تتسابق مشاريع عديدة في رسم مشهد سيطرة المجموعات المسلحة على المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق في مثلث «حلب ـــ إدلب ـــ حماة». وتحظى كلّ تلك المشاريع بحضور «جهادي»، ولو في صورة مستترة. وفيما تُبذل جهود للتوفيق بين اثنين من المشاريع، ينفرد مشروع «القاعدة» بنفسه
لا وقت لالتقاط الأنفاس في إدلب. على رغم أن قعقعة السلاح قد خفتت بين «الإخوة الأعداء»، لم تتوقّف المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق في مثلث «إدلب ـــ حلب ـــ حماة» عن الغليان منذ مطلع العام الحالي. غليانٌ تعود أسبابه في المقام الأول إلى «صراع مشاريع»، منها ما هندسَتْه أجهزة إقليمية، ومنها ما تسعى إلى تمكينه مجموعات وفصائل محلية، ومنها ما تطمح إليه «قيادات» وخلايا و«مجالس شرعية». ثمة قاسم مشترك أساسي بين كل تلك «المشاريع» هو «جبهة النصرة/ هيئة تحرير الشام»، التي ابتلعت معظم مناطق «المثلث»، إثر آخر جولات «صراع الإخوة الأعداء»، قبل أن يُشاركها «فيلق الشام» حصاد الجولة (راجع «الأخبار»، 16 كانون الثاني).
يقوم أحد المشاريع المطروحة على إيجاد صيغة «اندماجية» مخفّفة بين «الهيئة» و«الفيلق»، من دون أن يتمّ التوافق على تلك الصيغة حتى الآن. وكانت الفكرة التي طُرحت أول الأمر تنصّ على اندماج الجماعتين اندماجاً عسكرياً، مع احتفاظ كلّ منهما بهيكليته الخاصة، على أن يتولى الكيان العسكري المُفترض السيطرة العسكرية على معظم مساحة إدلب، وكامل الريف الغربي لحلب، وأجزاء من ريف حماة. وتقتصر مسؤوليات «الكيان» على ضمان السيطرة على تلك المناطق، والانتشار على خطوط التماس، من دون التدخل في عمل «حكومة الإنقاذ» (المحسوبة على «النصرة»). ويلحظ المشروع ضرورة إجراء تعديلات على الأخيرة بما يضمن توزيع الحصص فيها، عبر إدخال شخصيات محسوبة على «الفيلق». يحظى هذا المشروع بحماسة تركية، وهو في واقع الأمر إعادة إحياء لفكرة سبق طرحها في أيلول/ سبتمبر الماضي، مفادُها إنشاء جسم عسكري منشقّ عن «النصرة» يحمل اسم «جيش حلب»، في خطوة لـ«تقسيم إرث الجولاني»، وعزل المجموعات «القاعدية» نهائياً، تمهيداً لإخراجها من المشهد (راجع «الأخبار» 13 أيلول).
**يرى المشروع القطري أن وجود الجولاني كفيل بتذليل كثير من الصعوبات**
وفيما كان المشروع التركي القديم يمهّد لعزل الجولاني عن أي تأثير محتمل على التشكيل الجديد، دخل على الخطّ مشروع قطري يُعدّ الجولاني بموجبه «ركناً أساسياً» في مستقبل المنطقة. وجهدت الدوحة، في خلال الشهرين الأخيرين، للعودة إلى المشهد السوري بقوة من نافذة «النصرة» تحديداً (راجع «الأخبار» 8 كانون الثاني). ويرى المشروع القطري أن وجود الجولاني كفيل بتذليل كثير من الصعوبات أمام تشكيل جسم عسكري «اندماجي» جديد. ويلحظ المشروع ضرورة أن يُنشأ الجسم على مبدأ «المحاصصة» بين معظم المجموعات الموجودة، بما في ذلك «مَن يرغب» من المجموعات «القاعدية»، على أن «ينتدب كلّ فصيل عدداً من المقاتلين يتناسب مع حجمه العسكري، ليكون الجسم الجديد مُشكّلاً من اجتماع المُنتدبين، لكن بقيادة عسكرية مستقلة، ومن دون أي تدخل لبقية المجموعات في عمله». ويرى المشروع القطري أن كسب الجولاني داعماً للمشروع وشريكاً في إنجازه، سيعني موافقة كثير من المجموعات «القاعدية» على دعم التشكيل العتيد. وعلى رغم أن العلاقات قد ساءت بشكل كبير بين الجولاني وكثير من المرجعيات «القاعدية»، إلا أن «للجولاني مكانة عند قطاع واسع من المهاجرين، حتى في المجموعات الأخرى»، على ما يؤكده لـ«الأخبار» مصدر «شرعي» يقوم بجهود الوساطة لإمرار المشروع القطري. ويولي المشروع اهتماماً خاصاً للشخصية التي يُفترض التوافق حولها لتزعّم الجسم الموعود، ولا تحظى الخيارات المحسوبة على «فيلق الشام» بالقبول. وتشير المعلومات المتوافرة إلى جهود تُبذل للخروج بمشروع هجين، يوائم بين الرؤيتين القطرية والتركية. وعاد إلى التداول أخيراً اسم حسن صوفان، القائد العام السابق لـ«حركة أحرار الشام الإسلامية»، بوصفه شخصية توافقية تحظى بقبول جيد لدى «الإخوان» و«السلفيين»، بنسب متفاوتة.
