يطرح ترشح سمير جعجع، القاتل الخارج من السجن بقانون عفو مسيّس، تساؤلات حول أسباب إلتفاف الجماعات حول أفرادها الفاسدين. قد يكون تأييد ثمانية وأربعين نائباً لجعجع في التصويت النيابي الأول على منصب الرئاسة اللبنانية من باب المناورات السياسية التي تتخفى وراء ستار ما يُسمى بالتقاليد البرلمانية الديموقراطية. لكن المسألة تستحق إمعان نظر ومعالجة معمقة عندما نشاهد المئات من رجال ونساء "النخبة" كالمحامين والأطباء والمهندسين والمصرفيين والإعلاميين والضباط المتقاعدين... يصطفون بخشوع ليصفقوا بحرارة أمام قاتل محكوم بجرائم كثيرة!
حزب "القوات اللبنانية"، كما غالبية الأحزاب والمنظمات والحركات الأخرى في الكيان اللبناني، يمثل جماعة بشرية متماسكة تشد لحمتها عصبية طائفية سياسية في مواجهة عصبيات طائفية سياسية أخرى. وتحت مظلة صراع العصبيات هذه، تسمح الجماعة لنفسها أو لأفراد منها (مسؤولين وغير مسؤولين) بتجاوز الأعراف الأخلاقية التي تنتظم حياة المجتمع وعلاقات الجماعات في ما بينها.
ولأن العصبية الطائفية أو السياسية تتبنى المفهوم البدوي الأعرابي "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فهي تتعمد التعامي عن تفشي الفساد في صفوفها، بل وتجد التبريرات "المنطقية" لأية ممارسات خاطئة أو إجرامية طالما أن مَنْ يقوم بها هم من "جماعتهم"، وطالما أن مَنْ يقع عليهم الفعل الخاطئ أو الإجرامي هم من "الجماعة الأخرى".
بين "نحن" و"هم" تضيع القيم التي هي في المحصلة الأخيرة قيم اجتماعية مطلقة، وتحل مكانها أعراف وتقاليد ما تزال سارية في بعض جماعاتنا منذ زمن البداوة الأعرابية. فالجماعة المنغلقة على ذاتها بعصبية طائفية أو سياسية سرعان ما تختلق لنفسها أعرافاً وتقاليد خاصة تحلل الحرام وتحرّم الحلال، حسب التفاسير الفقهية المتداولة في أيامنا هذه.
اللص في هذه الجماعة، وبالنسبة إليها، هو "الشاطر". والفاسد هو "الحربوق". والمخادع هو "الديبلوماسي". والقاتل هو "البطل". والعميل هو "الواقعي". والخائن هو "المتحالف"... وهكذا. أما اللص والفاسد والمخادع والقاتل والعميل والخائن في "الجماعات الأخرى"، فهو صاحب كل هذه الصفات وأكثر.
ربما كان بالإمكان احتواء الأضرار الاجتماعية الناجمة عن فساد جماعة بعينها لو أن هذه الظاهرة ظلت حكراً على أفراد محددين. لكن في الحالة اللبنانية الراهنة نشأ ما يمكن أن نسميه "توازن الفساد" على غرار "توازن الرعب" في زمن الحرب الباردة. بعض أنصار جعجع لم يجدوا ما يدافعون به عن مرشحهم الرئاسي سوى القول إن هناك "قتلة" في صفوف الجماعات الأخرى المنافسة. ما عادت جريمة القتل بالمطلق هي المشكلة، بل "قتلنا نحن" مقابل "قتلهم هم". وعندما ترتفع أصابع الإتهام بحق سارقي الحق العام، يأتي الرد أن "الآخرين" يسرقون أيضاً. ما عادت السرقة بالمطلق هي القضية، بل "سرقاتنا نحن" مقابل "سرقاتهم هم"!!
من الصعب أن تُفتح ملفات الفساد المالي والإداري والسياسي في ظل "توازن الفساد" بين الجماعات. وإذا فُتحت، سيتم إغلاقها في أسرع وقت ممكن لأن الجميع "قابرين الشيخ زنكي سوا"، كما تقول أمثالنا الشعبية الدقيقة. المسؤولون يغضون الطرف عن الارتكابات يقوم بها أفراد من "جماعتهم" لأن أفراداً من "الجماعات الأخرى" يرتكبون فضائح أفظع في المؤسسات والدوائر التي يتولونها. إن قبول الجماعة، أية جماعة، بفساد عناصر منها بعامل العصبية التنظيمية إنما هو إسباغ للشرعية على ممارسات الفساد عند الجماعات الأخرى.
قد يتنافس الأطراف المختلفون في شؤون المماحكات السياسية الفاسدة، لكنهم لن يختلفوا أبداً في ممارستهم للفساد وسكوتهم عنه. فالفساد هنا هو الحليف الدائم للفساد هناك!
|