إقدام رئيس الحكومة على تقديم استقالته في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بعد اثني عشر يوم على بدء الانتفاضة الشعبية يشكل محطة مفصلية في مسارها. تلك الانتفاضة الشعبية النموذجية في تاريخ لبنان المعاصر شكّلت نقلة نوعية في التعاطي الشعبي مع تفاقم الأوضاع المعيشية في لبنان الناتجة عن خيارات وسياسات خاطئة ومدمّرة بل عبثية اتبعتها النخب الحاكمة منذ البدء بالعمل باتفاقية الطائف. لسنا هنا في معرض مقاربة تلك الخيارات السياسية والخيارات الاقتصادية التي هي في الأساس سياسية ولأنها تمّت مقاربتها سابقاً ولا داعي لتكرارها. المهمّ هو التوقف عند ظاهرة الانتفاضة الني تندرج في سياق تحرّك شعبي واسع شمل معظم الأقطار العربية منذ بداية العشرية الثانية للألفية الثالثة.
البعض يسمّيها ثورة، والبعض الآخر يسمّيها حراكاً بينما هي انتفاضة، أيّ أكثر من حراك وأقلّ من ثورة. فالثورة تحتاج إلى قيادة وبرنامج واضح يقلب الموازين الداخلية والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية وخطّة عمل لتنفيذه بينما الحراك لا يتطلّب كلّ ذلك بل تكون مطالبه محدّدة ومحدودة. ما يحصل في لبنان هو انتفاضة، أيّ رفض لواقع حال أيّ أكثر من حراك الذي تصحبه عادة مطالب محدودة ولكن هنا دون تحديد مطالب واضحة رغم وجود شعارات فضفاضة قد لا يتوافق المنتفضون على مضامينها وأبعادها. كما أنّ المطالبة بتغيير النظام أو إسقاط عهد سياسي هو أقرب إلى ثورة لا تحظى بتوافق أجمعي أو حتى أكثري ولكن دون وجود خطّة واضحة وتقديم بدائل عمّا هو قائم. لذلك نعتقد أنّ ما نشهده هو انتفاضة قد ترتقي إلى ثورة إذا ما توفّرت شروطها أو تقتصر إلى حراك شعبي بمطالب محدّدة إن لم تستطع التغيّير في الوضع المرفوض. ولكن في مطلق الأحوال هناك ضرورة لاستمرار الضغط على الطبقة الحاكمة التي لولا تلك الانتفاضة لما كانت لتتحسّس هذه الطبقة بفسادها وبفشلها وعبثية سياساتها وإجراءاتها البائسة. فمهما كانت المفاوضات القائمة بين كافة الأطراف المعنية ومن يمثّل المنتفضين هذا إذا كان هناك من مفاوضات ! فيجب استمرار الضغط على الجميع دون أن يعني بذلك شلّ الحركة في البلاد ومنع الحياة الطبيعية من أخذ مجراها.
هذه التوضيحات لا تمنعنا من تسجيل سلسلة من ملاحظات حول إيجابيات وسلبيات الانتفاضة القائمة ولا من محاولة طرح بعض التساؤلات والتداعيات على مستقبل البلد في ظلّ موازين القوّة المتغيّرة إقليمياً وعربياً ودولياً.
في البداية لا بدّ من التشديد على الإيجابيات التي فرضتها وما زالت حتى إشعار آخر الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. والإيجابية الأولى هي عفويتها في انطلاقها أيّ أنها لم تكن مبرمجة من قبل قوى إقليمية وأو دولية رغم بعض الادّعاءات المشكّكة فيها. هذا لا يعني أنّ القوى الإقليمية والخارجية واقفة على الحياد بل العكس، فهي عملت وما زالت تعمل بشكل جدّي على خطف الانتفاضة وأخذها إلى أماكن أخرى كما يتبيّن منذ فترة.
