ما كاد أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، يقترب من تحقيق هدنة مؤقتة مع السلطات الحاكمة في الكيان اللبناني ومن خلفها سلطات الانتداب الفرنسي في النصف الأول من سنة 1937، حتى وجد نفسه في خضم أولى التجارب السياسية التي وضعت الحزب الوليد وزعيمه وأعضاءه أمام محك نضالي يختلف تماماً عن كل ما مرّ بهم منذ مرحلة التأسيس السري سنة 1932.
فعندما انكشف أمر الحزب في تشرين الثاني سنة 1935، أعتقل سعاده وعدد من قياديي الحزب وكثير من الرفقاء. وقد تكرر الاعتقال بحق سعاده نفسه ثلاث مرات بين 1935 و1937. ولوحق الأعضاء من دون هوادة في الكيانين اللبناني والشامي. وتعرض الحزب وعقيدته لحملات إعلامية شرسة شاركت فيها أطراف عدة من اليمين واليسار بتمويل من المفوضية الفرنسية الاستعمارية... هذا إلى جانب نكوص عدد محدود من أعضاء الحزب الذين لم يُتح لهم الوقت الكافي للتجذر في عوامل الإيمان والصمود والبطولة.
كان سعاده قد أدرك بعد الاعتقال الثالث، وفي سياق العراك المرير مع سلطات الانتداب الفرنسي وأتباعها في الكيانين اللبناني والشامي على مدى سنتين، أنه بات من الضروري والملح أن يتوصل إلى نوع من التفاهم مع الحكومة اللبنانية، لأن الحزب "يحتاج إلى هدنة يتمكن خلالها من إحياء نشاطه السابق وتقوية حيويته وتنظيم داخليته وتكميل استعداداته"، كما جاء في رسالة الزعيم إلى إدفيك جريديني بتاريخ 12 تشرين الثاني سنة 1937.
الهدنة التي أرادها سعاده مرحلة مؤقتة لا بد منها لالتقاط الأنفاس والاستعداد للمواجهات القادمة لم تتحقق بأي ثمن، ولم تكن قط على حساب المواقف المبدأية للحزب السوري القومي الاجتماعي. ففي رسالته باللغة الفرنسية إلى قاضي التحقيق جورج مراد بتاريخ 17 أيار سنة 1937 يؤكد حرص الحزب على "صداقة" فرنسا لكن في إطار المصلحة القومية والسيادة القومية. يقول: "وأما بالنسبة إلى فرنسة، بوصفها قوة عظمى صديقة ذات علاقات وثيقة مع وطننا، فإن الحزب السوري القومي يدعو إلى التمسك بهذه الصداقة، ليس فقط من أجل الصداقة بذاتها، وإنما أيضاً من أجل ضرورات المصلحة القومية (...) نحن نعتبر وجود فرنسة في وطننا مناسبة ثمينة لنا لإنماء تفاهمنا معها في بلوغ وضع شرعي دولي يتولد من هذا التفاهم، الذي هو مرغوب فيه من قبلنا بمقدار ما يكرّس سيادتنا القومية".
وإذا كان هذا هو الهدف الأساسي من قبول سعاده بمهادنة الحكومة اللبنانية والمفوضية الفرنسية، فإن المسؤولين اللبنانيين كانت لهم أهداف أخرى مغايرة تتعلق بالانتخابات النيابية المقررة في تشرين الأول سنة 1937. ويكشف سعاده في إحدى رسائله إلى إدفيك جريديني (2 تشرين الأول سنة 1937) عن ضغوطات تعرض لها الحزب من قبل أقطاب الحكومة آنذاك، فيقول: "وكان علينا أيضاً أن نواجه موقفاً حرجاً جداً في لبنان، فإن اقتراب موعد الانتخابات اللبنانية ونشاط حركة المرشحين واتصال عدد كبير منهم بنا، جعل الحكومة تقلق. وأخذ المفاوضون من قبلها يلحون علينا لتعيين موقفنا والمجاهرة بأننا في صفوف الحكومة مهددين بالعودة إلى ملاحقة الحزب إذا نحن لم نعلن، قبل نهاية هذا الأسبوع، تأييدنا للحكومة".
