكيان، فلجأ إلى السكاكين ثم اكتشف الأمعاء الخاوية وصولاً إلى الصفعات المدوية التي تلقّنها فتيات وصبايا فلسطين لجنود الاحتلال. واليوم يلوح بالأفق سلاح العصيان المدني الذي سيشلّ الكيان ويشوّه صورته في العالم دون أن يستطيع شيئاً لمنعه. فهو غارق في فضائح فساد قيادته وانسداد آفاقه السياسية رغم الثغرات التي تشكّلها بعض الحكومات العربية التي لم تكتف بالتطبيع، بل هرولت إلى التحالف معه.
النكهة تعود أيضاً إلى تحوّلات ميدانية في المسرح السوري حيث العدوان الكوني على سورية جعل «الأرض» أيضاً هناك مدخلاً للصمود ولدحر الأشكال المتعدّدة للعدوان سواء على يد جماعات التعصّب والغلو والتوحّش أو عبر احتلالات غير مشروعة لأراضٍ سورية من قبل قيادة حلف الأطلسي وبعض أعضائه. فقرار الرئيس الأميركي بقرب «الانسحاب من سورية وترك الأمور لغيرها» هو إقرار بالهزيمة مما ينعكس باندفاعة نوعية لذكرى إحياء «يوم الأرض» في فلسطين. فإحياء ذلك «اليوم» هو تمهيد لإحياء ما سيكون أكبر وأهمّ من ذلك كلّه، وهو التحرير الكامل من الاحتلال وعودة الفلسطينيين في الشتات إلى بلادهم. قد لا يكون ذلك اليوم غداً أو بعد غد، ولكنه أصبح قريب المنال بل نكهته أصبحت في الهواء الذي نشتمّ.
ولا نتكلّم من باب التفاؤل، بل من يقين قناعتنا وتحليلنا للوقائع وللتحوّلات في موازين القوّة لصالح خيار المقاومة فالتحرير. لم تعُد تنفع كافة التهديدات العبثية لكيان غاصب ومن يقف معه دولياً وعربياً، بل أصبحت ظواهر صوتية تدلّ على عجز أكثر مما تدلّ على قدرة. فالطفلة عهد التميمي التي صفعت الجندي الصهيوني في منزلها صفعت الكيان بأكمله. لم يستطع الكيان إنزال العقوبات التي كان يتوعّدها من اغتصاب وقتل في الظلام كما صرّح أحد وزراء الكيان أو سجنها لعشرات السنين، وذلك بسبب الضغوط الدولية عليه بعد إطلاق حملات التضامن العربية والدولية مع الفتاة البطلة. فالمزاج الدولي الذي كان يعتمد عليه الكيان لم يعد لصالحه. كما أن في الولايات المتحدة تحوّل مزاج الشباب اليهودي الأميركي إلى عداء لسياسات الكيان ما أقلق قادته وقادة الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، رغم احتلال اللوبي الصهيوني قرار الكونغرس الأميركي. فهذه معارك يخسرها الكيان الصهيوني تدريجياً، وإن ربحها في بعض الحالات، فهي بعد كلفة باهظة لن يسترجعها. ما زالت مظاهر القوة الداعمة للكيان الصهيوني في الإعلام المهيمن الأميركي موجودة، لكن مصداقية ذلك الإعلام تتآكل يوماً بعد يوم لصالح إعلام بديل يلقي الأضواء على الفظائع التي يرتكبها الكيان.
في يوم الأرض يبدو أن المشهد الدولي قد تغيّر إلى لا رجعة. فالهيمنة الأميركية لم تعُد واقعاً وقدراً على العالم، رغم مظاهر الزعيق والتهويل بالويل والثبور وعظائم الأمور. تغيّر ميزان القوّة بسبب صمود الشعب الفلسطيني أولاً، وبسبب ثبات محور المقاومة، وبسبب وجود تحالفات في ذلك المحور مع دول صاعدة أصبحت تفرض تفوّقها السياسي والاقتصادي ومؤخّراً العسكري على ميزان القوّة العالمي. وثبوت محور المقاومة بدأ بإيقاف المشروع الأميركي في العراق، وثمة في لبنان وغزّة، واليوم في سورية، وغداً في اليمن وليبيا. فلسطين تستنهض الأمة والأمة تتجاوب معها رغم المشكّكين و«الواقعيين» والمتغرّبين والمتنكّرين للذات العربية.
|