يتمايز سعاده عن كل المفكرين النهضويين والمنظرين السياسيين ومؤسسي الأحزاب العقائدية، في سورية والعالم العربي، بأنه أعطى الجوانب الأخلاقية والمناقبية في العمل الحزبي مكانة تتجاوز بأشواط الأهمية التي تُسبغ في العادة على الشؤون الفكرية والدستورية. “إن قضية النهضة السورية القومية الاجتماعية هي قضية نهوض بالأخلاق والمناقب قبل كل شيء. فالأخلاق الضعيفة والمثالب النفسية قلما قدرت على النهوض بأمة أو تغيير حالة شعب سيئة”. (“الزوبعة”، 15 تشرين الأول 1943). “بهذه المناسبة لا بد من تكرار القول: إن نهضتنا هي نهضة أخلاق ومناقب في الحياة قبل كل شيء آخر. فجميع أساليب الكلام الجميل لا يمكن أن تسد فراغ منقبة واحدة من هذه المناقب الصافية التي بها تبني الأمم عظمتها”. (“الزوبعة”، 4 تشرين الثاني 1944).
هذا الموقف المبدأي الذي كرره سعاده في عشرات المقالات والخطب والرسائل ليس نتاج فهم طوباوي مطلق للقيم الأخلاقية والمناقبية المجردة عن الواقع الاجتماعي، وإنما هو رد طبيعي للحالة المزرية التي كان السوريون يعيشونها في الوطن وفي المهجر. فالسنوات العشر التي قضاها سعاده في البرازيل (1920 ـ 1930)، والتجارب الحزبية والسياسية التي مرّ بها هو نفسه أو التي مرّ بها والده الدكتور خليل سعاده في الأرجنتين ثم في البرازيل، كشفت له عن عمق الأزمة النفسية الروحية الضاربة في أوساط السوريين أينما كانوا.
من الطبيعي أن يربط سعاده بين حالة الانحطاط العامة في سوريا وبين ضياع الهوية القومية وغياب الوجدان الاجتماعي، الذي يشكل أحد أهم أسباب حدوث ترجرج في المناقب والأخلاق. “أفراد رُبي كثيرون منهم على المكر والدهاء يعرفون من أين تؤكل الكتف، فضلاً عن أنهم لا يحجمون عن إتيان الصغائر في سبيل غاياتهم ومآربهم. فكانوا ولا يزالون يتلاعبون بأفكار الأمة وعواطفها تلاعب الصبيان بالأكر، بعضهم بما أوتيه من التملق والاستمالة والبعض الآخر بما فطر عليه من المكر والدهاء”. (“الحرية وأم الحرية”، 14 تموز 1923). غير أن ضياع الهوية وغياب الوجدان وحدهما لا يفسران بصورة كاملة نفسية الانحطاط العامة التي تكشفت لسعاده في البرازيل ثم في الوطن وبعد ذلك في الأرجنتين.
إن العمل “الوطني” الميداني بين بيروت ودمشق بعد عودة سعاده إلى الوطن سنة 1930 أظهر له أن نفسية الانحطاط نخرت في روحية معظم طبقات المجتمع السوري، خصوصاً تلك الفئات التي تنطحت لقيادة الأمة قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. وسرعان ما أدرك سعاده أن معركة انتزاع سيادة الأمة السورية على نفسها من أيدي المستعمرين الفرنسيين والإنكليز لا يمكن الانتصار فيها بوجود قوى داخلية، وصفها لاحقاً بأنها تحمل “نفسية عهد الانحطاط الفاقدة الثقة بمواهب شعبها ومصير أمتها، المستسلمة لعوامل التفسخ والتفكيك والتفريق”. (نداء الزعيم، أول حزيران 1940)… إذ لا خلاص للأمة إلا بفضيلة أساسية تقوم على مبدأ ثقة القوم بأنفسهم.
يصف سعاده في “الخطاب المنهاجي الأول” الذي ألقاه في أول حزيران 1935، وكان الحزب بعد في مرحلته السرية، حالة المجتمع السوري والعوائق التي واجهته في عملية التأسيس. يقول: “وأول ما يعترضنا من الصعوبات الداخلية هو خلو مجموعنا من تقاليد قومية راسخة نتربى عليها ونتمسك بها. فنفسياتنا الشخصية هي دائماً على تضارب مع نفسيتنا العامة في كل ما له علاقة بقضايانا العامة وكيفية التصرف فيها”. ثم يعود إلى الموضوع ذاته بشكل أكثر حدة ووضوحاً في خطاب الأول من آذار 1938: “أما الظروف الروحية النفسية المتولدة من هذه الحوادث ومن الظروف السياسية الاقتصادية المتأتية عنها فهي ظروف انحطاط في المناقب عز نظيره. فإن فقد الثقة بالنفس وبقوى الأمة وإمكانياتها السياسية والاقتصادية، والاستسلام للخنوع، أنشأ طائفة من المأجورين للإرادات الأجنبية القريبة والبعيدة يغذون الأفكار بسموم فقدان الثقة بمستقبل الأمة والتسليم للأعمال الخارجية والحالة الراهنة. فإذا النفسية العامة في الأمة نفسية خوف وجبن وتهيّب وتهرّب وترجرج في المناقب والأخلاق. ومن صفات هذه النفسية العامة الخداع والكذب والرياء والهزؤ والسخرية والاحتيال والنميمة والوشاية والخيانة وبلوغ الأغراض الأنانية، ولو كان عن طريق الضرر بالقريب وعضو المجتمع”.
