يبدو خريف عام 2019 مؤهّلاً لانتزاع لقب «الخريف الأخير» من عمر الحرب السورية، ولا سيما بالمعنى العسكري. المفارقة أن هذا الخريف مؤهل في الوقت نفسه ليكون خريف أنقرة في سوريا. توحي بذلك تطورات العلاقة بين دمشق و«قسد»، كما إصرار معظم الأطراف الدولية الفاعلة على دفع مسار عمل «اللجنة الدستورية» نحو الأمام
هي أشهر حاسمة من عمر الحرب السورية بلا شك. التسارع المطّرد للأحداث بلغ في خلال الأسبوعين الأخيرين ذروة لم يشهدها الملف منذ سنوات. يجدر، هنا، توسيع العدسة قليلاً، لتشمل إلى جانب تطورات شرقي الفرات معطيات أخرى سبقتها، مثل تشكيل «اللجنة الدستورية»، وفتح معبر القائم الحدودي بين سوريا والعراق، مروراً بقرار الانسحاب الأميركي، وصولاً إلى إعادة ترسيم العلاقة بين دمشق و«قوات سوريا الديموقراطية»، وما يمكن أن تفضي إليه من اتفاقات حاسمة. وكما كان متوقّعاً، مهّد شهر أيلول الماضي لتحوّلات فارقة في المشهد بأكمله، بما يوحي بأن أنقرة قد تكون أبرز الخاسرين، بعدما اختبرت في شهر آب واحدة من أسوأ مراحل انخراطها في اللعبة السورية (راجع «الأخبار» 31 آب 2019 https://al-akhbar.com/Syria/275730). وعلى رغم أن العدوان التركي المسمّى «نبع السلام» بدا في لحظة ما فرصة لقلب الطاولة بما يخدم مصالح تركيا، فإن التطورات المتسارعة تشي بما يعاكس ذلك.
ثمة مساران مترابطان سيتبادلان التأثير في الأشهر الثلاثة المقبلة على الأقلّ: سياسي، وميداني. الثاني هو الأهمّ مرحليّاً، وتدور مجريات فصله الأول في شرقي الفرات، فيما تنتظر إدلب شرارة كفيلة بتدشين فصله الثاني. بطبيعة الحال، سيكون تأثير مجريات شرقي الفرات حاضراً بقوة في مجريات إدلب، ولا سيما إذا ما مضت سيناريوات الشرق خلافاً لطموحات أنقرة (كما توحي المعطيات الراهنة). سبق وأن أفلحت تركيا مرات عدة في تأخير تنفيذ التزاماتها في إدلب (تفكيك «هيئة تحرير الشام» وفتح الأوتوسترادين M4، M5)، سعياً إلى إنفاذ رغباتها في ملف الشرق أولاً. ومع أن الوقائع بدت عشية انطلاق الجولة الأخيرة من جولات الغزو التركي كأنها تصبّ في مصلحة الغزاة، إلا أن بعض العوامل الحاسمة تكفّلت بخلخلة موازين القوى سريعاً.
الانسحاب الأميركي يبدو هذه المرة جدياً بالفعل، ويأتي أشبه بإفلات مقصود لخيوط الصراع بين أنقرة و«قوات سوريا الديموقراطية» بعدما استثمرته واشنطن طويلاً. المفارقة أن هذا الإفلات يصبّ في الدرجة الأولى في مصلحة دمشق، المستعدة لتلقّفه بعون من حلفائها، ولا سيما موسكو. أعادت «قسد» حساباتها هذه المرة، ووجدت نفسها تتجه سريعاً نحو دمشق، فيما تواصل موسكو دورها في مدّ خشبة الخلاص لأنقرة كلّما وجدت الأخيرة نفسها في مأزق. وتكتمل عناصر المشهد مع خلفية شديدة الأهمية، قوامُها المعلومات عن لقاءات أمنية رفيعة المستوى بين سوريا وتركيا. السؤال الواجب الطرح اليوم، هو: هل كانت تركيا تدرك سلفاً حدود توغلها العسكري في شرقي الفرات؟ وهل كانت تعي مسبقاً أن دمشق و«قسد» ستتوصلان سريعاً إلى توافقات يتم تفعيلها فوراً؟ أم أنها كانت تراهن على تعثر محادثات الطرفين، بما يوفر لها القدرة على استنساخ سيناريو عفرين؟ ثمة معطيات عدة ترجح الاحتمال الأخير، إذ تؤكد مصادر تركية معارضة لـ«الأخبار» أن «طموحات (الرئيس التركي، رجب طيب) إردوغان عشية إطلاق العملية كانت أكبر بكثير من أن ترضيه معها السيطرة المؤقتة على مناطق محدودة». وتشير المصادر إلى الموعد الذي اختاره إردوغان لتدشين المعارك البرية، بالتزامن مع ذكرى ولادة السلطان سليم الأول، مُذكِّرةً برمزية الأخير في التاريخ العثماني، فهو أول سلطان حظي بلقب «أمير المؤمنين» بين قائمة السلاطين العثمانيين. وتُذكّر أيضاً بحرص الرئيس التركي على زيارة قبر سليم الأول، من بين أنشطة مماثلة قام بها عقب استفتاء التعديلات الدستورية، الذي أتاح تحويل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي (نيسان 2017).
