مرّة أخرى أعود إلى موضوع شديد الأهمية والخطورة بالنسبة إلى المؤمنين بالفكر القومي الاجتماعي، وأقصد به منهجية التعامل مع تراث أنطون سعاده واضع أسس العقيدة القومية الاجتماعية ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. ومكمنُ الأهمية والخطورة اللتين نشير إليهما هو أن أي مقال مجهول أو رسالة ضائعة يتم العثور عليها لسعاده يمكن أن تلقي أضواء كاشفة على حياته وفكره ونضاله الحزبي. وهذه مسائل حيوية للغاية في وقت تعيش أمتنا وشعبنا تحديات وجودية تتطلب فكراً إنقاذياً، حيث أن القوميين الاجتماعيين يؤمنون بأن عقيدة سعاده تختزن عوامل ذلك الإنقاذ المرتجى.
إن التعامل مع تراث سعاده يختلف جذرياً عن التعامل مع تراث أي كاتب أو أديب أو مفكر آخر. فكل فكرة أو عبارة جديدة ستصبح فور تأكيد نسبتها إلى زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي جزءاً من قناعات وأدبيات عشرات الألوف من المؤمنين بالفكر القومي الاجتماعي، وقد تؤثر أيضاً على منهجية النظر في مسائل الحياة والكون والفن، مع كل ما يعنيه ذلك من مواقف فكرية واجتماعية وسياسية وتنظيمية.
أدعو، بادئ ذي بدء، إلى التفريق بين عمليتين مترابطتين ومتكاملتين، لكن كل واحدة منهما تتطلب أدوات منهجية مختلفة:
1 ـ عملية البحث والتنقيب.
2 ـ عملية التحقيق والنشر.
والثانية منهما تعتمد اعتماداً كاملاً على الأولى، ولا نجاح لها في ما يتعلق بالنصوص المجهولة التي يتم الكشف عنها إلا بجهود المنقبين والباحثين من ذوي الخبرة والدراية في هذا الحقل. أما من الجهة الأخرى، فليس كل منقب أو باحث هو بالضرورة الشخص المؤهل لتحقيق النصوص وتجهيزها للنشر. فالتنقيب والبحث يمكن أن يقوم بهما شخص فرد متمرس وضليع، في حين أن التحقيق والإعداد للنشر (خصوصاً تراث واضع عقيدة ومؤسس حزب مثل سعاده) يجب أن يكونا بعهدة مجموعة عمل متخصصة أو هيئة حزبية... ولا مانع من، بل من المفضل أن يكون المنقب عضواً في المجموعة أو الهيئة.
وقبل المضي قدماً في موضوعنا هذا، لا بد من إيضاح بعض الظروف المحيطة بطغيان عملية التحقيق والنشر الفردية خلال السنوات القليلة الماضية. ذلك أن غياب المؤسسات الثقافية في الأحزاب السورية القومية الاجتماعية الثلاثة هو المسؤول عن قسم أساسي من ظاهرة فوضى التحقيق والنشر، وليس عملية البحث والتنقيب التي حققت إنجازات مهمة. وأود أن أشير هنا إلى أنني ساهمت شخصياً في تحقيق ونشر كتابين تضمنا رسائل لسعاده. لكنني في الحالتين كنت أتعامل مع نصوص أصلية مؤرخة بخط سعاده وتوقيعه ولا يرقى إليها الشك مطلقاً. والأهم من ذلك أنني كنت جزءاً من مجموعة ذات خبرة وتخصص في الفكر القومي الاجتماعي عموماً وفي كتابات سعاده تحديداً. ومع ذلك لم يخلُ عملنا من صعوبات وأخطاء طفيفة.
مناسبة هذا الكلام صدور كتاب جديد عن دار "فجر النهضة" (2017) للمنقب والباحث القومي الاجتماعي جان داية تحت عنوان "حياتنا الجديدة: 60 مقالة ورسالة ومقابلة مجهولة"، وهي أعمال لسعاده تندرج في سلسلة من الكتب أصدرها داية خلال السنوات القليلة الماضية بهدف جمع ونشر المجهول من تراث منشيء النهضة القومية الاجتماعية. يقول المؤلف في مقدمة عمله الجديد: "يعتبر هذا الكتاب الحلقة الرابعة في سلسلة نتاج سعاده المجهول التي أصدرت منها حتى الآن الحلقات أو الكتب الثلاثة: "محاكمة أنطون سعاده"، "رأي النهضة" و"رأي الجيل الجديد". ولعل الفرق الوحيد بين كتابي "محاكمة أنطون سعاده" و"حياتنا الجديدة" من جهة، وكتابي "رأي النهضة" و"رأي الجيل الجديد"، أن نصوص هذين غير موقعة، في حين توّجت أو ذيلت نصوص الكتابين الأول والرابع باسم سعاده الصريح، لأن النهج والمصطلحات والكلمات والعبارات واحدة في الكتب الأربعة".
أريد أولاً التأكيد على مسائل ثلاث:
الأولى، أن داية في طليعة المنقبين الباحثين الذي أغنوا المكتبة النهضوية بما كشف عنه من تراث كان سيظل ضائعاً لولا جهوده الدؤوبة.
الثانية، أن كلامنا هنا يركز على كتاب "حياتنا الجديدة"، متجنباً الدخول في النقاش الذي أثارته الكتب الأخرى.
