بعد الاتفاق التركي ـ «الإسرائيلي» على تطبيع العلاقات على حساب القضية الفلسطينية، هل انتهت فصول المناورة والخديعة التركية ـ الأردوغانية التي استدرّت التعاطف والتأييد عربياً وإسلامياً عبر الظهور بمظهر الداعم لقضية فلسطين، وإطلاق المواقف والتصريحات اللفظية الرنانة ضدّ السياسات «الإسرائيلية» من دون أن تقترن بأية أفعال حقيقية، بهدف تحقيق مشروعه السلطاني العثماني؟
هل انتهت الرهانات الخائبة للرئيس التركي رجب أردوغان على إحياء السلطنة العثمانية الآفلة بعد أن رفع الرايات البيضاء معلناً رضوخه للشروط الروسية لإنهاء المقاطعة التي فرضتها روسيا على تركيا على اثر إسقاط الأخيرة طائرة السوخوي في ريف اللاذقية قبل نحو سبعة أشهر؟
وهل سيقرّر إعادة النظر في سياساته الداعمة والحاضنة لقوى الإرهاب ويصحو من أوهامه لا سيما على أثر تلقيه الضربة الأقوى والأكثر إيلاماً في مطار اسطنبول من قبل هذه القوى الإرهابية التي ارتدّت عليه بعدما درّبها وسلّحها ومكّنها من التسلل إلى سورية لمحاولة إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، أو سلخ حلب عن الدولة السورية وضمّها إلى سلطنته العثمانية الموهومة؟
الواضح أنّ أردوغان بات يعاني من مأزق كبير نتيجة الإجراءات العقابية التي اتخذتها موسكو ضدّ تركيا على أثر إسقاط السوخوي، وكذلك نتيجة الفشل في تحقيق أحلام مشروعه باستعادة أمجاد سلطنة غابرة لن تبصر النور، وتحوّل سياسة صفر مشاكل التي وفرت الازدهار والاستقرار لتركيا والانفتاح على دول الجوار على مدى عقد من الزمن، إلى مشكلات بالجملة باتت ترزح تحت وطأتها تركيا، إنْ كان لناحية تفجر الاستقرار الأمني والسياسي، أو لناحية القضاء على سنوات الازدهار الاقتصادي.
فسياسات أردوغان بتوسّل دعم الإرهاب في سورية وتوظيفه لتحقيق أهداف مشروعه العثماني، وتصادمه مع روسيا أدّت عملياً إلى جملة من النتائج السلبية بالنسبة لتركيا أبرزها:
النتيجة الأولى: إحداث استقطاب حادّ على صعيد المجتمع التركي الذي أصيب بالتصدّع بفعل انتهاج أردوغان سياسة التحريض على إثارة الصراعات المذهبية والطائفية في سورية، واستخدامه خطاباً مذهبياً في بلاده، ومعروف أنّ المجتمع التركي مماثل في تركيبته للمجتمع السوري، وأدّى هذا الاستقطاب إلى انقسامات عميقة على الصعيد المجتمعي وعلى الصعيد السياسي وإدخال البلاد في حالة من التوتر وعدم الاستقرار الدائمين وإقدام أردوغان على انتهاج سياسة قمعية ومركزة السلطة بشخصه ضدّ قوى المعارضة لسياساته وحتى ضدّ من لا يوافقه الرأي داخل حزبه، والعمل على إقصائه كما حصل مع رئيس وزرائه أحمد داوود اوغلو أحد مهندسي السياسة التركية في عهد أردوغان.
النتيجة الثانية: تفجير الأمن والاستقرار في تركيا حيث تحوّلت مدن أساسية إلى ساحات حرب بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني بعد أن انقلب أردوغان على اتفاق الهدنة مع الحزب ورفض تنفيذ مضمونه لناحية إعطاء أكراد تركيا حق ممارسة حقوقهم القومية من ضمن الدولة التركية.
النتيجة الثالثة: ترافق ذلك مع إقدام القوى الإرهابية التكفيرية التي استفادت من البيئة الحاضنة وحرية الحركة والدعم اللذين وفرتهما لها الدولة التركية على تنفيذ سلسلة تفجيرات في اسطنبول وغيرها من المدن التركية، وكان آخرها التفجيرات التي نفذها ثلاثة انتحاريين في قلب مطار اسطنبول وأدّت إلى سقوط مئات الضحايا والجرحى.
النتيجة الرابعة: إدخال تركيا في أزمة اقتصادية واجتماعية وهروب الاستثمارات الأجنبية على أثر تفجير الاستقرار الأمني وتحوّل تركيا إلى ساحة حرب وتفجيرات أثرت سلباً على السياحة، التي تشكل مصدراً مهما للدخل، وعلى الحركة الاقتصادية.
النتيجة الخامسة: أدّى قرار أردوغان إسقاط طائرة السوخوي الروسية وفشل خطته جرّ روسيا إلى حرب مع حلف الناتو إلى تعميق مأزقه ومفاقمة الأزمات التركية على الصعد كافة حيث جاء الردّ الروسي على هذا الاعتداء مقاطعة تركيا سياسياً واقتصادياً، ما أدّى إلى توجيه ضربة قاصمة للسياحة التركية، وقطاع التجارة على حدّ سواء.
