نتائج الانتخابات الأميركية كانت بمثابة زلزال هزّ مرتكزات العمل السياسي في الولايات المتحدة بعدما تحدّثت النخب المتحكّمة بحتمية فوز بنت المؤسسة الحاكمة هيلاري كلينتون. وانتخاب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض يوازي في الأهمية التصويت البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي وما يمكن أن يرافقهما من تغيّرات في موازين القوة على صعيد العلاقات الدولية. هذا إذا ما كتب للمملكة المتحدة الخروج نهائياً من الاتحاد الأوروبي دون أيّ عائق قانوني داخلي، وإذا ما سُمح للرئيس المنتخب ترامب بتحقيق كلّ أو بعض القضايا على أجندته السياسية. فالرئيس المنتخب يأتي بتوجّهات مختلفة عن توجّهات النخب الحاكمة ويبقى السؤال من يستسلم لمن؟
فمع انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة طُويت صفحة يعتبرها المراقبون الأميركيون من أسوأ الحملات الانتخابية التي مرّت بها البلاد وإنْ لم تكن الأولى. فالحملة التي اتسمت بتبادل الشتائم والتهم وتجنّبت مقاربة القضايا الوطنية والخارجية تدلّ على مستوى ترهّل النظام السياسي القائم الذي لا يفرز إلاّ نوعيات رديئة في العلم والخبرة والأخلاق. لذلك سيكتشف الرئيس المنتخب صعوبة كبيرة في تنفيذ أجندته إنْ لم يأخذ بعين الاعتبار اهتمامات خصومه داخل الحزب الحاكم وداخل حزب الحرب المهيمن على مقدّرات البلاد، وإنْ كانت حملته تمرّداً على كلّ ذلك.
في مطلق الأحوال جاءت النتائج لتؤكّد عدّة حقائق كنّا قد أشرنا إليها سابقاً. أولى هذه الحقائق هي استمرار تدنّي مستوى المرشّحين وعدم اكتراثهم لهموم المواطنين مما أثار نقمة الجمهور الأميركي. فالانتخابات التمهيدية والانتخابات العامة شهدت تمرّداً للجمهور الأميركي على نخبه الحاكمة. تعدّدت الأسباب التي لا داعي لسردها الآن، إلاّ أنها تعبّر عن ضرورة إصلاح النظام السياسي بشكل يأتي بمسؤولين يعملون لصالح الجمهور الأميركي وليس لصالح المصالح الخاصة. فهذه الانتفاضة سمّاها المرشح سندرز بـ «الثورة» بينما حملة ترامب كانت مركزة ضدّ رموز الحزب الجمهوري التقليدي فكانت بمثابة ثورة شخص استطاع أن يعبّر عن غضب القاعدة.
الحقيقة الثانية هي تكريس هزيمة عدد من القوى التي كانت وما زالت تتصدّر المشهد السياسي على مختلف الأصعدة. فالهزيمة طالت أولاً النخب المتحكّمة بالحزبين السياسيين اللذين يتصدّران المشهد السياسي منذ بداية الدولة الفتية في أواخر القرن الثامن عشر. الانتخابات التمهيدية عند الحزب الديمقراطي شهدت ثورة قاعدة الناخبين الشباب وقاعدة العمّال والقوى الكادحة على قياداتها التقليدية إلاّ أنّ النخب المتحكّمة بالحزب استطاعت تزوير العملية الانتخابية وتجييرها لمصلحة بنت المؤسسة الحاكمة وممثلتها هيلاري كلينتون. إنّ جمهور برني سندرز لم يرق له أن يساند قائد الحملة الإصلاحية مرشّحة المؤسسة الحاكمة فكان تحوّل قسط من القاعدة للتصويت لدونالد ترامب أو عدم التصويت. لم تنل هيلاري كلينتون أكثر من 55 بالمائة من أصوات الشباب بينما نال الرئيس أوباما في الانتخابات الماضية ما يوازي 80 بالمائة من أصواتهم. أما على صعيد الحزب الجمهوري فاستطاع دونالد ترامب أن يطيح برموز الحزب الجمهوري المتحكّمة خلال الحملة التمهيدية. والجدير بالذكر أنّ النخب في الحزب الجمهوري تجنّبت إلى حدّ كبير المساندة العلنية لدونالد ترامب لما يجلب الأخير من انتقادات حول شخصه وتصريحاته المثيرة والعنصرية والمهينة بحق المرأة. ففوز ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض يشكل أيضاً هزيمة لهذه النخب.
