سأروي لكم هذه القصة الشعبية. معظمكم يعرفها بصيغة أو بأخرى، ومع ذلك سأسردها هنا مجدداً للعبرة فقط لا غير. الأسماء غير مهمة، فهي تقدم نماذج بشرية نلتقيها في كل مكان وفي كل زمان.
تطوّع سعيد، وهو وحيد أمه الأرملة، في الجيش. وواظب على المران والتدريب قدر طاقته الجسدية والعقلية. وعندما حان موعد تخريج دورته في الكلية العسكرية، دعت أمه الجيران والجارات إلى الحفل وهي تشعر بفخر لا يضاهيه فخر بحيث تكاد الدنيا لا تسعها لفرط سرورها وحبورها.
في اليوم الموعود، إنطلق طابور الجنود في الاستعراض العسكري. وكان سعيد، حفظه الله ورعاه وأدامه قرة لعين أمه، بين المشاة بالنظام المرصوص: يمين، شمال، يمين، شمال. ولما صار الطابور قبالة المنصة التي تجلس عليها الوالدة الفخورة، هبّت من مقعدها وهي تشير باعتزاز إلى وحيدها، مخاطبة الجيران والجارات وباقي الحضور بصوت جهوري: يقبر أمو سعيد... هو ماشي صح وكل الجيش ماشي غلط!!
وكم من سعيد وأم سعيد في أوساطنا وبين ظهرانينا!
عند كل مفترق طريق أو منعطف أو مستديرة أو تقاطع تتربص بنا شخصيات تتخذ مثالها الأعلى من أم سعيد ومن أشباه أم سعيد. إنها نماذج بشرية لا ترى إلا بعين واحدة، ولا تسمع إلا بأذن صماء، ولا تفكر إلا على موجة قصيرة، ولا تقّيم الأمور إلا وفق منظورها الفردي الضيق. وهي عاجزة عن رؤية الصواب، أو مجرد احتمال وجود الصواب، في أي شيء لا يتطابق تماماً مع خطوات سعيد "المفشكلة".
يقضي الواحد منا ساعات مديدة باحثاً ومنقباً ومتابعاً كي ينجز مقالة أو دراسة الهدف منها إيضاح واقع أو تبيان حقيقة أو كشف غوامض أو حتى تحفيز العقل على التفكير... في حين تكون "أم سعيد" منشغلة بالثرثرة مع جاراتها، أو هي أمام المرآة تقلم أظافرها وتنتف حواجبها، قبل أن تنقض على المقالة والدراسة والفكرة، لا لكي تستفيد منها أو حتى لمناقشة ما يمكن أن تحمله من محفزات فكرية تحتمل الصواب والخطأ. أبداً، بتاتاً، نهائياً! "أم سعيد" تبحث عن طريدة، تنتشي برائحة الدم وتسكر بمنظر الرؤوس المقطوعة، فلا يهدأ غلواؤها إلا بسلاح التجريح والبتر الذي يهدم ولا يبني، يؤخر ولا يقدم.
مسكين سعيد. هو يبذل جهده كي يستوعب النظام المرصوص لأنه صادق في انتمائه للمؤسسة العسكرية. المشكلة تكمن في "أم سعيد" التي أغلقت على ذاتها شرنقة محبتها المرضية لإبنها، فما عادت قادرة على تنسم تيارات العطاء الفكري، ولا غسل وجهها المتغضن بأشعة شمس المعرفة... فتكلست خلاياها العقلية، ونسجت عناكب الانحطاط خيوط الجهل على تلافيف دماغها.
وكان الأمر يهون لو أن أمثال "أم سعيد" يقفون عند حدود معينة. كلا. فهم لا يرون حقاً إلا ما يرونه هم، ولا يعترفون بحقيقة إلا إذا وافقوا عليها هم، وكل شيء خطأ طالما أن الآخرين يقومون به. لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب! ومع ذلك يصرّون على أن يقدم لهم الجميع فروض الطاعة والإذعان... وإلا فإن أسلحة الدمار الشامل جاهزة غب الطلب.
هؤلاء وأشباههم وصفهم أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، في مقال "سلطة الزعيم" الذي نُشر في جريدة "الزوبعة" بتاريخ أول آذار سنة 1941 بالعبارة التالية: "لا تجدهم يرّوضون عقولهم في درس موضوع أو معالجة قضية. ولذلك تراهم يلتقطون الأفكار البسيطة الشائعة إلتقاطاً من غير تفكير وكد ذهن. وإذا اتفق لك أن التقيت بهم وقد عثروا بكلام جديد فالويل لك، لأنهم يهاجمونك به مهاجمة عنيفة بلا شفقة ولا رحمة. فهم، غالباً، جهّال مكابرون لا يقرّون بجهلهم ولا يعترفون بتفوق أحد عليهم".
اللهم أبعد عنا الجهّال، ونج أمتنا وشعبنا من المكابرين... آمين.
|