والحقيقة أن ضغوطات الحكومة اللبنانية ومن خلفها المفوضية الفرنسية كانت أحد وجوه تداعيات أول تجربة سياسية انتخابية يتعرض لها الحزب. أما الوجه الآخر الأخطر بكثير، والذي ظل يتكرر بنتائجه الكارثية حتى يومنا هذا، فقد تمثل في الاختلاطات السياسية الفردية التي تكشّفت عند بعض المسؤولين الحزبيين المركزيين والمحليين. وقد تبيّن لسعاده أن التعامل مع مناورات الحكومة أسهل بكثير، على المدى البعيد، من معالجة تبعات الانحرافات السياسية والمناقبية الناجمة عن الانتخابات في صفوف القوميين الاجتماعيين.
على صعيد الوجه الأول، خاض سعاده مفاوضات شاقة ومعقدة مع مندوبي الحكومة اللبنانية. وإذا كانت مقالاته في جريدة "النهضة" آنذاك تعالج نتائج الانتخابات من وجهة نظر عامة، فإن رسائله الخاصة إلى إدفيك جريديني تُطلعنا على الأساليب التي اتبعها في تلك المفاوضات. يقول في رسالة بتاريخ 2 تشرين الأول سنة 1937: "ولما كانت الحكومة لمّا تفعل شيئاً يقيم الدليل الحسي على أن نياتها متجهة نحو تسهيل عملنا ونصرتنا، فقد رفضتُ إعلان تأييدها إلا إذا أجابتني إلى شروط تقنع الحزب بأن موقفه معها يكون سليماً. وقد كان التوتر في العلاقات شديداً إلى درجة خطرة، ولكن رباطة جأشي جعلت الحكومة تعيد النظر في موقفها. وكانت أمس مقابلة أعلن فيها مفاوض الحكومة أن رئيس الوزارة أعلن استعداده لإجابة بعض مطاليبنا. ومنها ما يؤمن عدم تعرضنا للملاحقة من جديد. ويعلن شمول العفو إحدى الدعاوى والبت في بعض الدعاوى الجزئية المعلقة لمصلحة الحزب. وإني أنتظر دعوة رئيس الجمهورية لتقرير كل هذه الشؤون، وحينئذ يصير ممكناً أن أعلن تأييدي لقائمة الحكومة والاحتفاظ بحق مقاومة كل مشروع من مشاريع الحكومة نعتقد أنه ليس في مصلحة الوطن، فيظل موقف الحزب صريحاً شريفاً على الرغم من الضغط الشديد عليه".
هذه هي بوصلة سعاده الدائمة في كل أعماله السياسية، سواء لتحقيق الهدنة مع سلطات الانتداب الفرنسي أو للتعاون الانتخابي مع الحكومة اللبنانية التي هي صنيعة الفرنسيين يومذاك. إنها المصلحة القومية، مصلحة الوطن، السيادة القومية... التي لا يمكن التفريط بأي جزء منها مهما اشتدّت الضغوط، ومهما كثرت المغريات، ومهما عظمت التضحيات. وبالفعل نجح سعاده، ولو مؤقتاً، في الاستفادة القصوى من المهادنة. لكن ما كان لذلك أن يستمر طويلاً، فما أن أطل العام 1938 حتى عاودت الحكومة اللبنانية وأسيادها الفرنسيون سياسة الضغط والتشديد على نشاط الحزب، تمهيداً لاستهداف سعاده نفسه... ما تطلب أن يغادر إلى مغتربه القسري الذي امتد تسع سنوات كاملة!