القوة الأخرى التي هُزمت هو الإعلام المهيمن الذي كان مؤيداً بشكل سافر لهيلاري كلينتون ومعادياً لدونالد ترامب. فصحف مرموقة كـ»واشنطن بوست» و»نيويورك تايمز» و»لوس انجلس تايمز» والمحطاّت التلفزيونية الكبرى كـ «سي أن أن» و»أن بي سي» و»أي بي سي» و»سي بي أس» مُنيت بهزيمة نكراء. فتغطيتها للحملة الانتخابية كانت فاقدة للحدّ الأدنى من الموضوعية ومركّزة على التصريحات المثيرة لترامب ومتجاهلة لإخفاقات وفضائح هيلاري كلينتون. والجدير بالذكر أنّ أكثر من 90 بالمائة من الإعلام الأميركي تملكه فقط ست شركات عملاقة. فارق الفوز عند دونالد ترامب لافت للنظر ويؤكّد إما عدم معرفة الإعلام بواقع المشهد الشعبي أو أنه متواطئ مع مصالح المؤسسات المالية والمجمع العسكري الصناعي والأمني الذي يملكه أو يسيطر عليه والذي لا يكترث لواقع الشعب.
الفريق الآخر الذي مُني بالهزيمة هو سقوط مؤسسة استطلاعات الرأي العام التي كان يروّجها الإعلام المهيمن. وتأتي هذه الهزيمة في أعقاب إخفاقات كبرى في التنبّؤ في العديد من الاستحقاقات المفصلية ليس فقط في الولايات المتحدة بل في مختلف أنحاء العالم، كالإخفاق في توقّع فوز حزب المحافظين في المملكة المتحدة، أو فوز نتنياهو في الكيان، أو التصويت البريطاني على الخروج من الاتحاد الاوروبي أو البقاء فيه. هذا يدلّ إما على عدم مهنية أو معرفة في إجراء الاستطلاعات أو على «لغم» الاستطلاع للمجيء بنتائج تدعم الأهداف المعلنة أو غير المعلنة لصاحب الاستطلاع. ومن كان يتابع بدقة الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية منذ بدايتها وكان على تواصل على الأرض وخارج وصاية الإعلام المهيمن وجد منذ البداية أنّ تلك الاستطلاعات مغلوطة ومضلّلة ولا تعكس مدى التجاوب الشعبي الفعلي على الأرض مع المرشحين. فبينما كانت الحشود الانتخابية للمرشح ترامب بعشرات الآلاف كانت الحشود لصالح المرشحة كلينتون لا تتجاوز المئات، أيّ التجاوب الشعبي كان لصالح ترامب وليس لصالح كلينتون. حاول الإعلام الإيحاء بأنّ المعركة محسومة حتى جاهر بالتحسّر على مستقبل ترامب بعد هزيمته الحتمية! فمن شاهد المعلّقين على الشبكات الرئيسية الأميركية لدى الفرز لاحظ مدى إحباطهم وخيبة أملهم. المحطة الوحيدة التي حافظت على توازنها في التغطية كانت محطة «أر تي» روسيا اليوم!
في خانة المهزومين أيضاً كان اللوبي الصهيوني الذي دعم بقوّة حملة هيلاري كلينتون. هذه هي الهزيمة الثانية المتتالية لذلك اللوبي في الانتخابات الأميركية بعد إخفاقه في دعم ميت رومني ضدّ باراك أوباما مما يعني أنّ نفوذ اللوبي لا يتعدّى النخب الحاكمة والمتحكّمة ولا يصل إلى القاعدة الكبرى من الجمهور الأميركي. الجالية اليهودية صوّتت لهيلاري كلينتون ولكن اللوبي الصهيوني لم يستطع أن يجنّد أكثر من ذلك. استطاع ترامب تجاوز نفوذ اللوبي عبر مخاطبته المباشرة للجمهور الأميركي ومحاكاة همومهم بينما اكتفت كلينتون بترداد الشعارات التي لم تعن شيئاً لذلك الجمهور إضافة إلى فقدان الثقة بالمؤسسة الحاكمة.
كذلك في خانة المهزومين في هذه الحملة بعض الدول العربية التي كانت تراهن أيضاً على هيلاري كلينتون، فدعمتها مالياً، كما كشفت تسريبات «ويكيليكس» والتي أكّدت على التواصل المالي مع مؤسسة كلينتون، فأصبحت محور ملاحقة من مكتب التحقيق الاتحادي اف بي أي .
