جرياً على المعتاد عند كل منعطف ميداني، من المتوقّع أن تترك هزائم المجموعات المسلحة في معارك «جيب إدلب» الأخيرة انعكاساً على خريطة الفصائل، سواء لجهة سيطرتها ومراكز قوتها الجغرافية، أو على صعيد تحالفاتها وعداواتها
ضربت خريطة المجموعات المسلحة في «جيب إدلب» موعداً مع مشهدية جديدة، تبدو حتمية الارتسام، بوصفها واحداً من منعكسات التقدم المطّرد للجيش السوري وحلفائه في ريفي حماة وإدلب. ولم تشذّ الأجواء في كواليس المجموعات المسلحة في خضمّ المعارك الراهنة عن المألوف في حالات كهذه. تبادُل الاتهامات حاضر بشدة، شأنه شأن تخندق المجموعات في تكتلات، يضمر بعضها العداء لبعضها الآخر.
«النصرة»: الهزائم لا تفسد لـ«السطوة» قضية!
ليست هذه المرة الأولى التي تذوق فيها «هيئة تحرير الشام/ النصرة» طعم الهزيمة، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة. ويذخر سجل «فتية الجولاني» بهزائم كبرى في جغرافيات مختلفة، إلى حدّ يمكن القول معه إن «النصرة» لم تحقق انتصارات حقيقية في السنوات الثلاث الماضية، إلا في معارك «الإخوة الأعداء» التي تخوضها بين وقت وآخر ضدّ مجموعات مسلحة أخرى. على أن كل الهزائم السابقة لم تؤدّ إلى انحسار هيمنة «النصرة»، وكانت دائماً ما تجد وسائل تعيد عبرها تكريس سطوتها وتفوقها على بقية المجموعات. وعلى رغم الهزائم الراهنة، لا تزال «النصرة» حاضرة بقوة في محافظة إدلب، وبدرجة أقل في ريف حلب الغربي (يُنافسها بصمت «فيلق الشام»). والواقع أن معظم المناطق التي خسرتها المجموعات المسلحة في المعارك الأخيرة لم تكن تُعدّ نقاط نفوذ مطلقة لـ«النصرة»، التي تتشبّث بقوة بمدينة إدلب ومحيطها، وريفها الغربي، وصولاً إلى مشارف جسر الشغور وريفها الشمالي الشرقي، امتداداً نحو ريف حلب الغربي، وريفها الشمالي الغربي، وصولاً نحو الحدود. وتؤكد معلومات متقاطعة حصلت عليها «الأخبار» من مصادر مختلفة أن «النصرة» تولي اهتماماً خاصاً في الفترة الراهنة لتحصين تمركزاتها في مناطق «غرب أوتوستراد حلب دمشق»، بصورة تُذكّر بما آلت إليه الأمور عقب معارك «شرق السكة»، والتي يمكن عدّها ممهداً فعلياً لمعارك اليوم (انطلقت أوائل عام 2018، وأفضت إلى استعادة الجيش مطار أبو الضهور، ومساحات من ريف إدلب الشرقي/ راجع «الأخبار» 9 كانون الثاني 2018).
«فيلق الشام» الحاصد الصامت!
بصمت لافت، نجح «فيلق الشام» في تعزيز حضوره في المشهد العسكري، ومن دون الاضطرار إلى خوض معارك كبرى منذ سنوات. كان تشكيل «الجبهة الوطنية للتحرير» واحدةً من أبرز خطوات توسيع نفوذ «الفيلق» الذي يُعدّ الممثل العسكري الأبرز لـ«جماعة الإخوان المسلمين»، ويُحسب على أنقرة بشكل تام. استفاد «الفيلق» من معارك التصفية التي شنّتها «تحرير الشام» ضدّ «حركة نور الدين زنكي»، وورث سريعاً مناطق سيطرة الأخيرة في ريف حلب الغربي (راجع «الأخبار» 16 كانون الثاني 2019). عُقدت محادثات طويلة وفي نُسخ متعددة بين «الفيلق» و«جبهة النصرة»، بغية الوصول إلى حالة توفيقية تُفضي إلى تشكيل «كيان اندماجي جامع»، غير أنها لم تُتوّج بالنجاح لأسباب كثيرة، من بينها حرص زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني على عدم خسارة البنية التنظيمية لجماعته، علاوة على حسابات معقدة يفرضها وجود «المهاجرين» («الجهاديون» غير السوريين) في صفوف «النصرة». المؤكد أن مساعي «الفيلق» لم تتوقف بعد، وأن خططاً أخرى للاندماج يتم العمل عليها وراء الكواليس، مع تغيير جوهري مفاده التركيز على «الاندماج الإداري»، عبر السعي إلى دمج «حكومة المؤقتة» بـ«حكومة الإنقاذ» (راجع «الأخبار» 7 آذار 2019). تؤكد معلومات «الأخبار» أن «الفيلق» دشّن قبل شهرين جولة محادثات جديدة في هذا الشأن، تواصل خلالها مع مختلف الأطراف، وصولاً إلى التواصل مع أشخاص بعينهم والخوض في تفاصيل تسلّمهم «حقائب حكومية» في التشكيل الموعود.