الثالثة، أننا سنقصر ملاحظاتنا على آلية نشر تراث سعاده تحديداً من خلال النصوص الواردة في "حياتنا الجديدة"، كنموذج نقترحه لمشاريع النشر المستقبلية.
يبدأ الكتاب بأربع مقالات نشرها سعاده في صحيفة "ألف باء" الدمشقية بين 25 نيسان 1931 و5 أيار 1931، وهي على التوالي: "الحالة الحاضرة والعاصفة القادمة"، "سقوط الملكية وقيام الجمهورية في إسبانيا"، "ميثاق كيلوغ"، "الوحدة الجمركية بين ألمانيا والنمسا". والمقالات كلها موقعة، فلا يرقى الشك إلى نسبتها لسعاده. ومن حسن الصدف أنني وجدت في الأرشيف صوراً للمقالات الأصلية، ما أتاح لي فرصة المقارنة بين النص المصوّر والنص الذي نُشر في كتاب "حياتنا الجديدة". وأعترف بصراحة أنني أصبت بصدمة قاسية للغاية من جراء ما لاحظته من إهمال في آلية النشر ودقته. وقد اخترت المقالتين الأوليين فقط لإعطاء فكرة عمّا أقول.
"الحالة الحاضرة والعاصفة القادمة"
بعد الفقرة الأولى الافتتاحية (صفحة 23)، سقطت الفقرة الثانية بالكامل وهي على الشكل التالي: "خلفت الحرب العالمية وراءها حالة غير طبيعية قسمت أوروبا إلى قسمين غير متعادلين: غالب ومغلوب، وعلى هذا الأساس وضعت معاهدة فرسايل ولم يغن وجود ولسن في أوروبا وتبشيره ببنوده الأربعة عشر التي تتضمن نظريته لإيجاد سلام العالم، فتيلاً، ولم يعترض الرأي العام الأوروبي، في تلك الأثناء، على هذه الوضعية الغريبة ولم يدرك مبلغ خطورتها وخطرها على العصر الذهبي الموعود به والسلام الذي ينشده. لأن ظروف أوروبا التي تلت الهدنة كانت ظروفاً أغرب. ففي الفترة القصيرة بين معركة المارن الثانية وعقد الهدنة انقلبت الوضعية الأوروبية رأساً على عقب وأصبح المغلوب غالباً والغالب مغلوباً. حدث ذلك كله بفضل الولايات المتحدة التي أرسلت قائد جيوشها برشنغ ليقف على قبر لافييت ويناديه قائلاً:"لافييت! نحن هنا!" دليلاً على اعترافها بجميل ذلك القائد الفرنسي الذي اشترك في تحريرها من سلطة بريطانيا والعمل على استقلالها".
إضافة إلى هذا النقص، توجد أخطاء طباعية عدة: ليضع ـ يضع، الألمانيين ـ الألمانيتين، قدر ـ بقدر، فأزالت ـ وأزالت.
"سقوط الملكية وقيام الجمهورية في إسبانيا"
في هذا المقال أيضاً توجد أسطر وكلمات ساقطة:
صفحة 28 السطر الرابع: ما لا يمكن من إغفالها، سقطت كلمة من.
صفحة 29 السطر الرابع: سقطت الجملة التالية "خصوصاً بعد أن زار الملك ألفونسو رومية مستصحباً معه بريمو دي ريفيرا، وما..."
صفحة 29 السطر 21: فعدها الأدباء الإسبانيون دجالة ـ سقطت كلمة الأدباء.
صفحة 30 السطر 12: ما كانت تكون نتيجتها ـ سقطت كلمة تكون.
صفحة 30 السطر 17: نتيجة نمو الحزبين ـ سقطت كلمة نمو.
يضاف إلى ذلك أخطاء طباعية عدة: وتوليها ـ توليها، بلاسكو ـ لاسكو، بالإستغناء ـ بالإستفتاء، الخطيرة ـ الخطية...
إكتفيت بهاتين المقالتين فقط لأنهما تقدمان النموذج غير المقبول في مجال نشر الكتب بصورة عامة، ونشر تراث سعاده على وجه التحديد. لا أحد يزعم أن بالإمكان تجنب وقوع أخطاء في أي كتاب. لكن هناك فارقاً كبيراً بين أخطاء نادرة قد تعد على أصابع اليد الواحدة في كتاب، وبين النواقص والسقطات التي أشرنا إليها في مقالتين فقط. خصوصاً وأن بعض هذه الأخطاء ربما يغيّر المعنى الذي أراده سعاده، ومن الأمثلة على ذلك سقوط كلمة "الأدباء" من عبارة "فعدها الأدباء الإسبانيون دجالة..."
لا شك في أن المنقب والباحث القومي جان داية يقدم خدمة لا تقدر بثمن عندما يكشف النقاب عن تراث سعاده المؤكد، ويتيحه للدراسة والتمعن بين أيدي المؤمنين بالفكر القومي الاجتماعي. غير أن هذه المسؤولية الحيوية تتطلب آليات تحقيق دقيقة للغاية، وروية في النشر بعيداً عن التسرع الذي قد يسيء إلى المؤلف... بقدر إساءته إلى سعاده أيضاً.
|