القرارات الأميركية الأخيرة منذ دخول ترامب البيت الأبيض قبل 17 شهراً، سواء على الصعيد الخارجي أو على الصعيد الداخلي لها دلالات كبيرة كنّا قد ذكرنا بعضها سابقاً. والسمة الرئيسية لهذه القرارات هي التخبّط الناتج عن حالة إنكار واقعها الفعلي سواء في العالم أو في الداخل الأميركي. حالة الإنكار هي إنكار التراجع البنيوي وليس الظرفي لمكانة الولايات المتحدة والتي بدأت منذ عقود عدّة تبلورت بشكل أوضح مع ولاية كلينتون ومن بعده مع بوش وأوباما. أما ترامب فوصوله إلى البيت الأبيض يعكس المأزق الداخلي الأميركي في البيئة الحاكمة كما يساهم في تكبير الثغرات ونقاط الضعف البنيوية الأميركية ويُسرّع التراجع، فالأفول وربما الانهيار الكامل.
أما على الصعيد الخارجي فيجب الاعتراف بأن ترامب ينفّذ وعوده الانتخابية بغضّ النظر عن جدواها وأحقّيتها، وذلك دون الاكتراث للنتائج. فما هي النتائج التي يحصدها أو قد يحصدها في مستقبل قريب؟
بالنسبة لقراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران. فهناك تداعيات استراتيجية سلبية على الولايات المتحدة. فنقض الاتفاق الذي أبرمته الإدارة السابقة الأميركية والتي وافق عليها بالإجماع مجلس الأمن للأمم المتحدة يعني أن مصداقية كلام ووعود والتزامات الولايات المتحدة تناثرت في مهب الريح. أصبح الآن من الصعب الوثوق بأي شيء تقوله الولايات المتحدة. وهذا يُنذر بفشل الوصول إلى تفاهم مع كوريا الشمالية. فإذا إيران التي لا تملك سلاحاً نووياً تمّ التخلّي عن اتفاق معها لعدم زيادة نسبة تخصيب الأورانيوم، فماذا عن قيمة وعود الولايات المتحدة باحترام أي اتفاق مع كوريا الشمالية التي تملك سلاحاً نووياً؟ من جهة أخرى تصريحات مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون حول اتباع «النموذج الليبي» يعني أن ما يهمّ الولايات المتحدة هو قلب النظام القائم في كوريا الشمالية وقتل رئيسه كما حصل في ليبيا. هذا يعني أن الولايات المتحدة في موقع العداء لكوريا الشمالية سواء تمّ التوصّل إلى تفاهم معها أم لا.
والعداء لكوريا الشمالية يقلق حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا الذين لا يريدون أي مجابهة عسكرية. لكن ما يمكن أن يحصل هو ابتعاد كوريا الجنوبية عن الولايات المتحدة والاقتراب من شقيقتها الشمالية والتفاهم مع كل من الصين وروسيا. فأمن شرق آسيا لا يمكن أن يستقرّ مع استمرار السياسة الأميركية الحالية. هذا يعني أن مصير مجموعة أسيان إما تتفكك وينفرط عقد تحالفي استمر لعقود عدة، وإما تتراجع علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتتقارب أكثر فأكثر من الصين وروسيا. وفي الحالتين هذه خسارة استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة.
سياسة التلويح بالعصا لم تعُد تنفع، وخاصة العصا العسكرية، حيث بات واضحاً أن الأسطول السابع الأميركي غير جاهز لأي مواجهة طويلة مع الصين. والجهوزية تطال أهلية القطع البحرية وقياداتها على المواجهة في ظل عدم الاستثمار في الصيانة والتدريب. والدليل على ذلك حوادث الاصطدام ببواخر مدنية بسبب عدم الكفاءة والإرهاق اللذين أصابا طواقم القطع الأميركية فتمّت إقالة قيادات تلك القطع. وهناك تقارير أميركية عديدة تفيد بأن الجهوزية للقوّات المسلّحة كافة ضعيفة جداً ولا تستطيع مواجهة متوسّطة أو طويلة المدى أي خصم جدّي لديه العدّة والعتاد والإرادة. أضف إلى ذلك الكلفة الباهظة لأي مواجهة في المشرق مع إيران ومحور المقاومة التي قد تكلّف تريليون دولار سنوياً، وفقاً لشهادة الجنرال ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة أمام الكونغرس الأميركي، فما بال المواجهة مع الصين أو روسيا؟
