لوحظ بشكل ملموس ومتسارع انّ بعض المجموعات المنظمة في الحراك تدفع عن عمد التحركات الاحتجاجية السلمية لتأخذ طابعاً عنفياً تخريبياً، وقد راحت تنظر لذلك عبر مواقع التواصل ومن خلال بعض رموزها في الساحات، والقول إنه لا بدّ من الاشتباكات العنيفة، وانه إذا لم تسل الدماء لن يصل الحراك إلى مطالبه.. وانّ هذا هو قانون ايّ ثورة تريد أن تحقق أهدافها…
وفي هذا السياق شهدت ساحة الشهداء ومحيط مجلس النواب خلال الأيام الثلاثة الماضية موجة من أعمال العنف والتخريب أدّت إلى مواجهات ساخنة وعنيفة بين مجموعات منظمة من المحتجّين أتوا من الشمال والبقاع وبعض المناطق في بيروت والضواحي، وبين القوى الأمنية.. ولوحظ انّ هذه المجموعات هي من بادر إلى استفزاز قوى الأمن ورشقها بالحجارة واقتلاع الأشجار والبلاط وإشارات المرور في ساحة الشهداء، مما تسبّب باحتدام الصدامات مع القوى الأمنية، لا سيما بعد إصابة العديد من عناصرها بجراح، حيث أظهرت حصيلة المواجهات التي استخدم فيها المحتجون الحجارة والمفرقعات، وردّ القوى الأمنية عليهم بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، أظهرت الحصيلة انّ أعداد الجرحى من رجال الأمن كانوا أكثر من الجرحى في صفوف المتظاهرين، وهذا يظهر بأنّ المجموعات التي استخدمت العنف كانت قد جهّزت نفسها جيداً للمواجهات… الأكيد أنّ ذلك لا يمتّ بصلة لأيّ ثورة… فالثورة لا تخرّب ولا تلحق الضرر عن عمد بالأملاك العامة والخاصة، لأنها تقدّم نفسها على أنها ثورة لتغيير الواقع السيّئ إلى واقع أفضل، وهي تحرص على الملك العام باعتباره ملكاً للشعب.. في حين انّ ما يحصل لا يمكن وصفه بأنه ثورة، بقدر ما هو أعمال شغب تلجأ إليها مجموعات درّبت لأجل القيام بذلك، تريد حرف الانتفاضة الشعبية المحقة بمطالبها، عن مسارها المطلبي السلمي، وركوب موجتها بدعم من قوى سياسية في السلطة، تغذي هذه المجموعات من خلف الستار.. والهدف المعلن لتصعيد العنف إنما هو تعطيل تشكيل حكومة حسان دياب، والمطالبة بحكومة يختارها المحتجون.. ايّ أن تسلّم أطراف الطبقة السياسية السلطة لهم كي يحكموا البلاد، وهذا أمر طوباوي. وانه لو شكلت حكومة دياب لن يسمحوا لها بأن تحكم وسوف يستمرّون في تحركاتهم المدعومة من السفارة الأميركية، التي دخلت على الخط، بالضغط على القوى الأمنية لعدم التصدّي للمحتجّين، مما يكشف مدى العلاقة التي تجمع هذه المجموعات المنظمة التي تمارس العنف وتريد خطف الحراك، بالسفارة الأميركية، لمنع ولادة ايّ حكومة لا تكون على قياس الشروط الأميركية.. حكومة مستقلة موثوقة أميركياً تقوم بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ترمي واشنطن بثقلها السياسي فيها، وعبر الدعم المالي الخليجي وبوساطة القوى السياسية والمجموعات الموالية للسياسة الأميركية، لمحاولة الإتيان بأغلبية نيابية تغيّر المعادلة النيابية والحكومية الحالية، بما يمكن واشنطن من المجيء بحكومة تتولى القيام بتنفيذ أجندتها لناحية:
1 ـ محاصرة المقاومة والعمل على رفع الغطاء الرسمي عنها، في سياق خطة لإضعافها ونزع سلاحها الصاروخي الذي يقلق كيان العدو الصهيوني ويلجم عدوانيته، لا سيما الصواريخ الدقيقة التي تملكها المقاومة ويعتبرها القادة الصهاينة، كاسرة للتوازن…
2 ـ فرض اتفاق ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، على نحو يمكن كيان الاحتلال الصهيوني من تحقيق أطماعه بالاستيلاء على جزء هامّ من الثروة النفطية والغازية في المياه الإقليمية اللبنانية…