الإيجابية الثانية هي أنها عابرة للطوائف والمناطق وهي ظاهرة فريدة بل الوحيدة المسجّلة في تاريخ لبنان المعاصر. هذا لا يعني أنه لم تكن هناك تحرّكات شعبية في الماضي قاربت تجاوز الطائفية والمناطقية غير أنها لم تكن بالضخامة التي شهدناها بعد منتصف شهر تشرين الأول 2019. وما زال المشهد قائماً حتى الساعة رغم تسارع الأحداث والتطوّرات على الأرض.
الإيجابية الثالثة هي القواسم المشتركة العريضة التي أطلقتها الانتفاضة في رفض الفساد القائم والهدر والحالة المعيشية الصعبة والضرائب غير العادلة وعدم اكتراث المسؤولين لمعاناة الناس والطائفية التي تفرّق بين أبناء الوطن الواحد فلا بدّ من الخروج منها عبر قانون انتخابي جديد. فالمنتفضون خرجوا إلى الشارع لهذه الأسباب وليس لأسباب أخرى كانت مخفية عند البعض وباتت معلنة مع مرور الوقت. وهذه القواسم المشتركة ليست جديدة لكنّها لم تكن كافية بحدّ ذاتها حتى في الماضي القريب لتوحّد التحرّك الشعبي. فما جعلها ممكنة اليوم هي سلسلة تراكمات وعدم اكتراث الطبقة الحاكمة فجّرتها أحداث كشفت العجز والإهمال واللامبالاة. فالضريبة على الواتساب كانت بمثابة الشعيرة التي قصمت ظهر البعير فانطلقت الانتفاضة. المهمّ هنا هو شبه إجماع على ضرورة تغيير قانون الانتخاب القائم وإحلال مكانه قانون آخر على قاعدة النسبية والدائرة الواحدة وخارج القيد الطائفي. هذا سيسمح لدخول قوى سياسية موجودة على صعيد مساحة الوطن ولكن غير مركّزة في مناطق محدّدة خاصة تلك القوى التقدّمية والتحرّرية الرافضة لسطوة النظام الطائفي المذهبي.
الإيجابية الرابعة هي حرص المنتفضين على سلمية الانتفاضة وعلى عدم المسّ بمؤسسات الدولة وأهمّ من كلّ ذلك الوعي الذي ساد بين معظم المنتفضين وعدم الوقوع في براثن الاستفزازات المبرمجة من قبل المتدخلين على مسار الانتفاضة. طبعاً هذا لا يعنى عدم حصول بعض الثغرات التي تمّ تضخيمها بغية الفتنة وإجهاض الانتفاضة غير أنه في آخر المطاف تمّ تفشيلها.
الإيجابية الخامسة هي أنّ ضخامة الانتفاضة أرعبت الطبقة الحاكمة التي حتى تاريخ قريب لم تكن تكترث لا لحكم القانون والقضاء ولا لرأي العام الذي كان يعبّر عن هواجس المواطنين عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. لم تكن تلك الطبقة لتسمع فإذا هي الآن تواجه المارد الشعبي الذي خرج من المصباح فأصبحت تعمل إمّا على القضاء عليه في الحدّ الأقصى أو تخفيف خساراتها في الحدّ الأدنى، لكن من الواضح أنها لم يعد بمقدارها تجاهله. فبعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر ليس كما قبله ولبنان قد تغيّر بشكل جذري سنكتشف عمق ذلك التغيير مع مرور الوقت.