إذا كانت هذه هي الحالة النفسية الروحية للغالبية العظمى من السوريين، فما هي الآليات الضرورية لتحقيق النهضة القومية الاجتماعية بوصفها غاية أي عمل حزبي إنقاذي؟
نحن نرى أن عملية التأسيس عند سعاده تقوم على ثلاث ركائز: مبادئ واضحة تشكل مدرسة عقائدية متكاملة، وإنسان جديد يحمل القيم الأخلاقية والمناقبية ويمارسها في السياق المجتمعي، ومؤسسات دستورية تحضن تلك المبادئ وتؤطر الإنسان الجديد في مسيرة تصاعدية نحو الأفضل والأجمل والأسمى. لذلك كان سعاده يرى “أن قوة الحزب السوري القومي الاجتماعي (…) هي قوته الروحية ـ قوة نظامه العقدي”. (“محاضرة في المدرسين”، تموز 1948). وبالتالي فإنه لا معنى للمؤسسات الإدارية إذا ما تلكأت في تحقيق مستلزمات القوة الروحية، قوة النظام العقدي. ولكي تنجح تلك المؤسسات في حمل تبعات القوة الروحية، فإنها بحاجة إلى بناء الإنسان المناقبي الجديد، إنسان النهضة القومية، إنسان المثال الأعلى. وصولاً إلى نشوء الجماعة الموحدة العوامل النفسية المادية.
نسبياً، كان من “السهل” على سعاده إنشاء العقيدة القومية الاجتماعية وتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، فهما إطاران حاضنان للفعل الإنساني ويخضعان لظروف موضوعية معينة. أما تغيير نفسية الانحطاط العامة المحمّلة بقرون من فقدان الوعي القومي لدى السوريين، فهذه من أعقد المسائل الاجتماعية الروحية. وقد واجهها سعاده في أطار ما نسميه “التأسيس النفسي”، ونقصد به بناء الرعيل الأول من أعضاء الحزب فرداً فرداً قبل الانتماء إلى الحزب وبعده. وعندما تم تأسيس الحزب، أوجد سعاده النظام الذي يفسح المجال لبروز مواهب الأعضاء في سياق مناقبي تصاعدي. ومن ناحية أخرى يُعتبر النظام نوعاً من المصفاة لنبذ كل سقوط وانحراف، وتنقية الحركة القومية من “جراثيم النفسية العتيقة ومثالبها”: “إن للحزب القومي الاجتماعي انتفاضات دورية يطرح بها كل وهن وكل جبن وكل التواء يعلق به في مراحل سيره نحو الانتصار”. (“نعمة ثابت بطل الخيانة”، 5 آب 1947). وهاتان الناحيتان، بناء العضو المناقبي وبتر العضو الفاسد، هما من أهم واجبات أية مؤسسة حزبية لجهة “التأسيس النفسي” المتواصل.
لكن من الضروري الإشارة هنا إلى أن الممارسة المناقبية للقوميين الاجتماعيين ليست شأناً داخلياً، أي أن تكون نوعاً من “التقية” المتقوقعة على ذاتها الحزبية. أبداً… الأخلاق والمناقب القومية الاجتماعية هي ممارسة حياتية يومية في كل شؤون المجتمع بالقول وبالفعل، لأن الهدف ليس التمايز الظاهري عن “الآخرين” بل التأسيس لنفسية نهضوية تقضي على نفسية الانحطاط. إنها مواجهة جذرية حاسمة بين نهضة العز ونهضة الذل. إنها “صراع موت وحياة بين يقظة الوجدان القومي وعماوة مثالب الانحطاط”، ولا منزلة وسيطة بينهما. “أما النفسية السورية القومية فتريد شيئاً غير الترقيع وتعمل لتنفيذ إرادتها بكل عزيمة صادقة. إنها تريد ما يليق بمقامها وما تراه مثالاً أعلى لها، فتسعى لتحقيقه وتبذل كل مرتخص وغال في سبيل تحقيقه، فلا تكل ولا تني ولا تقبل حلاً وسطاً، فإما بلوغ الغاية وإما لا شيء من هذه الحالات المهترئة التي يفضلها الموت”. (“نفسيتان تتصارعان”، 14 تشرين الأول 1939).
|