تواصل «هيئة تحرير الشام» إحكام قبضتها على محافظة إدلب، مستعينة بذراعها الإدارية الأبرز، «حكومة الإنقاذ». وتتابع الأخيرة العمل على «تمكين الشرع»، فيما يتزايد الحديث عن خطط إقليمية لدمجها بـ«الحكومة المؤقتة»، على أن تحظى كلّ منطقة من مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة دمشق بـ«لا مركزية إدارية»!
لا تضيّع «هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة» الوقت أبداً. الجماعة المتطرفة التي هيمنت على معظم المساحات الخارجة عن سيطرة دمشق في «مثلث الشمال» مطلع العام الحالي، تواصل الاشتغال بجهد دؤوب على مشروع «التمكين»، بمختلف الوسائل. وتشي المعلومات المتوافرة بوجود توافق غير معلن بين «تحرير الشام» و«فيلق الشام»، يتيح للأولى الانفراد بتثبيت أسس السيطرة على إدلب وأجزاء من ريف حماة الشمالي، مع إبقاء ريف حلب الغربي (يهيمن عليه «فيلق الشام» مع حضور أقلّ لـ«النصرة») خارج هذه الخطط مرحلياً. ليس الحديث هنا عن سيطرة عسكرية، فهذه باتت شبه مُطلقة لـ«تحرير الشام»، بل يتعدّاها إلى إحكام القبضة «الإدارية» بما يتوافق مع «أحكام الشرع»، ويضمن هيمنة رجال أبو محمد الجولاني على مختلف مناحي الحياة، بالاستعانة بأداة شديدة الفعالية اسمها «حكومة الإنقاذ». وبرغم أن الخطاب المُعلن لـ«تحرير الشام» يزعم تسليم المسؤوليات الإدارية لـ«الإنقاذ» من دون التدخّل في عملها، فإن كواليس إدلب تكشف عن تنسيق عالي المستوى بين الطرفين، بما يخدم التأسيس لـ«إمارة أمرٍ واقع».
«لباس شرعي» وجباية
عمّمت «رئاسة جامعة إدلب» التابعة لـ«حكومة الإنقاذ»، أمس، قراراً يُحتّم على الطالبات والموظفات في الجامعة التقيّد التام بـ«اللباس الشرعي المحتشم». القرار حدّد شروط «الاحتشام» بـ«لباس فضفاض ساتر لجميع البدن، بلا زينة»، و«عدم لبس الكعب العالي»، و«عدم وضع مساحيق التجميل على الوجه واليدين»، و«عدم وضع العطور أو رفع الشعر (تحت الحجاب) بطريقة مخالفة شرعاً». وهدّد التعميم المخالفين بالعقوبات والإجراءات القانونية حال التكرار، كما حصر مسؤولية متابعة تنفيذ التعليمات بـ«مشرفة المكتب الدعوي في الكلية أو المعهد». وحظيت الخطوة بـ«مباركة» من عدد من وجوه «تحرير الشام» البارزة، وعلى رأسها «عضو مجلس شورى الهيئة» أبو الفتح الفرغلي (المصري يحيى طاهر فرغلي).
*أبرز الأسماء المطروحة لترؤس «الحكومة المشتركة» هو أنس العبدة*
وتأتي تلك الخطوة في إطار مساعي «الإنقاذ»، ومن خلفها «تحرير الشام»، إلى فرض «ضوابطهما» على قطاع التعليم في شكل خاص (راجع «الأخبار» 20 شباط 2019). وتترافق هذه الإجراءات مع تعزيز «الإنقاذ» قبضتها على كلّ المفاصل الخدمية والجبائية، ولا سيما ما يتعلق بتجارة المحروقات (المستمرة في التدفق من مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»)، ورسوم وضرائب قطاعَي المواصلات والنقل، علاوةً على بيع الكهرباء (أمبيرات الاشتراك). ومع أن الخطوات لا تبدو مفاجئة في حدّ ذاتها، فإنها تكتسب أهمية خاصة في إطار «سباق المشاريع» الذي انطلق في إدلب مع بداية العام الحالي («الأخبار» 1 شباط 2019).
