مرّة أخرى تقرر "داعش" أن لا تخوض معركة ضد القوات التركية المدعومة ببعض الفصائل السورية المسلحة في الشمال السوري. بلدة دابق، ذات القيمة الرمزية للسلفيين التكفيريين، سُلمت طوعاً للجيش التركي وحلفائه، تماماً على غرار مدينة جرابلس قبل أسابيع ومعها عشرات القرى والمزارع المنتشرة في تلك المنطقة. وحتى لا نظلم "داعش" بالمطلق، لا بد من الإقرار بأن عناصر منها نفذوا عمليتين أو ثلاثاً استهدفت الفصائل السورية المتمركزة على المعابر الحدودية... ولكن ليس الجيش التركي!
قرار عدم الدخول في مواجهة مع الأتراك وحلفائهم من الجماعات السورية المسلحة لم يأتِ نتيجة "الجبن" و"التخاذل"، أبداً. فقد أثبت عناصر "داعش" قدراتهم القتالية على أكثر من جبهة: من عين العرب إلى تدمر، ومن الفلوجة إلى دير الزور... والآن في الموصل، وغيرها. إذن لا بد من وجود أسباب أخرى لا تتعلق بالشأن العسكري تحديداً، بل علينا أن نبحث عنها في الأبعاد السياسية والارتباطات الإقليمية لكي نستوعب طبيعة هذه الظاهرة الغريبة الملفتة للنظر، ولكي نكون - من جهة أخرى - على دراية واستعداد للمعارك الأخرى المتوقعة على الساحة السورية.
منذ أن حصلت تركيا على ضوء أخضر، خجول إلى حد ما ومشروط إلى حد بعيد، من القيادات الروسية والإيرانية والسورية للتدخل المحدود في الشمال السوري، بدأ الجيش التركي المدعوم بمجموعات من المسلحين المحليين عملية قضم تدريجية لمناطق انتشار عناصر "داعش". ولم يحدث على الإطلاق أن خاض الجانبان مواجهات عسكرية فاصلة. والسيناريو الذي كان يتكرر دائماً: طلعات جوية تركية لقصف بعض المواقع (لا أحد يعرف هوية الأهداف)، ثم تقدم للجيش التركي والمسلحين المحليين التابعين له، فمناوشات خفيفة يعقبها انسحاب عناصر "داعش"، وأخيراً عدسات المصورين تلتقط صور المسلحين المحليين وهم يهوبرون ويهزجون لـ "الإنتصارات"!
مئات من مقاتلي "داعش" يتراجعون بسلام أمام تقدم الجيش التركي، وينتقلون من قرية إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى بعوائلهم وأسلحتهم ومعداتهم ومركباتهم من دون أن يتعرضوا لأي قصف جوي لا من الطيران التركي ولا من طيران التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. وهؤلاء المقاتلون يتجمعون الآن في مدينة "الباب" ذات الأهمية الإستراتيجية للقوات الحكومية السورية، في حين يعبر قسم آخر منهم نهر الفرات متجهين إلى مدينة الرقة التي ستصبح "عاصمة دولتهم" بعد الانتهاء من تحرير مدينة الموصل وضواحيها.
إن الامتناع المتبادل عن خوض المعارك بين "داعش" والقوات التركية يمكن النظر إليه من زاويتين مترابطتين: الأولى أن أنقرة لعبت دوراً مفصلياً في نشوء "داعش" ونموها وانتشارها وتسليحها بدعم من دول خليجية عدة، ولذلك تريد الحفاظ عليها لمخططات مستقبلية. والثانية أن وجود "داعش" نفسها ما زال مفيداً كأداة مواجهة فاعلة ضد الأطراف التي تعتبرها تركيا معادية لمصالحها الوطنية، ونقصد بذلك الدولة السورية والفصائل الكردية وربما العراق وإيران في مرحلة لاحقة.
ولعل الموقف التركي المتشنج تجاه الحكومة العراقية هو خير مؤشر على العلاقة العضوية بين أنقرة و"داعش". ولكن علينا أن نوضح هنا أن "التنظيم الداعشي" في العراق هو عبارة عن مظلة تغطي مجموعات مسلحة متنوعة ليست بالضرورة جزءاً عضوياً من الخطاب التكفيري للجماعات السلفية المتطرفة. فالذين استولوا على الموصل، سواء بعامل الخيانة أو الإهمال، ينتمي قسم كبير منهم إلى بقايا حزب البعث العربي الاشتراكي (الجناح العراقي) المحظور، وقسم آخر إلى الجيش العراقي الذي أمر الأميركيون بحله بعد غزو العراق سنة 2003، وقسم ثالث إلى العشائر المتضررة من فئوية الممارسات الحكومية السابقة في بغداد، وقسم رابع إنتهازي ذو ألوان طائفية نشأ بتمويل ودعم تركي - خليجي مكشوف.
من هنا الإصرار التركي على التواجد داخل الأراضي العراقية، وكذلك على المشاركة في معركة تحرير الموصل! فالهدف من ذلك ليس المساعدة في إعادة المدينة إلى سلطة الدولة المركزية، ولا في القضاء على "الجماعات الإرهابية" التي أصبحت بمثابة قميص عثمان لكل من يريد التدخل في شؤون المنطقة... وإنما الغاية القصوى هي الحفاظ على الأوراق المحلية المتمثلة أساساً بالجماعات الناشطة في إطار "داعش". إذ أن التدخل العسكري يتيح لمن يسيطر على الأرض أن يغيّر المعادلات بتغيير "المظلة الداعشية"، فتختلف الأقنعة من دون أن تختلف الاستهدافات.
لقد أكدت المصادر العراقية المطلعة خلال الفترة الماضية أن مرحلة الإعداد الطويلة لمعركة تحرير الموصل أتاحت لـ"داعش" فرصة كافية لنقل جانب كبير من عديدها وعتادها إلى مدينة الرقة، في حين تُرك للعراقيين الموالين لها مهمة "الدفاع" عن المدينة... أو الاعتماد على التقاطعات الطائفية والعرقية والإقليمية لتسوية أوضاعهم الداخلية. وفي هذا السياق بالذات يجب وضع الحماس التركي للبقاء داخل الأراضي العراقية والمشاركة في المعركة، بل والمطالبة بالجلوس إلى طاولة المفاوضات اللاحقة، حسب تعبير الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
"داعش" أدت قسطها في الشمال السوري بعد أن سلمت المنطقة للقوات التركية وجماعاتها المحلية المسلحة. وهي ستؤدي دوراً مشابهاً في الموصل من ضمن صفقات محلية وإقليمية ودولية تعتمد أساساً على مجريات المعركة، ومدى انخراط مختلف الأطراف فيها. ولكن يخطئ من يعتقد بأن نهايتها قد حانت! فما زال أمامها مهمات في سوريا طالما أن مخطط تدمير الدولة السورية لم يصل إلى غايته القصوى بعد، وطالما أن التسوية السياسية في العراق لن تبصر النور إلا بعد إنجاز تحرير الموصل واستيعاب تبعات المعركة داخلياً وخارجياً.
إن "داعش"، كما "القاعدة" من قبلها وكما كل الجماعات السلفية التكفيرية بمناهجها الفكرية المتنوعة، نشأت لغرض وستبقى فاعلة حتى تحقيق ذلك الغرض. الأسماء ليست المقياس، بل الغايات هي المحك العملي... وإذا كنتم في شك من ذلك، فاسألوا "جبهة النصرة" كي يأتي الجواب من "جيش الفتح"!!
|