عودة إلى الملف النووي الإيراني، فإن التهديدات التي أطلقها بومبيو تجاه إيران والدول الأوروبية ساهمت في توسيع الشرخ بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. على ما يبدو فإن الولايات المتحدة لم تعُد تلجأ إلى الدبلوماسية التي تعتبرها مضيعة للوقت، وفقا لبومبيو، بل لممارسة الضغط عبر التهديد بالعقوبات وحتى العمل العسكري لتغيير سياسات أو حتى أنظمة كفنزويلا أو كوريا الشمالية أو إيران. وهذا يدلّ على عدم خبرة وحماقة في منتهى الخطورة للأمن العالمي. نتيجة لذلك الأسلوب في التعامل مع الأمور التي تهمّ حلفاء الولايات المتحدة التي لا تكترث الأخيرة لها، يجري نقاش داخل الاتحاد الأوروبي حول إما المزيد من التمايز مع الولايات المتحدة في قضايا السياسة والدفاع والأمن أو المراوغة وتصريف الوقت لعلّ يتمّ إما إقصاء ترامب أو عدم ترشيحه لولاية ثانية. تصريح المستشارة الألمانية انجيلا مركل بأنه لم يعُد من الممكن الاتكال على الولايات المتحدة، وبالتالي يجب التفكير في بناء قوّة عسكرية أوروبية تقوم بمهام الدفاع بشكل مستقلّ عن الولايات المتحدة، يصبّ في منحى إنجاز استقلالية سياسية وعسكرية عن الولايات المتحدة. على صعيد آخر إن ما يبحث عنه المسؤولون في الاتحاد هو الآلية والصيغة القانونية لحماية الشركات الأوروبية التي ستستهدفها العقوبات الأميركية. فإذا ضمنت الحكومات الأوروبية وحمت الشركات التي تتعامل مع الجمهورية الإسلامية في إيران فتصبح المواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وحكومات دول الاتحاد الأوروبي مما ينسف التحالف الأطلسي ويعزل الولايات المتحدة. والمعضلة هنا، هي البلطجة الأميركية في اعتبار القانون الأميركي فوق قانون دول العالم. وبالتالي يخرق أحد أهم مبادئ القانون وهو المساحة الجغرافية التي يكون سائداً فيها. ما يقوم به الأميركيون هو تعدٍّ واضح وصارخ على سيادة الدول عبر تجاوز قوانينهم واعتبار القانون الأميركي قانوناً دولياً. كلام الرئيس الإيراني ردّاً على إملاءات بومبيو كان في منتهى الوضوح: «مَنْ أنتم؟».
أما قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وفقاً لقانون أميركي تمّ التصويت عليه في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فهو مثل آخر على عدم اكتراث الولايات المتحدة بالقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، التي جميعها تخالف شرعية القرار الأميركي.
قرارات ترامب ضربت عرض الحائط كافة القوانين الدولية وكأنها لا تعنيه. بهذا العمل هدم ترامب الهيكل القانوني الذي يحمي العلاقات الدولية والعلاقات التجارية بين دول العالم. فلا داعي لمؤسسات دولية كمؤسسة الطاقة النووية الدولية، أو المحكمة الدولية، أو حتى مجلس الأمن، الخ. فالشرعية الدولية أصبحت فقط شرعية الولايات المتحدة. فما تقوله الولايات المتحدة يصبح قانوناً على الجميع. فلا يجب أن نستغرب وجود ردود فعل من قبل دول وازنة كروسيا والصين تعيد الاعتبار إلى القوانين والمؤسسات والشرعية الدولية بمعناها الحقيقي وليس بالمعنى الأميركي.
قرارات الإدارة الأميركية لحماية ما تعتقده مصالحها التجارية تشكّل تحوّلاً في مسار العلاقات الاقتصادية الدولية وتنذر بحروب تجارية ومالية وتنسف قاعدة الاستقرار الدولي كشرط أساسي للنمو. اقتراح مجموعة 4 مقابل مجموعة 7 أي خارج الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وإيطاليا واليابان قوامها فرنسا ألمانيا روسيا والصين وفقاً لاقتراح رئيس وزراء ووزير الخارجية الفرنسي السابق دومينيك دي فيلبان يعني أنه يوجد بين النخب الأوروبية مَن يريد أن يمارس استقلاليته عن الهيمنة الأميركية. من هذه الناحية يلتقي دي فيلبان مع المستشارة الألمانية، حيث بدأت في ألمانيا وسائر الدول الأوروبية مراجعة بين النخب سواء كانت في السلطة أو خارجها. فقرارات الإدارة الأميركية أصبحت تشكّل خطراً حتى على وجود الاتحاد الأوروبي. ليس من البسيط أن يقول دي فيلبان في مقابلة له على محطّة راديو مونت كارلو أن التبعية للأطلسي أصبحت خطراً على سلامة الدول الأوروبية.
العالم يناقش بجدّية اليوم قيمة التفاهم مع الولايات المتحدة التي لم تعد تختبئ وراء أي شيء للتملّص من أي التزام كانت قد أقرّت به. فما قيمة التفاهمات والوعود التي تطلقها الولايات المتحدة التي تخرقها قبل أن يجفّ الحبر الذي استُعمل لصوغ أي اتفاق؟ كيف إذن سيتعامل العالم مع الولايات المتحدة التي لا تستطيع أن تحترم كلمتها؟ أليس ذلك من عوالم الدولة المارقة؟ لقد أقدمت الولايات المتحدة على نسف حكم القانون في العلاقات الدولية تماهياً مع إجراءات الإدارة الحالية بنسف قاعدة دولة القانون في الداخل وعدم الاكتراث له. أليس ذلك شبيهاً بجمهورية الموز التي ساهمت الولايات الأميركية بإيجادها في أميركا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث غاب حكم القانون عن رعاية شؤون البلاد؟
|