«حكومة مشتركة»؟
أبرز ما يستوجب الوقوف عنده في ما تقدم، استعجال «حكومة الإنقاذ» فرض قوانينها الخاصة، بالرغم من الحديث المستمر عن «تعديلات» قد تلحق بالمشهد «الإداري» في الشمال الخارج عن سيطرة دمشق. وتزايدت الأنباء عن صيغة توافقية جارٍ البحث فيها، لدمج «الحكومة المؤقتة» (تحضر في مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون»)، بنظيرتها «الإنقاذ». وبرغم الإغراء الذي تمثّله السيطرة المطلقة لـ«تحرير الشام» على المشهد، فإنها تبدو مضطرة إلى القبول بـ«حلول توافقية»، استجابة للضغوط الإقليمية من جهة، وحرصاً على استمرار دعم المنظمات الأجنبية من جهة أخرى. وكانت معظم المنظمات (أوروبية وأميركية) قد علّقت نشاطها إبّان فورة «تحرير الشام» الأخيرة، قبل أن تقرّر قبل أسبوعين مواصلة عملها.
أما أبرز الأسماء المطروحة للتربع على رأس «الحكومة المشتركة»، فهو اسم «رئيس الائتلاف المعارض» السابق أنس العبدة، المحسوب على الخطّ «الإخواني» في المعارضة السورية. وتؤكد مصادر معارضة وأخرى «جهادية» أن «العبدة قد عقد لقاءات عدة مع مسؤولين في الإنقاذ، وآخرين ينتمون صراحة إلى النصرة» للغاية المذكورة. ويصعب تصوّر تطبيق «قوانين» واحدة في «إمارة النصرة» غير المعلنة في إدلب، ومنطقتي الاحتلال التركي «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، إذ تميل كفّة التشدد إلى مصلحة «النصرة» بلا شك. لكن هذا التفصيل لا يمثّل «معضلة مستعصية»، وفقاً لمصدر معارض مواكب لما يدور وراء الكواليس. ويوضح المصدر لـ«الأخبار» أن «إحدى الصيغ المطروحة لدمج الحكومتين، تتضمن تكريس لامركزية إدارية، بحيث تُدار كل منطقة وفق آليات محلية خاصة، بما لا يتعارض مع القوانين العامة».
رهان «الأمن» و«المهاجرين»
يمثّل الفلتان الأمني قاسماً مشتركاً بين كل المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق في الشمال. وفيما تتزايد أعمال النهب والسرقة في مناطق «الحكومة المؤقتة» (ريف حلب الشمالي)، مترافقة مع الخطف والتصفيات، تتزايد التفجيرات والهجمات الانتحارية في مناطق «الإنقاذ» في إدلب. وتظلّ الأخيرة مفتوحة على احتمالات صدامات واسعة النطاق بين «تحرير الشام» وعدد من المجموعات «الجهادية» الأخرى، برغم التبريد الظاهري لهذا الملف. وتزايدت في الأيام الأخيرة الاتهامات المتداولة في الكواليس «الجهادية» لـ«تحرير الشام» باستهداف «المهاجرين» (وهم «الجهاديون» غير السوريين). وتذهب مصادر «جهادية» إلى حدّ الحديث عن «حملة ممنهجة أطلقتها الهيئة لتصفية المهاجرين، اعتقالاً وقتلاً»، وعن استنفار أمني لهذه الغاية.
أما على أرض الواقع، فيبدو أن «الهيئة» تعمل على «فرز المهاجرين» إلى صنفين أساسيين: «صالح» يضمّ رجالها والمحسوبين عليها، و«طالح» يضمّ أعضاء المجموعات «الجهادية» الأخرى، في تمهيد لمرحلة تالية «لا بدّ منها». ولا تقتصر «الهموم الأمنية» لـ«تحرير الشام» على «الجهاديين» غير المحسوبين عليها، بل تتعدّاهم إلى كل المجموعات والهيئات الأخرى. واقتحم عناصر «الهيئة» قبل يومين «المكتب الأمني للشرطة الحرة» في قلعة المضيق (ريف حماة الشمالي)، الذي يعدّ «آخر مراكز الشرطة الحرة في مناطق سيطرة الهيئة». ووضعت مصادر معارضة الخطوة في إطار حرص «الهيئة» على «استكمال انتزاع كل السلطات الأمنية في قرى سهل الغاب وجبل شحشبو وقلعة المضيق».
|