رغم كلّ المحاولات الأميركية لعرقلة انعقاد مؤتمر سوتشي في روسيا ومن ثم الإخفاق في محاولات تعطيل نجاحه بعد أن أدركت واشنطن عدم القدرة على منع الاجتماع، نجح المؤتمر في تحقيق الأهداف التي انعقد من أجلها، وسجل اختراقاً سياسياً هو الأوّل من نوعه منذ أن بدأ مسار الحديث عن إيجاد مخرج سياسي للأزمة في سورية.
ويبدو من الواضح أنّ النجاح تجلّى في ما يلي:
أولاً: في الحضور الواسع للقوى السياسية السورية من كلّ الاتجاهات، والتي مثلت أوسع مروحة لتمثيل الشعب السوري، إلى جانب الوفد الرسمي السوري. وهو أمر افتقدته مؤتمرات جنيف التي اقتصر الحضور فيها على منصات الرياض والقاهرة وموسكو، في ظلّ غياب لتمثيل الأحزاب والقوى السورية في الداخل.
ثانياً: الدول التي رعت المؤتمر، روسيا وإيران وتركيا اتفقت على ضمان هذا الحضور الواسع وإنجاح المؤتمر على أساس تطبيق تفاهمات فيينا وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وهو ما كانت ترفض الالتزام به منصة الرياض في لقاءات جنيف بتحريض أميركي سعودي، وقد أسهمت مقاطعة واشنطن والجماعات الموالية لها لمؤتمر سوتشي في تسهيل نجاح المؤتمر في الوصول إلى اتفاق انطلاقاً مما تضمّنه قرار مجلس الأمن ومقرّرات فيينا. وهو ما كانت تدعو إلى التقيّد به الدولة السورية وترفض أيّ محاولة لتجاوزه وفرض صيغ تمسّ سيادة واستقلال سورية وحق شعبها في تقرير مصيره بنفسه من دون أيّ تدخل أو وصاية خارجية.
ثالثاً: المقرّرات التي صدرت عن المؤتمر جاءت متلائمة مع الثوابت الوطنية السورية لناحية الحفاظ على السيادة وحق الجيش والشعب والدولة السورية في العمل على تحرير الأرض السورية من الاحتلال الصهيوني وقوى الإرهاب التكفيري، كما أكدت على المساواة والعدالة الاجتماعية والحفاظ على وحدة سورية وأنّ سورية دولة مدنية غير طائفية، وهو المصطلح الذي اعتُمد بدلاً من الدولة العلمانية. كما أقرّ تشكيل لجنة دستورية مكوّنة من 200 شخصية لمناقشة الدستور، لكنها غير مقرّرة إنما ترفع توصياتها للمؤتمر الذي يناقشها، وبعد ذلك تُعرض الصيغة النهائية على استفتاء شعبي للموافقة عليها. ولم ينجح المبعوث الدولي دي ميستورا، الذي اضطر إلى حضور المؤتمر بعد أن عقد، في أن يكون رئيساً لهذه اللجنة للتأثير في صياغة توصياتها، لأنّ ذلك يتعارض مع دور الأمم المتحدة ومع احترام سيادة سورية واستقلالها.
هذه النتائج تشكل تطوّراً وتحوّلاً سياسياً هاماً، يترافق مع تطوّرات الميدان الذي يشهد إنجازات متلاحقة للجيش السوري والحلفاء في مثلث أرياف حلب وحماه وإدلب على نحو يؤشر إلى دخول الحرب ضدّ قوى الإرهاب مراحل حاسمة في آخر محافظة يتحصّن فيها تنظيم جبهة النصرة الإرهابي وهي محافظة إدلب. وتعكس في الوقت نفسه انتصار وجهة النظرة السورية المدعومة روسياً وإيرانياً لحلّ الأزمة والتي تؤكد رفض سورية تمرير الموافقة على أيّ صيغ طائفية أو عرقية أو إثنية، كما حصل في العراق إثر الاحتلال الأميركي له، فالتأكيد على أنّ الدولة السورية مدنية غير طائفية يشكل سقوطاً مدوّياً لخطط واشنطن للنيل من الدولة الوطنية السورية عبر محاولة إدخال لغة المحاصصة في تركيبة الدولة والتي تتسبّب اليوم بالأزمات في العراق وعدم الاستقرار في لبنان، منذ عام 1943 تاريخ تكريس النظام الطائفي المبني على المحاصصة الطائفية. ولا شكّ في أنّ تأكيد التمسك بصيغة الدولة الوطنية السورية بعيداً عن أيّ مصطلحات طائفية ما كان ليتحقق لولا صمود سورية قيادة ودولة وجيشاً وشعباً، بدعم من حلفائها في محور المقاومة وروسيا.
إنّ نجاح مسار سوتشي على القواعد والثوابت الوطنية السورية يشكل اليوم الخطوة الأولى نحو تكريس الحلّ السوري السوري لحلّ الأزمة بالتوازي مع استكمال تطهير الأرض السورية من قوى الإرهاب واستعادة الدولة السورية سيطرتها على كامل أراضيها وخروج القوات الأجنبية المحتلة الأميركية والتركية.
كما أنّ نجاح سوتشي سوف يشكل قوة ضغط إلى جانب التقدّم في الميدان لصالح تصحيح مسار جنيف ودفع الأطراف الأخرى التي كانت تعرقل جنيف، لا سيما أميركا، إلى تعديل مواقفها إذا كانت تريد أن يكون لها دور في رعاية الحلّ السياسي، بخاصة أنه ليس لديها من قدرة على تغيير وجهة الأحداث في سورية لمصلحتها إلا إذا كانت تريد الإمعان في خيار التصعيد والذهاب إلى الحرب وهو ما تؤشر كلّ المعطيات إلى أنّ واشنطن تتجنب التورّط فيه بفعل ميزان القوى الاستراتيجي الذي يفرضه محور المقاومة والحضور العسكري الروسي، وخوف الولايات المتحدة من الانزلاق إلى حرب استنزاف من العيار الثقيل لا تستطيع تحمّلها.
انطلاقاً من ذلك كله فإنّ سوتشي وما تمخّض عنه بمثابة مسار تأسيسي للحلّ السياسي لإنجاح جنيف الذي سيشكل في النهاية المخرج لنزول أميركا من أعلى الشجرة ولحفظ ماء وجهها.
|