مؤتمر فيينا الجديد لم يفكك الألغام الموضوعة في طريق الالتزام بوقف العمليات العسكرية في سورية، حيث ظهر بوضوح أنّ تجديد دعوة جميع الأطراف للتقيّد بالهدنة المُعلن عنها، لم يقترن بالاتفاق على معالجة جدية لثلاث مشكلات أساسية تحول دون تطبيق الالتزام بالهدنة من ناحية، وإعطاء دفع حقيقي لاستئناف محادثات «جنيف 3»، التي وصلت إلى طريق مسدود نتيجة عدم التزام وفد الرياض بالأسس المتفق عليها في فيينا وقرار مجلس الأمن رقم 2254 من ناحية ثانية، وهذه المشكلات تتمثل بثلاث:
المشكلة الأولى: تصنيف الجماعات الإرهابية والفصل بينها وبين الجماعات التي تلتزم بالهدنة والسير بالحلّ السياسي، فهذه المشكلة لم تحلّ منذ الاتفاق الأميركي الروسي على تصنيف تنطيم «داعش» وجبهة «النصرة» تنظيميين ارهابيين لا يشملهما قرار وقف العمليات العسكرية، حيث كان من المفترض أن يتبع ذلك تحديد من هي الجماعات التي التزمت بالهدنة ومناطق تواجدها وفك أيّ ارتباط أو تداخل بينها وبين جبهة «النصرة»، غير أنه جرى الالتفاف على كلّ ذلك بتحريض تركي سعودي وبضوء أخضر أميركي، لأن لا مصلحة لهذه الدول بتنفيذ هذا القرار، فهو سيؤدّي فيما لو تمّ الفصل بين «النصرة» وباقي المجموعات المسلحة الأخرى إلى تمكين الجيش السوري وحلفائه من ضرب جبهة «النصرة» والقضاء عليها، أو نشوب صراع بين «النصرة» والجماعات التي ستتخلى عنها، وبالتالي فقدان تركيا والسعودية وأميركا القوة المسلحة الأساسية التي تستند اليها الجماعات المسلحة في تثبيت وجودها في مواجهة الجيش السوري، واستطراداً إضعاف قدرتهم على ممارسة الضغوط لمحاولة تحسين شروطهم في المحادثات السياسية للتوصل إلى حلّ للأزمة، ولهذا واصل وزير خارجية أميركا جون كيري سياسة الالتفاف على المطالبة الروسية بضرورة الفصل بين «النصرة» وباقي المجموعات الملتزمة بوقف النار.
المشكلة الثانية: وقف تزويد الجماعات المسلحة بالسلاح والمسلحين عبر الحدود التركية، ذلك أنه لا يمكن تطبيق الهدنة من دون وقف هذا الدعم، وإلا تحوّلت الهدنة إلى فرصة لتمكين الجماعات المسلحة من تعويض خسائرها العسكرية والبشرية وإعادة ترميم قوتها لشنّ الهجمات من جديد، وهو ما حصل فعلياً حيث جرى استغلال الهدنة وقامت السعودية وتركية بتزويد المسلحين بالأسلحة المتطورة والذخائر وتمكين آلاف المسلحين المدرّبين على أيدي أجهزة الاستخبارات الأميركية والتركية والبريطانية من الدخول إلى سورية عبر الأراضي التركية، والقيام بخرق الهدنة وشنّ الهجمات في ريفي اللاذقية وحلب، في محاولة لاستعادة السيطرة على المناطق الهامة التي تمكن الجيش السوري بدعم الطيران الروسي من السيطرة عليها في الأشهر الخمسة الماضية التي أعقبت الدخول النوعي الروسي على خط المعركة ضدّ القوى الإرهابية، وبدا واضحاً أنّ هذه الهجمات استهدفت أيضاً التأثير على تقدّم الجيش السوري وحلفائه في المناطق التي يسيطر عليها «داعش» بعد التحرير السريع لمدينة تدمر والقريتين والاستعداد للسيطرة على بلدة السخنة والتقدّم نحو الرقة ودير الزور. لأنّ الولايات المتحدة باتت قلقة من أن يؤدّي استمرار هذا النجاح السريع للجيش السوري إلى فقدانها ورقة توظيف خطر «داعش» لابتزاز روسيا وسورية في المفاوضات، وإطالة حرب الاستنزاف ضدّ الدولة الوطنية السورية. وهذا ما يفسّر استمرار أميركا بالتهرّب من الاتفاق مع روسيا على صيغة عملية لوقف دخول السلاح والمسلحين عبر الحدود التركية.
المشكلة الثالثة: الشروط المسبقة للحلّ التي يستمرّ وفد الرياض بوضعها، بتحريض سعودي تركي أميركي، مما أدّى إلى تعطيل محادثات جنيف وتوقفها، ويبدو أنّ الدافع لذلك هو أنّ الجماعات المسلحة ومن ورائها الرياض وانقرة وواشنطن لا يريدون السير بالحلّ على أساس شروط ليست في صالحهم وستؤدّي إلى كشف هشاشة تمثيلهم، ولهذا لم يحدّد موعد لاستئناف المحادثات، ومن المرجح اذا ما جرى استئنافها من دون أن تذلل المشكلات الثلاث الآنفة الذكر أن تصل المحادثات مجدّداً إلى طريق مسدود. وأنّ القصد من استئنافها هو امتصاص الغضب الروسي والاستفادة من عامل الوقت لتزويد المسلحين بالمزيد من السلاح والمسلحين ومحاولة تغيير في المعادلة الميدانية.
في ضوء ما تقدّم من الواضح أنّ الولايات المتحدة هي من يضع الألغام رهاناً على تبدّل في الوضع الميداني، أو إطالة أمد الحرب لدفع الدولة السورية إلى تقديم تنازلات تمسّ سيادة واستقلال سورية، غير أنّه من الواضح أيضاً أنّ القيادة السورية ليست في وارد التفريط بسيادة سورية، فسورية لم تُقدّم كلّ هذه التضحيات طوال السنوات الخمس الماضية دفاعاً عن استقلالية قرارها الوطني لتعود وتقبل بالتنازل عن ذلك، خصوصاً في ظلّ التبدّل النوعي في موازين القوى لمصلحتها.
وعليه من المرجح أنّ تواجه سورية وروسيا وايران هذا التكتيك الأميركي، بالاستمرار في الضغط الميداني ضدّ «النصرة» و»داعش» وأيّ مجموعة مسلحة تخرق الهدنة، وفي الوقت نفسه تحميل أميركا والسعودية وتركيا مسؤولية تعطيل الحلّ السياسي عبر تحريض وفد الرياض على الاستمرار في طرح الشروط المسبقة المناقضة لمقررات فيينا وقرار مجلس الأمن رقم 2254.
من هنا فإنّ الهدنة ستبقى معرّضة للاهتزاز والاختراق في ظلّ رفض واشنطن الفصل بين «النصرة» وباقي الجماعات التي تعلن استعدادها الالتزام بوقف العمليات القتالية، وفي هذه الحالة سوف يستمرّ الصراع، وستكون الكلمة الأولى والأخيرة للميدان وموازين القوى على الأرض هي التي تحدّد في النهاية مضمون وسقف الحلّ السياسي.
|