الحقيقة الثالثة هي ترابط البيوت المالية والنخب الحاكمة. فالأسواق المالية أبدت استياءها عند فرز الأصوات من النتائج الوافدة التي كانت تشير منذ بدايتها إلى إمكانية فوز ترامب، فشهدت انخفاضات كبيرة في التعامل المستقبلي. فعلى ما يبدو هناك حدود لما يستطيع أن يقوم به المال المؤسّسي، أيّ بيوت المال، في توجيه الرأي العام والمجيء بأشخاص ينفّذون أجندتهم بدون مسائلة ومحاسبة. هذا لا يعني أنّ دونالد ترامب سيكون بعيداً عنها، فهو رجل أعمال أولاً وأخيراً وبحاجة إلى المؤسسات المالية، لكنه ليس مديناً لهم بالوصول إلى البيت الأبيض.
الحقيقة الرابعة هي أنّ الشعب متفوّق على النخب الحاكمة و/أو الطامحة إلى الحكم. فحسّ الجماهير أقوى من آلة الإقناع التي تشكّلها الدعاية والمال. فلا الإعلام ولا استطلاعات الرأي العام ولا النخب الحاكمة في الأهمية التي يعتقد العديد من المراقبين والمحلّلين. الانتخابات الأميركية الأخيرة قلبت رأسا على كعب قوانين اللعبة السياسية وخطورة الاستهتار برأي الشعب.
الحقيقة الخامسة هي انتصار وسائل التواصل الاجتماعي في تعبئة وتنظيم وتنفيذ الحملة الانتخابية على مقولة ضرورة التنظيم على الأرض. فعلى ما يبدو استفاد ترامب من دروس الحراك الشعبي العربي في مطلع هذا العقد وطبّق نتائجه! استطاع ترامب عبر وسائل التواصل الاجتماعي التفوّق على الآلة التنظيمية للمرشحة هيلاري كلينتون. فالإعلام المهيمن لم يستطع أن يغيّر الرأي العام بشكل ملموس لأنه تجاهل عمق الغضب والحنق وحتى الخوف عند الناخب الأبيض الأميركي. الإعلام المهيمن ركّز على أهمية الأقليّات وتناسى دور الأكثرية وحنقها. فدفعت هيلاري كلينتون ثمن الاستهتار برأي الأكثرية. ربما هناك عبرة لمن يعمل بالشأن العام في لبنان والوطن العربي!
أما على صعيد التداعيات فما زال من المبكر تحديدها لتعقيد وتركيب المشهد على الصعيد الداخلي والخارجي. كما أنّ الرئيس المنتخب لم يحدّد من هو فريق عمله في الحكم وكيف سيتعامل مع النتائج لفوزه وكيف سيتعامل مع سلوك خصومه بعد المعركة. فحزب الحرب في الإدارة الأميركية، والذي اختطف الدولة العميقة، لن يستسلم بسهولة للواقع الجديد الذي يمثله ترامب. فهو يسيطر على كافة مفاصل الإدارة ويستطيع إما تسهيل أو إفشال أيّ قرار للرئيس المنتخب. لذلك سيحاول الحزب في المرحلة الأولى استقطاب ترامب عبر الترغيب وإذا فشل سيلجأ إلى الترهيب. ليس من السهل لحزب الحرب أن يسلّم بالهزيمة أو أن يخرجه عن أهدافه. فعلى سبيل المثال، التزم ترامب بزيادة النفقات العسكرية لتقوية القوّات المسلّحة. لم يحدّد من اين سيتمّ التمويل وإنْ كان في رأينا سيكون على حساب انتشار القواعد العسكرية. فهذه القواعد تستنزف القدرات المالية دون أن تزيد في الفعّالية العسكرية بل العكس فهي تزيد من خطورة الانكشاف لدى خصوم الولايات المتحدة في مختلف مناطق العالم. كما أنّ نفقات التسليح تعطى للشركات الخاصة التي تصنّعها وإنْ كان همّها الأول هو الربح وليس الجدوى العسكرية والفعّالية. فكيف سيتعامل ترامب مع حزب الحرب؟ هناك مقولة لجوليان أسانج صاحب موقع «ويكيليكس» وهي أنه لن يُسمح لترامب بالفوز، ما يعني حتى لو فاز فإنّ المؤسسة الحاكمة، أيّ حزب الحرب، سيجهد إما لإفشاله أو إزاحته. والله أعلم!
لكن بشكل عام فإذا ترك الأمر للرئيس المنتخب أن يعمل وفقاً لأجندته فإنّ محور اهتمامه سيكون الشأن الداخلي. أما على الصعيد الخارجي فالواقعية السياسية هي التي ستكون سيّدة الموقف، وليست التوجّهات العقائدية للمحافظين الجدد أو أصحاب التدخّل الليبرالي. لذلك ستكون خلفية التوجه نحو الانكفاء الأميركي حتى تتمّ إعادة بناء عناصر القوة في الولايات المتحدة. هذا معنى شعاره «لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى»، الذي هو اعتراف واضح بالضعف الحالي.
|