أما في ما يتعلّق بالسلبيات فهي في رأينا بدأت محدودة ثم تفاقمت وإنْ خالفنا بذلك بعض المراقبين. يعيب عدد منهم غياب القيادة الموحّدة لتلك الانتفاضة أو حتى تنسيقيات تستطيع الطبقة الحاكمة التفاوض معها. كما أنّ المراقبين يعيبون على تلك القيادات أو غيابها عدم وجود خطّة عمل بل مجرّد أفكار أو شعارات فضفاضة بعضها محق وبعضها خارج عن الواقعية. لكن في رأينا هذه نقاط الضعف ما جعلت الانتفاضة قوية. فغياب «القيادة» يجعل من الصعب على الطبقة الحاكمة «التفاوض» لاستيعابها أو محاصرتها للإجهاز عليها. وعمومية الشعارات تخفّف من الغرق في تفاصيل قد لا تحظى بإجماع أو توافق أكثرية المنتفضين.
لكن مدى الشعارات الفضفاضة قصير لأنه أصبح من الضرورة تحديد الأولويات في الانتفاضة والتفاهم على استراتيجية تحرّك وفقاً للأولويات ومنعاً لاستغلالها من قبل المتربّصين بها. حتى الساعة لم تتبلور تلك الاستراتيجية ولا حتى الأولويات، بل ربما الاكتفاء بشعارات مغرضة لا تعكس يقين الحراك. فعلى سبيل المثال شعار «كلّن يعني كلّن» شعار خطير لا يميّز بين مكوّنات الطبقات الحاكمة. هذا ليس لتبرئة الطبقة الحاكمة من الاتهامات التي كيّلها المنتفضون لكن تبيّن ما كنّا نخشاه أنّ وراء ذلك الشعار الفضفاض كان الهدف منذ البداية تشويه هالة المقاومة وسيّدها. هنا وقعت الانتفاضة في خطأ فادح ما كانت تريده ربما اللهم الاّ الذين رفعوا ذلك الشعار عن سابق وتصميم لاستهداف المقاومة. هذا ما حصل في مناسبات سابقة وهذا ما حصل في هذه الانتفاضة. ومن خلال استهداف المقاومة كان لا بدّ من استهداف العهد الذي يشكّل غطاء سياسياً للمقاومة. فكانت شيطنة رموز العهد التي جعلت من الانتفاضة موجّهة ضدّ المقاومة بغضّ النظر عن أحقية أو عدم الاتهامات الموجّهة ضدّ تلك الرموز.
اللافت للنظر هو ما صرّح به السفير الروسي في لبنان قبل اندلاع الانتفاضة أنّ لروسيا معلومات مفادها أنّ الولايات المتحدة قد تكون ساعية إلى فوضى عارمة قد تجتاح البلاد لإضعاف القوى المناهضة للهيمنة الأميركية ومشاريعها في المنطقة. ومن يقرأ الصحف الغربية وخاصة الأميركية منها كمجلّة «فورين بوليسي» أو «نيويورك تايمز» أو «واشنطن بوست» لا يرى إلاّ حراكاً شعبياً ضدّ المقاومة أو ضدّ الجمهورية الإسلامية في إيران التي أصبحت كابوساً على الغرب. هنا لا بدّ من التذكير بمقال دافيد اغناسيوس كبير المحلّلين في صحيفة «واشنطن بوست» وصاحب العلاقات المزمنة مع وكالة الاستخبارات المركزية. كتب اغناسيوس قبل انطلاق الانتفاضة بيومين مقالاً بعنوان «بعد خسارة سورية يجب إنقاذ لبنان». ويشرح في المقال أنّ الخطر هو المقاومة ودور الجمهورية الإسلامية في إيران في لبنان. كما أنه ليس من الصدف أن تتحرّك الجامعة الأميركية عبر مسؤوليها واساتذتها للتحريض على استمرار الانتفاضة وذلك لأول مرّة في تاريخها. والبيان المشترك مع جامعة القديس يوسف، الغريم للمؤسسة الجامعة الأميركية، هو أوّل عمل