لكن ماذا عن الوجه الآخر من الصعوبات الناجمة عن الانتخابات النيابية داخل الحزب؟ يقول سعاده في رسالة إلى إدفيك جريديني بتاريخ 12 تشرين الثاني سنة 1937: "إننا قد اجتزنا أعظم أزمة مرّت بالحزب حتى اليوم. فإن ما تعرض له الحزب بمناسبة الانتخابات كان شيئاً لم يسبق لأمتنا أن اختبرت مثله في العصور المتأخرة". ونحن نعرف من خلال مرويات الرعيل الحزبي الأول أمثال جورج عبد المسيح وجبران جريج وعبدالله قبرصي أن عدداً من المسؤولين والأعضاء "تمردوا" أو "تحفظوا" على القرارات المركزية المتعلقة بالانتخابات النيابية، فاتخذ الزعيم إجراءات حاسمة بشأنهم. وأبرز هؤلاء صلاح لبكي (تولى منصب نائب الزعيم في إحدى المراحل) وعميد الإذاعة آنذاك إميل خوري وآخرون أورد جبران جريج أسماءهم بالتفصيل في الجزء الثالث من كتابه "من الجعبة" (صفحات 407 و413 و416). وقد أعطانا سعاده صورة عنهم في خطاب الأول من آذار سنة 1938، بقوله: "إن هنالك أفراداً تعودوا تسخير الأحزاب التقليدية لمنافعهم الخاصة فظنوا أنهم ينالون من الحزب السوري القومي ما كانوا ينالونه من الأحزاب الأخرى. وقد ساء فألهم، لأن الحزب السوري القومي يقول إن الأفراد يسخرّون للقضية القومية لا القضية القومية للأفراد".
الواقع أن سعاده اتخذ من تلك التجربة السياسية الأولى في تاريخ الحزب فرصة لإعطاء دروس سياسية وإدارية ومناقبية في كيفية التعامل المستقبلي مع التجارب المماثلة، سواء على صعيد الحزب داخلياً أو على مستوى الطبقات السياسية التقليدية الحاكمة في بلادنا. ففي مقال "تشبيه" ("النهضة" العدد 10، تاريخ 24 تشرين الأول سنة 1937) يصل سعاده إلى نتيجة تنطبق تماماً على واقعنا الراهن بقدر ما كانت تنطبق على إنتخابات جرت قبل ثمانين عاماً. يقول: "المعدود اللبناني ينتخب على أساس المنفعة الفردية أو العائلية أو الطائفية. وفي انتصار فريق من المرشحين على فريق آخر لا تنتصر مبادئ ونظريات على مبادئ ونظريات، بل تظفر غايات خاصة بغايات خاصة فتتحول منافع الإدارة العامة إلى فريق من أبناء البلاد دون فريق آخر. فالنزاع أبداً قائم على هذا الشكل (...) أما التصويت فليست له قيمة ديموقراطية على الإطلاق لعدم استكمال شروطه". ويمضي سعاده إلى أكثر من ذلك ليقول في رسالته إلى إدفيك جريديني (تاريخ 24 تشرين الأول سنة 1937) معلقاً على الانتخابات وعلى مقاله "تشبيه": "والحقيقة أن لا انتخابات هنالك ولا من يحزنون، وإنما يُشبّه للشعب أن هنالك انتخابات"!
غير أن أهم ما نستنتجه من دروس سعاده، بالنسبة إلى القوميين الاجتماعيين حاضراً ومستقبلاً، هو الشفافية الكاملة التي تعامل بها مع ما وصفه بـ"أعظم أزمة مرّت بالحزب حتى اليوم". ومع أنه لم يكن ينظر بإيجابية إلى دور "المعدود اللبناني" في الانتخابات، إلا أنه كان يؤمن في الوقت نفسه بضرورة وأهمية وضع الحقائق المناسبة أمام ذلك "المعدود"! وهكذا نراه ينشر في جريدة "النهضة" مقالات تكشف عن أوجه الخلل التي برزت في الحزب من جراء الانتخابات، ومعها آلية مواجهة هذا الخلل على المستويين الإداري والمناقبي. ففي مقال "موقف الحزب السوري القومي" (26 تشرين الأول سنة 1937) يقول: "لا شك في أن هذه الطريقة ستصدم أفراداً كثيرين لا يزالون يتبعون الأساليب الفردية العتيقة القائمة على قاعدة التسويات الموقتة والتكيف حسب مقتضيات الظروف (...) وكان موقف الحزب من بعض أفراده الذين أرادوا أن يوجدوا قضايا شخصية في داخله موقفاً يدعو إلى الإعجاب الشديد بصلابة هذه المنظمة، ومتانة وحدتها القائمة على أسس متينة".
ومن الملفت للنظر أن "صلابة المنظمة ومتانة وحدتها" واجهتا في الماضي، وتواجهان حاضراً ومستقبلاً، التحديات الخارجية والداخلية ذاتها التي تمتحن إرادة القوميين الاجتماعيين ومناقبيتهم!!
ولنا عودة إلى هذا الموضوع.
|