هذه النتائج السلبية التي أسفرت عن فشل رهانات أردوغان في تمكن جماعة الإخوان المسلمين من الاستمرار في حكم مصر، وسقوط أحلامه في إسقاط الدولة الوطنية السورية، وارتداد الإرهاب على الداخل التركي، أدّت عملياً إلى جعل تركيا في حالة من انعدام الوزن والتخبّط، والطريق المسدود الذي لا أفق للخروج منه إذا ما استمرّ أردوغان في الإيغال في سياساته المذكورة، ولم يسلّم بفشلها ويعمد إلى العمل على المسارعة للإقرار بالوقائع الجديدة التي أحدثها الحضور الروسي النوعي في سورية وما تمخض عنه من توازن عسكري جديد ومعادلة ميدانية جديدة لمصلحة الجيش العربي السوري وحلفائه، والرضوخ للشروط الروسية لإنهاء مقاطعة روسيا لتركيا، وبالتالي تدارك المزيد من التأزم الاقتصادي والاجتماعي وتراجع قيمة العملة التركية والذي أدّى مع تدهور الوضع الأمني إلى تلاشي كلّ الإنجازات التي مكنت حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان من التربع على عرش حكم تركيا.
ويبدو من الواضح أنّ أردوغان الذي يتقن فنّ اللعب على الحبال والانتقال من ضفة إلى ضفة أخرى يرى في مصالحة روسيا والرضوخ لشروطها، وكذلك تطبيع العلاقات مع «إسرائيل» سبيله لوقف التدهور المستمرّ في وضع الاقتصاد التركي وفك العزلة عنه.
لكن ذلك وحده لن يكون كافياً لمنع تحوّل تركيا إلى ساحة تعبث فيها قوى الإرهاب التي انقلبت على داعيمها من دون أن يقترن بقرار يتخذه أردوغان يعيد النظر جذرياً بسياساته القائمة على توظيف الإرهاب، وبالتالي العمل على اتخاذ سلسلة خطوات تضع حداً نهائياً للسياسات التي حوّلت تركيا إلى ملاذ آمن لقوى الإرهاب وجعلت من الأراضي التركية منطلقاً للإرهابيّين للتسلل إلى كلّ من سورية والعراق، وتزويدهم بالسلاح والذخيرة لمواصلة حربهم لتدمير البلدين.
ولا شكّ أنّ أولى الخطوات المطلوبة تبدأ بإغلاق الحدود التركية السورية العراقية بوجه الإرهابيين والعمل على تجفيف أيّ دعم لهم أنّ بالسلاح أو بالمال أو بالمسلحين.
فهل يكون قرار أردوغان بالاعتذار من روسيا على إسقاط طائرة السوخوي مقدّمة لقرار ثان يوقف فعلياً دعمه لقوى الإرهاب، أم أنّ أردوغان يحاول أن يخرج من مأزقه الاقتصادي دون تغيير سياساته التي وقفت وراء تفجير الاستقرار في سورية وأدت إلى جلب الإرهاب ليضرب أخيراً الأمن والاستقرار في تركيا؟
من البيّن أنّ أردوغان يريد من خلال تطبيع العلاقات مع روسيا و«إسرائيل» إخراج تركيا من أتون الأزمة الاقتصادية، وليس إعادة النظر بسياساته الداعمة لقوى الإرهاب، غير أنّ رهانه على تحسين الوضع الاقتصادي سرعان ما سيواجه الفشل لأنّ قرار تنظيم «داعش» الإرهابي بضرب الأمن والاستقرار في تركيا والذي تجسّد عملياً بالتفجيرات الانتحارية في مطار اسطنبول رداً على إقدام الرئيس التركي الاعتذار من روسيا، سوف يضرب السياحة ويؤدّي الى امتناع السياح الروس عن الذهاب الى تركيا على الرغم من تطبيع العلاقات الروسية التركية، فتحقيق الاستقرار والأمن شرط أساسي من شروط تشجيع السياحة وجلب الاستثمارات، وفي ظلّ غياب الأمن والاستقرار بفعل التفجيرات الإرهابية أو بفعل المعارك الدائرة بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي يصعب إعادة تنشيط الاقتصاد واقناع السياح بالمجيء الى تركيا.
غير أنّ أردوغان حتى ولو اقتنع بأنّ مصلحته تكمن في اتخاذ قرار بوقف دعم قوى الإرهاب وإقفال الحدود التركية مع سورية بوجه الإرهابيين، لن يكون قادراً على ذلك لأنّ تركيا عضو في حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي تقود الحرب الإرهابية ضدّ سورية وتسعى الى مواصلتها لاستنزاف سورية وحلفائها أو فرض حلّ سياسي يحقق أهدافها باختراق سيادة واستقلال سورية وتمكين القوى التابعة لأميركا من نيل حصة أساسية في السلطة السياسية تشكل أداة واشنطن للتدخل في الشأن السوري الداخلي، كما هو حاصل في لبنان والعراق وغيرهما. وهو ما ترفضه سورية بقوة.
وهذا يعني أنّ أردوغان سوف يكون من الآن وصاعداً واقعاً بين سندان ضربات قوى الإرهاب المنقلبة عليه وما تولده من ضغط شعبي وسياسي يطالبه بوقف دعمه للإرهابيين في سورية والعراق وإقفال الحدود، وبين مطرقة ضغط أميركا وحلف الناتو بالاستمرار في توفير الدعم وحرية الحركة للإرهابيين من تركيا الى سورية وبالعكس…
أنه مأزق أردوغان الذي بدأ يدفع ثمن دعمه الوحش الإرهابي الذي انقلب عليه، وثمن ارتمائه في أحضان حلف الناتو الذي يستخدم تركيا قاعدة لتنفيذ مخططاته الاستعمارية في الوطن العربي.
|