3 ـ إعادة النظر بعقود تلزيم البلوكات النفطية بما يمكن الشركات الأميركية من الحصول على حصة الاستثمار الأساسية، في سياق خطة أميركية لمنع لبنان من استغلال نفطه وغازه لتحقيق التنمية والتحرّر من التبعية للنظام الرأسمالي الغربي الأميركي.. وبالتالي إبقاء لبنان خاضعاً للهيمنة الأميركية الاستعمارية…
4 ـ منع عودة النازحين السوريين الي بلدهم سورية، والعمل على إدماجهم في لبنان في سياق مخطط أميركي لتوظيف النازحين في عملية الضغط السياسي على الحكومة السورية لفرض الشروط الأميركية كشرط لتسهيل الحلّ السياسي للازمة، واستطراداً استغلال النازحين في الانتخابات السورية المقبلة…
5 ـ منع اتصال الحكومة اللبنانية بالحكومة السورية لإعادة العلاقات المميّزة بين البلدين إلى طبيعتها وإيجاد تسهيلات لحلّ مشكلات تصدير الإنتاج اللبناني الزراعي والصناعي الى سورية وعبرها إلى الدول العربية وكذلك منع توجه لبنان شرقاً نحو الصين وروسيا وإيران في سياق تنويع خياراته الاقتصادية وإيجاد الحلول لأزماته الاقتصادية والخدماتية وتطوير بناه التحتية المتردية…
ما نقوله في هذا المضمار أهداف أميركية معلنة على لسان المسؤولين الأميركيين الذين جاهروا بمنع لبنان من قبول المساعدات التي عرضتها كلّ من روسيا والصين وإيران لمعالجة مشكلاته المزمنة، لا سيما على صعد الكهرباء والنفايات والطرقات إلخ… وكذلك جاهروا بالعمل على إقصاء حزب الله وحلفائه عن الحكومة والمطالبة بحكومة تكنوقراط من المستقلين، ايّ أن يكون وزراؤها ممن يقبلون شروط سيدر وصندوق النقد والبنك الدوليين… واستطراداً أن يكونوا أكثر مطواعية في تلبية شروط وإملاءات واشنطن المذكورة آنفاً… والتي هدفت إليها حزمة العقوبات المالية الأميركية التي فرضت على لبنان وأدّت إلى تسعير ومفاقمة الأزمة الاقتصادية والمالية…
انّ ما تقدّم يطرح مهام ملحة على القوى الوطنية، المشاركة وغير المشاركة في الحراك، أولاً، لإدراك حقيقة ما يحصل من انتفاضة مضادة انقلبت على انتفاضة الناس المطلبية المحقة، ونجحت في خطفها وإضفاء الشعارات السياسية الرافضة تشكيل حكومة جديدة، برئاسة حسان دياب، توقف الانهيار الاقتصادي، وتضع البلاد على سكة معالجة الازمة وتلبية مطالب الناس المحقة. وثانياً إدراك ان ما يحصل ليس ثورة، لأنّ الثورة تتطلب قيادة ثورية وبرنامج إنقاذ وطني، وهو امر غير متوافر في الحراك الحاصل المكوّن من مجموعات وقوى متنافرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وثالثاً إدراك انّ الاستمرار في مسلسل العنف والسكوت عليه ومحاولة تصويره، من قبل بعض القوى المحسوبة على الخط الوطني، بأنه أمر طبيعي في ظلّ تعنت السلطة بالاستجابة لمطالب الناس، لا يقود إلى التغيير الحقيقي، وإنما يقود إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والمالي الخطير، وانهيار قدرة الناس الشرائية في ظلّ تعطل آلة الإنتاج… وبالتالي الدخول في مسار عنفي عبثي لا ينتج سوى الدمار والخراب الذي يدفع ثمنه جميع اللبنانيين.. لذلك لا يجب أن يفرح أحد إزاء ما يجري من عنف، لأنه عنف رجعي تخريبي، وليس عنفاً ثورياً تقدّمياً.. لهذا كله يجب إعلاء الصوت ضدّ من يقفون وراء هذا العنف التخريبي العبثي المدمّر للأملاك العامة والخاصة والمعطل للاقتصاد والمفاقم للانهيار والمسبّب لمزيد من زيادة حدة أزمات الناس المعيشية واستنزاف البلاد، والعمل على فضح وتعرية المجموعات المشبوهة التي تقف وراء العنف والتخريب. وعدم الاستسلام لإرادتها، وعفوية البعض ممن ينخرط في حفلة العنف، من دون إدراك إلى أين تقوده ومن يقوده إليها.. بدلاً من الحفاظ على سلمية الحراك والضغط للإسراع بتشكيل الحكومة والضغط عليها لتنفيذ مطالب الناس المحقة بدءاً من استعادة أموال وحقوق الدولة المنهوبة والاقتصاص من الفاسدين واسترداد موارد الدولة من الشركات الخاصة إلخ…
|