مشترك في الشأن السياسي اللبناني. ومن الصعب القبول بأنّ ما حرّك المؤسّستين هو التعاطف مع المطالب الشعبية لأنّ تاريخهما لم يكن في يوم من الأيام مع ذلك، بل بالعكس كانتا دائماً مع السلطة والطبقة الحاكمة رغم فسادها المزمن، وضدّ التحرّكات الشعبية الوطنية الحاملة للهمّ الوطني والقومي، ناهيك عن حربهما على الطبقة الوسطى والفقيرة في ارتفاع أقساطها! فبحجة رفض الفساد واتهام الجميع يتمّ كسر وهج المقاومة. فهي في الحدّ الأدنى تغطّي الفاسدين وفي الحدّ الأقصى تشاركهم في الفساد. هذا هو الهدف الفعلي لبعض من كان يدير من وراء الستار تحرّكات بعض مجموعات التي رفعت شعار «كلّن يعني كلن». الهدف هو وضع اللبنانيين أمام خيارين لا ثالث لهما إما الخراب مع استمرار حزب الله في الحكومة وحتى في المسرح السياسي أو الخلاص عبر المساعدات الخارجية، ولكن مع خروج حزب لله من الساحة الحكومية تمهيداً لنزع سلاحه. هذا الخيار مستحيل التحقيق كما صرّح مراراً رئيس الحكومة المستقيل أنّ سلاح المقاومة هو فوق طاقة لبنان بل هو مسألة إقليمية إنْ لم تكن دولية.
السلبية الثانية مرتبطة بما سبق، فالمتربصّون بالانتفاضة نجحوا في استغلال نقاط الضعف هذه التي كانت في البداية مصدر قوّة لها لكنها سمحت للتسلّل فحرفوا الانتفاضة عن مسارها أو على الأقلّ ما ظهر من تغطية الإعلام عبر النقل المباشر. فما شهدناه من تحريض إعلامي وعرض للشتائم والمسبّات عبر اختزال المشاكل التي يعاني منها الشعب اللبناني بأشخاص كان هدفه تحويل الاهتمام من أحقّية المطالب إلى أهداف أخرى ليس عليها إجماع أو توافق أكثري بين المنتفضين. فكان التضخيم الإعلامي لبعض المظاهر السلبية من أعمال شغب وشتائم وقطع الطرقات بتحريض قوى داخلية وخارجية ما جعل موضوع الانتفاضة لإسقاط ليس للحكومة فقط ولكن للعهد وللدولة كما حصل في ساحات عربية أخرى. الفوضى والعنف كانا هدف تلك الجهات التي حاولت جهداً خطف الانتفاضة وكادت تنجح لولا وعي المنتفضين ووعي القيادات المستهدفة من قبل الجهات المحرِّضة بكسر الراء .
السلبية الثالثة هي محاولة تغليب الطابع المهرجاني على جدّية المطالب وخطورة الوضع. ليس الاعتراض على ظهور ممارسات فنّية وترفيهية ما أعطى طابعاً حضارياً للانتفاضة، لكن ما شاهدناه في عدد من الحالات مشاهد غير لائقة جعلتها وكأنها حدث ترفيهي من نوع آخر. فما أثار إعجاب المراقبين تحوّل بسرعة إلى سخرية من جدّية الانتفاضة بل ساهم في فتح باب التشكيك بها.
هنا لا بدّ من التساؤل مع ظاهرة قطع الطرقات لمنع المتظاهرين من العودة إلى منازلهم وإلى حياة طبيعية. كما شهدنا ظواهر لقطع الطرقات من أشخاص مشبوهين في أماكن عدة ما يدلّ على أنّ السفارات المعادية تعمل بجهد على خلق الفتنة المذهبية. هذه الظاهرة تتناقض مع المطالب التي جمعت المنتفضين. فقطع الطرق يخلق شرخاً بينهم ويضعف قوّة الانتفاضة. لكن جميع المحاولات تصطدم بوعي أكثرية المنتفضين الذين تميّزوا عن تلك المظاهر.
