إذا جردنا "داعش" مما يحيط بها من ضجيج إعلامي، تغذيه وسائط الإتصال الاجتماعي المؤيد منها والمعارض، نبقى أمام فصيل جديد من جماعات الإسلام السياسي الجهادي يلتقي في خلفيته الفكرية مع عشرات الفصائل المشابهة التي عرفتها المجتمعات العربية والإسلامية خلال العقود القليلة الماضية.
ومع أن "داعش" تمثل تطرف جماعة محدودة من المسلمين السنة، ففي قلب كل جماعة دينية أو عرقية متطرفة بذور "داعشية" تنمو في زمن الأزمات المصيرية. ويستوي في ذلك الشرقيون والغربيون عندما يصبح التعصب أداة إلغاء للآخرين. ولنا في الحروب الأهلية، قديمها وحديثها، خير دليل على تفشي هذا الداء العضال في أنحاء مختلفة من العالم.
إن العنف البشع الذي تمارسه "داعش" وتتفنن في نشره على أوسع نطاق ممكن هو جزء من تكتيكات المواجهة والقتال والإرهاب النفسي بقدر ما هو جزء من الفكر الإلغائي الذي تتميز به الغالبية العظمى من الجماعات الجهادية التكفيرية. وهي تعتمد في ذلك حديث "الفرقة الناجية" المنسوب إلى النبي العربي، ويقول: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على إثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة (يقصد المسلمين) ستفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة". وفي غياب المنهج العقلي في النظر إلى المستجدات الاجتماعية والسياسية، فإن كل جماعة تعتبر نفسها "الفرقة الناجية" ستجد أن من واجبها الشرعي "تسريع إرسال" الفرق الأخرى إلى النار!!
وحتى الفظاعات التي ترتكبها "داعش" حالياً، من ذبح وصلب وسبي وتهجير وتدمير معالم دينية لطوائف مختلفة، لها ما يماثلها في تاريخنا الحديث. إن مجازر "طالبان" بحق شيعة أفغانستان (الهزارة) لا تقل بشاعة ووحشية عن إرتكابات "داعش" و"النصرة" ضد الأقليات الدينية والعرقية في أماكن سيطرتهم. والتدمير المنهجي للمعالم الدينية سبق أن مارسه "الإخوان" النجديون عندما أغاروا على دمشق والنجف وكربلاء وبلغوا في تطرفهم وتعصبهم حداً خطيراً بحيث إضطر عبد العزيز آل سعود نفسه للقضاء عليهم في معركة السبلة سنة 1929!
تنطلق "داعش" وغيرها من الجماعات السلفية الجهادية التكفيرية من موروث فكري له جذور عميقة في بعض المدارس الفقهية الإسلامية. وممارساتها الراهنة لا تختلف قط، إلا من حيث التوظيف الإعلامي، عن ممارسات سابقة شهدتها المنطقة قديماً وحديثاً. ولذلك يجب أن لا يُعمينا التركيز على "داعش" عن جماعات أخرى ارتكبت فظائع مماثلة، منها "النصرة" و"جيش الإسلام" و"كتائب عبدالله عزام"... وقبلها "القاعدة" و"الطليعة المقاتلة" و"الجماعة المقاتلة" و"طالبان"، وغيرها.
كل هذه الجماعات، و"داعش" على رأسها الآن، تمتلك منظومة فقهية تقوم على تأويلات محددة للنصوص القرآنية وللأحاديث النبوية ولسنة السلف الصالح ولفتاوى عدد كبير من المراجع الدينية القديمة والمعاصرة. ويكفي أن نطلع على مواقع هذه الجماعات على شبكة الإنترنت كي نتبين وجود أسانيد من القرآن والحديث وسنة السلف الصالح، وفق شروحات وفتاوى تعود إلى رجال دين ومفكرين إسلاميين من أمثال إبن تيمية وإبن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب ويوسف القرضاوي وغيرهم.
