تمخضت الجولة الجديدة من المواجهة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الاحتلال الصهيوني عن نجاح المقاومة في تكريس قواعد جديدة للاشتباك وتعزيز قوّتها الردعية، التي أجبرت حكومة العدو على التوقف عن التصعيد في العدوان وقبول وقف النار… على أنّ هذه النتيجة التي تشكل انتصاراً للمقاومة أدّت إلى تعميق مأزق كيان العدو الصهيوني وتفجير أزمة سياسية بين صفوف قادته ومسؤوليه، وتوجيه صفعة قوية للمطبّعين سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً مع هذا الكيان الاحتلالي الغاصب لأرض فلسطين العربية، وللمنسّقين أمنياً مع أجهزة أمن المحتلّ ضدّ المقاومين.. هذه النتيجة إنما جاءت حصيلة نجاح المقاومة في توجيه ضربات نوعية لجيش الاحتلال خلال هذه الجولة من المواجهة معه دللت على مدى تطوّر قدرات المقاومة وأدائها في ميدان القتال والتصدي لقوات العدو والردّ على عدوانه من ناحية، وفاجأت حكومة العدو وأربكتها وجعلتها في ورطة حقيقية انْ هي ذهبت بعيداً في عدوانها ولم تتوقف وتتراجع وتعود الى التسليم بقواعد التهدئة مقابل التهدئة، من دون أن يشمل ذلك وقف مسيرات العودة الكبرى التي بات استمرارها يؤرق كيان العدو والمستوطنين في غلاف غزة المحتلّ…
كيف تجلت الضربات النوعية للمقاومة وتطوّر أدائها وقدراتها؟ وكيف تجسّدت الأزمة داخل صفوف العدو وما هي طبيعة المأزق الذي بات يواجه جيش الاحتلال ويكبّل كلّ خياراته العسكرية في مواجهة المقاومة المسلحة والشعبية في قطاع غزة…
أوّلاً: من تابع جولة المواجهة الأخيرة بين المقاومة وجيش الاحتلال لا بدّ له أن يلاحظ تطوّر أداء المقاومة في أربع محطات أساسية قلبت المعادلة في ميدان المواجهة لصالح المقاومة مما دفع الكثير المحللين إلى التحدث عن بعض أوجه الشبه بين بعض محطات هذه المواجهة وبين محطات المواجهات التي خاضتها المقاومة في لبنان مع جيش الاحتلال خلال عدوان تموز عام 2006…
المحطة الأولى: كانت في تصدّي المقاومين للقوة الخاصة الصهيونية التي تسلّلت إلى خانيونس مسافة ثلاثة كيلومترات لتنفيذ عملية اغتيال أحد كوادر المقاومة وهو أنور بركة والذي ارتقى شهيداً مع 7 مقاومين خلال المواجهة، لكن جاهزية المقاومين وسرعة تحركهم وتصدّيهم للقوة الصهيونية والاشتباك معها لمدة طويلة أدّى إلى مقتل قائد القوة الصهيونية وجرح جندي حسب اعترافات العدو… مما دفع العدو إلى استخدام طيرانه الحربي لتأمين انسحاب قواته والحيلولة دون سقوط المزيد من القتلى والجرحى أو وقوع أسرى منهم بيد المقاومة.. وهو مشهد يذكّر بمشاهد مماثلة لمواجهات المقاومين البطولية مع قوات النخبة الصهيونية في بنت جبيل ومارون الراس خلال عدوان تموز 2006…
المحطة الثانية: تمثلت في سرعة ردّ المقاومة القوي والكبير على الاعتداء الصهيوني عبر قصف مستعمرات غلاف غزة بمئات من الصواريخ بينها صواريخ جديدة من زاوية قدرتها التدميرية مما أدّى إلى وقوع العديد من القتلى والجرحى في صفوف المستوطنين الصهاينة…
المحطة الثالثة: استخدام المقاومة، للمرة الأولى، صاروخ كورنيت في ضرب حافلة تقلّ ضباطاً وجنوداً للعدو قرب غزة مما أدّى إلى قتل وجرح العشرات منهم، الأمر الذي وجّه ضربة موجعة وكبيرة من حيث ارتفاع أعداد القتلى والجرحى بين الضباط والجنود، وأظهر بوضوح أنّ المقاومة باتت تحوز على قدرات متطوّرة في مواجهة دبابات ومدرّعات جيش الاحتلال قادرة على تدميرها على غرار ما حصل في حرب تموز، إنْ حاول العدو تطوير عدوانه باجتياح بعض مناطق قطاع غزة، أو حتى إنْ اقتربت هذه الدبابات والمدرّعات من محيط غزة لأنّ الكورنيت قادر على إصابتها وتدميرها على بعد خمسة كيلومترات… ولم يعد خافياً أنّ صواريخ الكورنيت قد وصلت إلى غزة عن طريق المقاومة في لبنان وهو أمر كشف عنه السيد حسن نصرالله بكلّ فخر واعتزاز، في تأكيد على نجاح المقاومة في كسر الحصار وعلى مدى التنسيق والتعاون المتنامي بين قوى المقاومة ضدّ الاحتلال في مواجهة العدو الصهيوني وحلفائه من الدول الغربية والأنظمة الرجعية الذين يحاولون دون جدوى إخضاع المقاومة في غزة عبر الحصار الجائر…