السلبية الرابعة لم تكن من فعل الانتفاضة بل من سوء أداء الحكومة بشكل خاص والبطء في التحرّك لتلبية مطالب المنتفضين. لا يشكّل ذلك انتقاصاً من الانتفاضة بل العكس ولكنه ساهم في تقوية ورقة المتربّصين بالانتفاضة لحرفها عن مسارها عبر إطلاق شعارات مغرضة.
أما وقد أقدم رئيس الحكومة على الاستقالة فأصبح المشهد السياسي والشعبي في مكان آخر. مخاوف الفراغ التي حذّر منها أمين عام حزب الله في إطلالته الثانية والتي أثارت بعض المنتفضين أصبحت أكثر جدّية مما كانت قبل الاستقالة. فاحتمال تشكيل حكومة وفاق وطني أصبحت أكثر صعوبة مما كانت في السابق في سياق الجو التوافقي الذي أوصل الرئيس الحريري إلى رئاسة الحكومة مرّة ثانية بعد انتخاب الرئيس ميشال عون، ومرّة ثالثة بعد الانتخابات النيابية بعد إقرار قانون انتخاب جديد. فهل عودة رابعة للرئيس الحريري ممكنة؟
الإجابة على السؤال ليست سهلة وتدور حول مدى استعداد أطراف التسوية السابقة الاستمرار بها. وما أقدم عليه الرئيس الحريري بكسر كلمة أمين عام حزب الله الذي دعم في خطابه الثاني خلال الانتفاضة الحكومة محذّراً من الفراغ قد تعني أنّ لدى رئيس الحريري معطيات فد تعفيه من تحمّل «عبء» التسوية مع كلّ من التيّار الوطني الحر وحزب الله. لكن لولا تلك التسوية لكان من الصعب أن يصل إلى رئاسة الحكومة. فالسؤال يصبح ما هي دوافع رئيس الحكومة للاستقالة والتفريط بالتسوية التي أوصلته إلى السراي الحكومة؟
هذه الأسئلة تقابلها الحقائق التالية. أولى هذه الحقائق هي أنّ الأطراف الرئيسية من الطبقة السياسية تعي مدى خطورة الفراغ ولا تستطيع أن تستمرّ وتتساكن معه. فرئيس الجمهورية وتيّاره بحاجة إلى حكومة لاستكمال النصف الثاني من العهد. ورئيس الحكومة المستقيل لا يستطيع البقاء خارج الحكومة مطوّلاً. والمقاومة بحاجة إلى استمرار العهد لما يشكّله من غطاء سياسي في المعادلات الإقليمية والدولية. ثاني الحقائق هي أنّ الفراغ سيجهز على ما تبقّى من مكوّنات الدولة سواء على الصعيد الاقتصادي والمالي أو على الصعيد الأمني. فاستحقاق تحرير إدلب المرتقب على سبيل المثال من جماعات التعصّب والغلو والتوحّش قد يؤدّي إلى «تصديرها» إلى لبنان وخاصة في منطقة الشمال في حال غياب حكومة قادرة على المواجهة الإقليمية والدولية. أما الحقيقة الثالثة هي أنّ الحكومة القادمة لا يمكن أن تعود إلى واقع ما قبل 17 تشرين الأول/ أكتوبر. فلا بدّ من حكومة قادرة على فرض الإصلاحات الوازنة التي ترضي المنتفضين وهذه الإصلاحات تتطلّب دعم القوى الرئيسية المذكورة أعلاه. قد تكون الورقة التي تمّ التوافق عليها قبل استقالة رئيس الحكومة نقطة بداية غير أنها غير كافية ولا بدّ من وضع حدّ لرموز الفساد القائم وخاصة على الصعيد المالي والنقدي.