ولذلك فإن "داعش" وأخواتها ليست ظاهرات أمنية جاءت نتاج أوضاع سياسية واجتماعية معينة في ظروف زمنية محددة، وإنما هي أحد جوانب الموروث الفكري الديني لبعض منظري الإسلام السياسي الجهادي. ويكفي أن نعود إلى كتابات الباحث العراقي الراحل هادي العلوي (خصوصاً كتاب "فصول من تاريخ الإسلام السياسي") لنجد ما يماثل "داعش" وأخواتها ليس فقط في التأويل التكفيري للنص القرآني وللأحاديث النبوية، بل أيضاً في الممارسات الدموية المنهمرة عليناً يومياً الآن عبر وسائل الإتصال الاجتماعي، والتي يساهم الإعلام الغربي في الترويج لها والتركيزعليها لاعتبارات مصلحية ذات أهداف خاصة به غالباً ما تكون على حساب منطقتنا ومجتمعاتنا. فالغرب لا يتردد قط في التعامل مع جماعات الإسلام السياسي، بما في ذلك التكفيري منها، طالما أن هذا يخدم مخطط التفتيت الديني والمذهبي والعرقي في بلادنا.
وعلى هذا الأساس، من العبث الاكتفاء بالتعامل الأمني مع "داعش" لأن ذلك يتجاهل العناصر الأخرى التي أتاحت نشوء مثل هذه الجماعات الجهادية التكفيرية على مدى التاريخ الإسلامي. ذلك لا يعني ترك الأمور على غاربها في ساحة المجابهات الأمنية، وإنما المقصود وضع خطة مواجهة شاملة تعالج الجذور الفكرية الاجتماعية للظاهرة الجهادية التكفيرية في سياقها التاريخي أولاً، وفي تجلياتها المعاصرة ثانياً.
المنطلق الأساسي في خطة المواجهة هذه هو الاعتراف بأن تلك الجماعات تعتمد حالياً، كما اعتمدت في الماضي، على تأويلات محددة للموروث الديني الإسلامي. وهو تأويل يحظى بالقبول في العديد من مجتمعات المسلمين، بل ويشكل القاعدة الفقهية للتشريع في بعض الدول التي تقوم دساتيرها على أساس من الشريعة الإسلامية. وغالباً ما يؤدي ذلك إلى نشوء خلط بين احتياجات المجتمعات المعاصرة المعقدة من جهة، وبين تأويلات تعود إلى الأزمان الماضية من جهة أخرى. وحيث أنه من الصعب لأي مجتمع في العالم أن يعيش بمعزل عن التفاعل مع الآخرين، فإن الخلط الذي نتحدث عنه سيتحول إلى تناقض عدواني بين عولمة لا تبقي أية أهمية للخصائص الاجتماعية القومية وبين نزعة انعزالية تتشبث بفهمها الخاص لماضي الأسلاف و"عصرهم الذهبي" المزعوم!
ولكي ننجح في تفكيك الفكر الجهادي التكفيري لـ "داعش" وأخواتها، وليس فقط دحر قواها المقاتلة التي علمنا التاريخ الحديث أنها قادرة على الإنبعاث من رمادها بين الحين والآخر، فإن على الفكر العلماني الوطني القومي الديموقراطي أن يبادر إلى نزع "القداسة" عن التأويلات الدينية وعن تفسيرات المرجعيات التاريخية واجتهاداتها، ما يعني إحكام العقل في النظر إلى النصوص وإلى الأحداث بغض النظر عن الشخصيات المعنية بها.
يُنسب إلى أبي حنيفة قوله: "ما جاءَ عن اللهِ تعالى فعلى الرأسِ والعينين، وما جاءَ عن رسولِ الله صلى اللهُ عليه وسلم فسمعاً وطاعة، وما جاءَ عن الصحابةِ رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم ولم نخرجْ عنهم، وما جاءَ عن التابعين فهُمْ رجالٌ ونحنُ رجالٌ". فإذا كان أبو حنيفة، وهو الإمام المجتهد، دعا إلى "التخير" في الأخذ عن الصحابة... فما بالك بالتابعين وتابعي التابعين إلى آخر السلسلة! إن نزعة "التقديس" التي تُسبغ على التأويلات والاجتهادات الدينية هي الرحم الخصب الحاضن لـ "داعش" وغير "داعش"، في الحاضر كما في الماضي.
|