المحطة الرابعة: بث المقاومة للفيديو المصوّر لعملية كمين العلم الفلسطيني المفخخ الذي نجح أحد المقاومين في زرعه على السياج الشائك والمكهرب حول القطاع… والذي ابتلعه أحد الجنود الصهاينة عندما انتزعه وأخذه إلى وسط الموقع الذي يتواجد فيه مجموعة من الجنود لينفجر فيهم ويحوّلهم إلى قتلى… فهذا الفيديو المصوّر للعملية النوعية كشف عن تطوّر أساليب المقاومة من ناحية ونجاحها في استخدام وسيلة الإعلام للكشف عن العملية والخسائر التي وقعت في صفوف العدو والذي تكتم عليها من ناحية ثانية، وفي التأثير على معنويات الجنود الصهاينة والمستوطنين، ورفع معنويات الجماهير العربية في فلسطين المحتلة وخارجها من ناحية ثالثة… وهو ما حصل بالفعل إثر بث الفيديو الذي تناقلته وسائل الإعلام على اختلافها وبات يتصدّر وسائل التواصل الاجتماعي…
ثانياً: أمام هذه التطورات النوعية، التي أماطت اللثام عن مدى التطوّر في قدرات المقاومة وأدائها في ميدان القتال وجاهزيتها، اجتمعت حكومة العدو المصغرة لساعات طويلة لدراسة الموقف واتخاذ القرار على ضوء الخسائر الجسيمة التي وقعت في صفوف جيش الاحتلال والمستوطنين خلال بضعة أيام… وفي خلاصة النقاشات الحامية اتخذ قرار الموافقة على قبول العودة إلى وقف النار في إطار اتفاق التهدئة مقابل التهدئة بوساطة مصرية، غير أنّ هذا القرار الصهيوني الذي عكس مأزق جيش الاحتلال انْ هو ذهب إلى عملية واسعة في غزة ، حيث يتوقع أن تكون نتائجها أكثر سلبية عليه من عدوان 2014 وقد تكون مشابهة لما تعرّض له جيش الاحتلال خلال حرب تموز 2006، بفعل القدرات النوعية التي باتت تحوز عليها المقاومة الفلسطينية.. أدّى هذا القرار إلى تفجّر أزمة عنيفة داخل الحكومة الصهيونية وبين الأحزاب السياسية «الإسرائيلية» وفي وسط المستوطنين، تمثلت باستقالة وزير الحرب أفيغدور ليبرمان احتجاجاً على قرار الموافقة على وقف النار الذي اعتبره «استسلام إسرائيلي»، في حين قالت زعيمة المعارضة تسيبي ليفني: «وقف إطلاق النار في غزة فشل أمني هائل ومسّ خطير جداً بقدرة الردع». وفي المقابل تظاهر المستوطنون في مستعمرات غلاف غزة ضدّ قرار الحكومة الصهيونية…
هذه التداعيات التي فرضها نجاح المقاومة في تكريس معادلة الردع في مواجهة العدوانية الصهيونية تذكر بالتداعيات التي أحدثها انتصار المقاومة في حرب تموز على الداخل الصهيوني والتي عبّرت عن نفسها بتقرير فينوغراد والأزمة السياسية التي عصفت بحكومة أولمرت…
ثالثاً: انّ نجاح المقاومة في تحقيق هذا الانتصار في هذه الجولة وجه صفعة قوية للأنظمة العربية المطبّعة مع العدو والتي تسابقت على إقامة العلاقات العلنية مع كيان العدو الصهيوني واستقبال المسؤولين الصهاينة، وبدّد المناخات السلبية التي أحدثتها هذه اللقاءات، وحلّ مكانها ارتفاع في معنويات الجماهير العربية في داخل وخارج فلسطين… في تأكيد جديد على أنّ اعتماد المقاومة كاستراتيجية في مواجهة الاحتلال هو السبيل لردع عدوانيته وتحقيق العزة والكرامة وإزالة واقع الهزيمة والاستسلام، واستطراداً الحفاظ على الحقوق العربية وتحرير كلّ فلسطين المحتلة كما تحرّر جنوب لبنان وقطاع غزة…
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول إنّ الجولة الجديدة من المواجهة بين المقاومة في قطاع غزة وجيش الاحتلال قد أسفرت عن تكريس وتعزيز معادلة الردع وتآكل قوة الردع الصهيونية، ونجاح المقاومة في تحويل الحصار إلى مأزق للعدو وتفجير التناقضات داخل صفوفه.. وهذا بالضرورة سيكون له المزيد من التأثيرات الإيجابية لصالح خط المقاومة في الصراع المتواصل مع الاحتلال الصهيوني.. قد تكون أولى بوادرها اضطرار حكومة العدو إلى القبول بفك الحصار عن القطاع من دون الحصول على مكاسب أو تنازلات سياسية سعت إليها منذ أقدمت على فرض الحصار…
|