لا يمكن فصل ما يجري عن التحوّلات في موازين القوّة في الإقليم. لكن ما نشهده من تطوّرات لا توحي بأنّ ميزان القوة في مصلحة المحور المعادي لمحور المقاومة. فبلاد الحرمين رحّبت بالمبادرة الإيرانية لحفظ السلام في منطقة الخليج، والإمارات انسحبت من منطقة عدن كما أنها تعيد ترتيب أوراقها في ليبيا. والسودان في مأزق تبرير مقتل أربعة آلاف من جنوده في الحرب العبثية على اليمن.
أما في سورية فمسيرة فرض سيطرة الدولة على كافة الأراضي ما زالت قائمة وتشرف على النهاية في تطهير جيب إدلب ومن بعدها التنف. وهناك إقرار دولي بأنّ الحرب الكونية على سورية خسرها من قادها. هذه وقائع يجب أن يأخذها بعين الاعتبار الرئيس المستقيل إذا ما أراد العودة. والانتفاضة المشابهة في بلاد الرافدين والدور الصهيوني والخليجي في محاولة إضعاف قوى محور المقاومة في العراق مع تورّط إحدى الرئاسات الثلاث وقيادات أمنية رفيعة كما كشف عن ذلك الشيخ قيس الخزعلي لن تجرف الانتفاضة العراقية عن دوافعها ودور العراق في التشبيك مع سورية.
لا بدّ من الواقعية السياسية عند كلّ من تصوّر أنّ باستطاعته تجاوز المعادلات السياسية الاستراتيجية التي فرضتها إنجازات المقاومة في كلّ من فلسطين ولبنان وسورية والعراق ومن إنجازات الجيش العربي السوري ومن صمود اليمن في وجه العدوان عليه. فالتقهقر الذي أصاب قيادات المحور المعادي للمقاومة لا بدّ من أن يترجم بمواقف أكثر واقعية من قبل من يتماهى معها في لبنان. لكن في المقابل لا يمكن تجاهل شعور فئات وازنة في المكوّن اللبناني من الشعور بالإحباط بسبب مجاهرة البعض بفائض القوّة والتي تتنافى مع مفهوم التوافق والمشاركة. من هنا يمكن فهم استقالة الرئيس الحريري، غير أنّ التسوية السياسية في الظروف الراهنة ما زالت ضرورة لجميع الأطراف وعلى هذه القاعدة يمكن بناء مواقف استشرافية.
شكل الحكومة المقبلة ما زال مبهماً سواء على صعيد رئاستها أو على صعيد تكوينها وإنْ كان هناك شعور بضرورة عودة الرئيس الحريري إلى رئاسة الحكومة. المسألة أصبحت كالعضّ على الأصابع ومن يصرخ أوّلاً. وميزان القوّة الداخلي ليس لمصلحة أمراء المال وأمراء الحرب السابقين الذين كانوا بسبب سياساتهم ونهبهم لأموال الدولة وراء الانفجار الاجتماعي الذي شهده لبنان. فلأوّل مرّة في تاريخ لبنان المعاصر يتمّ التصويب على القطاع المصرفي وحاكمية مصرف لبنان ما يدلّ على وجود وعي اقتصادي وسياسي في آن واحد في تشخيص أسباب الأزمة. إنّ حكومة وفاق وطني أصبحت أكثر ضرورة من السابق بعد فشل الحكومة المستقيلة لتثبيت الاستقرار والسلم الأهلي قبل البدء بأيّ مشروع إصلاحي.
في آخر المطاف مهما كان شكل الحكومة المقبلة التي نتمنّى أن تتشكّل بسرعة وتقوم بإجراء اللازم لتصحيح الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ولإقرار قانون انتخاب جديد على قاعدة النسبية والدائرة الواحدة وخارج القيد الطائفي، فلا بدّ من استمرار الضغط الشعبي عليها وعلى النظام المصرفي وذلك حتى تتحقق جميع المطالب. على النخب السياسية الحاكمة أن تعمل بجدّية على استعادة الثقة المفقودة بينها وبين اللبنانيين والاّ لدخل لبنان في المجهول المدمّر.
|