«الحلقة الأضعف» في ما آلت إليه خريطة السيطرة العسكرية اليوم هي «جيش العزة»
وعلى رغم أن الظروف الراهنة تعيق ظاهرياً المضيّ في خطط من هذا النوع، فالثابت أن خطط «الفيلق» لا ترتبط بالوقت الراهن، بل ترمي إلى ترتيب أوراق المراحل المقبلة.
«القاعدة» و«الغد الغامض»
علاوة على «تحرير الشام»، التي تظلّ شديدة التمسك بـ«العقيدة الجهادية»، تبرز مجموعات «جهادية» أخرى. الفارق بين الطرفين أن خيار «تحرير الشام» ذهب ــــ منذ خروج خلافها مع «القاعدة» إلى العلن ــــ نحو استبعاد خطاب «الجهاد العالمي» من أدبياتها، والتزام خطاب يؤكد «سورنة جهادها». وخلافاً لذلك، تتشبّث الجماعات الأخرى بـ«عولمة الجهاد»، وتعلن ولاءها لتنظيم «القاعدة». على رأس تلك المجموعات، يأتي تنظيم «حرّاس الدين»، الذي يُعدّ بمثابة ممثل رسمي لـ«القاعدة» في سوريا. في شباط الماضي، وصلت العلاقة بين «الحرّاس» و«تحرير الشام» إلى حافة الاحتراب (راجع «الأخبار» 8 شباط 2019)، قبل أن يتم احتواء الموقف لاحقاً. أفرزت تطورات تلك المرحلة تعزيزاً لصراع نفوذ غير معلن داخل «الحرّاس» بين جناحين: سوري، وغير سوري (أردني في الدرجة الأولى). اللافت أن الشهرين الأخيرين شهدا خسارة التنظيم المتطرف عدداً من أبرز الوجوه القيادية «المهاجرة» المناهضة لمهادنة الجولاني، والمعارِضة في الوقت نفسه لأي تفاهم مع أنقرة. وتلا ذلك دخول «حراس الدين» على خط التفاهم مع «تحرير الشام» في معارك «جيب إدلب» عبر غرفة «وحرّض المؤمنين»، التي تضمّ أيضاً «جبهة أنصار الدين» وهي «قاعدية» الولاء، وترافق ذلك مع صدور بيان عن «التنظيم الأم» يدعو «مبايعيه» إلى «النفير ونبذ الخلافات». يبدو جلياً أن «حراس الدين» و«أنصار الدين» يتشاطران غموضاً في مسيرتهما المستقبلية داخل سوريا، بخلاف «تحرير الشام» التي تمتلك خيارات أوسع. بينما ينفرد «الحزب الإسلامي التركستاني» بخصوصية معقدة يفرضها ارتباطه الكبير بأنقرة، وحرصه في الوقت ذاته على عدم التحلل من «بيعتين» لتنظيمي «طالبان»، و«القاعدة». يسيطر «التركستاني» على مدينة جسر الشغور الاستراتيجية (ريف إدلب الغربي)، إضافة إلى عدد من القرى والبلدات، كما يحضر بقوة على جبهات ريف اللاذقية الشمالي، ويحتفظ بعلاقات تحالف وطيدة مع «تحرير الشام»، وقد خاض اشتباكات ضارية في المعارك الأخيرة ضد الجيش السوري.
«جيش العزّة»: العد العكسي؟
«الحلقة الأضعف» في ما آلت إليه خريطة السيطرة العسكرية اليوم، هي «جيش العزّة» الذي ضاقت نقاط سيطرته كثيراً، وتجمّعت «كتلته الصلبة» في محيط نقطة المراقبة التركية في مورك، ليرتبط مصيره برغبات أنقرة. كان «العزة» أحد الرافضين للاندماج في «الجبهة الوطنية» (تشكلت في أيار من العام الماضي). وجاء ذلك في إطار محاولات قادته الحفاظ على نفوذهم، واللعب في «مساحة استقلال» تتيح لهم الإفادة من حظوتهم عند الأميركيين، بغية التمايز عن المجموعات القابعة تحت العباءة التركية بشكل مباشر. في الوقت نفسه، حرص «العزة» على عدم تأزيم الأجواء مع «هيئة تحرير الشام»، لإدراكه أنها أشد المؤهلين لتصفية أي فصيل، فارتبط معها بتفاهمات غير معلنة في شأن المناطق التي يحضر فيها الطرفان، أو يتجاوران. لم تمنع تلك التفاهمات من تبادل الطرفين الاتهامات على وقع تقدم الجيش في المعارك الأخيرة، ويسود اعتقاد راسخ لدى «جيش العزة» مفاده أن «غدر تحرير الشام كان سبباً مباشراً في الاضطرار إلى الانسحاب من التمركزات الفاعلة» (راجع «الأخبار» 15 آب 2019).
الخيارات المتاحة اليوم أمام «العزة» ليست كثيرة، وتنحصر في الاندراج تحت «العباءة التركية»، ما سيتمخض عنه انضواؤه في «الجبهة الوطنية»، على الأرجح، أو الدخول تدريجياً في طور التشرذم، وربما الاضطرار لاحقاً إلى خوض مواجهات مع «تحرير الشام» بذرائع لن يصعب إيجادها، ما قد يمهد غالباً إلى تفكك «العزة»، وتفرّق من تبقى من مقاتليه بين الفصائل.
|