«القاعدة»
لا يزال تنظيم «القاعدة» حاضراً بقوة في إدلب. وعلى رغم أن قيادة التنظيم الأم لم تعد مواكبة لأدق التفاصيل، إلا أن ممثليها وصلوا إلى صيغة توافقية لـ«إدارة شؤون الجهاد الشامي»، حظيت بمباركة زعيم التنظيم، أيمن الظواهري. وحرص تنظيم «حراس الدين» على كسب بقية المجموعات، من دون إلزامها بضرورة التبعية الإدارية له، على أن يكون له التمثيل الأكبر داخل «مجلس شرعي» يضمّ أربعة ممثلين عنه، إضافة إلى ممثل عن «جبهة أنصار الدين»، وآخر عن «الكتائب القوقازية»، وثالث عن «غرباء التركستان». ومع أن «الحزب الإسلامي التركستاني» غير ممثَّل ولا ملتزم بقرار «المجلس»، فإن العلاقة بين الطرفين ظلّت مقبولة، وبقي التواصل الدائم بينهما قائماً عبر ممثل «الغرباء». ويستشعر «حراس الدين» خطراً داهماً في كل المشاريع المطروحة على الطاولة اليوم، ويحذو حذوه كامل «المجلس القاعدي». ويبدو أن القرار قد حُسم لجهة عدم الاكتفاء برفض المساهمة في إنشاء أي كيان جديد، بل والعمل على محاربة محاولات الإنشاء. وتفيد معلومات «الأخبار» بوجود مساعٍ حثيثة يبذلها «حراس الدين» لتأليب عدد من قيادات «المهاجرين» داخل «تحرير الشام» على زعيمها. ولا تتبلور صيغة تامة الأركان لمشروع كامل لدى «الحراس»، لكنه يطمح إلى مفاقمة انقسامات الرأي داخل «الهيئة» ووصولها مرحلة الانشقاقات، أملاً في كسب المنشقّين.
إضافة إلى ما تقدّم، تجدر الإشارة إلى وجود مشروعات أخرى طرفية، لا تمتلك مقومات مجابهة المشاريع المذكورة أعلاه، لكنها قادرة على التأثير فيها. وتتفرّع معظم المشاريع الصغيرة عن الانقسامات في الرؤى داخل المجموعات المسلحة، لا سيما داخل «هيئة تحرير الشام».
تصعيد «قاعدي» ضدّ الجولاني
خرجت إلى العلن أخيراً بعض انعكاسات الصراع الدائر وراء كواليس إدلب، في صورة «بيان» صادر عن اثنين من أبرز قياديي «النصرة» سابقاً: الأردني سامي العريدي، والسوري أبو الهمام الشامي (سمير حجازي). وكشف البيان عن طروحات تلقّاها تنظيم «حراس الدين» من قيادات «تحرير الشام»، تتمحور حول إنشاء «مجلس عسكري» بقيادة «ضابط من الجيش الحر أو فيلق الشام»، علاوة على «عدم ممانعة فتح الأوتوستراد الدولي للنظام»، في إشارة إلى استعداد «الهيئة» لتطبيق الأجزاء العالقة من توافقات «أستانة» و«سوتشي». ثمة تفاصيل لافتة عديدة تقتضي التوقف عندها في البيان المذكور، وعلى رأسها أن العريدي والشامي لم يكتفيا بـ«فضح» نيّات «الهيئة»، بل ذهبا نحو التصعيد معها؛ إذ تضمن البيان اتهامات مبطنة للجولاني بـ«التخاذل». كما قرر القياديان السابقان الخروج عن صمتهما، والمطالبة بـ«سلاحهما وحقوقهما» عند «الهيئة»، في إشارة إلى الأحداث التي تلت «الطلاق الجهادي» بين الجولاني و«القاعدة». وبدا طبيعياً أن يخاطب القياديان عدداً من أبرز المرجعيات «القاعدية» طلباً للتحكيم «الشرعي» بينهما وبين غريمهما. ولم يمهر القياديان بيانهما باسم «حراس الدين» أو صفتيهما فيه، لكن البيان حمل الرقم 4، في إشارة واضحة إلى كونه حلقة في سلسلة بيانات «الحراس».
|