منبج والطبقة: مفتاحان بيد دمشق
في لغة الميدان، تكتسب عودة منبج التدريجية إلى كنف دمشق دلالات مفتاحية شديدة الأهمية. في شباط الماضي، كتب فابريس بالونش لمصلحة «معهد دراسات واشنطن» مقالاً لافتاً وسمه بعنوان موفّق ودقيق: «منبج هي المدخل الرئيسي إلى شرق سوريا بالنسبة إلى الأسد». تحظى منطقة منبج بأهمية استراتيجية كبيرة، تُخوّلها أداء دور الجسر بين ضفتَي الفرات، فضلاً عن إمكانية تحويلها إلى نموذج صالح للتكرار في عدد من مناطق سيطرة «قسد». وتأتي على رأس هذه المناطق، محافظة الرقة، التي تتشابه معطياتها الديموغرافية مع منبج لجهة عدم توفيرها «حاضناً شعبياً للمشروع الكردي». ويستعد الجيش السوري، بعون أساسي من موسكو، لاستغلال السيطرة على مطار الطبقة العسكري، وتفعيله سريعاً، سواء لأداء المهمات الجوية (في خطوة رمزية حتى الآن)، أو لجهة استثماره بوصفه نقطة تجمع وتحشيد أساسية تنطلق منها القوات نحو الانتشار في الرقة حال نضوج الظروف. وكما بدت الطبقة قبل عامين ونصف عام مفتاحاً لمشروع «فدرلة» على مقاس «الإدارة الذاتية» (راجع الأخبار، 4 نيسان 2017 https://al-akhbar.com/Syria/228776)، تبدو اليوم مفتاحاً لطيّ المشروع بصورته تلك. صحيح أن التسليم بهذه الخلاصة قد يبدو مستعجَلاً، ما لم تحصّنه «اتفاقات سياسية» بين دمشق و«قسد»، لكن مجمل المعطيات يجعله مرجّح الحصول. وثمة عوامل فاعلة قد تؤثر في موازين القوى الميدانية، من بينها مدى رغبة واشنطن في إضعاف الموقف التركي أو تقويته، وما قد تحاول فرضه من «خطوط حمر» لخريطة انتشار الجيش السوري في شرقي الفرات عموماً.
إدلب و«الدستورية»: ورقتان تركيتان؟
على المقلب الثاني، يبدو أن الفرص باتت أضيق في حسابات أنقرة لما يمكن تحقيقه على الأرض، ليكون الخروج بتفعيل لـ«اتفاقية أضنة» وملاحقها أفضل المتاح. وعلى رغم أن هذا المسار يقود نحو انتقاص للسيادة السورية، فإنه في حسابات دمشق فرصة لاحتواء الوضع في الشمال. ثمة تفاصيل غامضة في ما يخصّ المسار المذكور، ستستلزم بعض الوقت لتظهيرها، فتفعيل الاتفاقية مؤهل بالفعل لكسر «الجدار الجليدي» (أو «الناري» بتوصيف أدقّ) بين الجارين اللدودين. لكن هل سيعني ذلك تسليماً من دمشق ببقاء مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون» تحت سيطرة تركيا، تحت بند تعديل هوامش التغلغل المسموح به وفق ملاحق «أضنة» من 5 إلى 30 كيلومتراً؟ ينبغي التنبّه إلى أن عدم نجاح اللاعب التركي في تكرار سيناريوات غربي الفرات بحرفيّتها في شرقيه لا يعني إطلاقاً أن الجعبة التركية قد خلت من الأوراق الفاعلة. وتبرز من بين تلك الأوراق اثنتان أساسيتان، الأولى هي ورقة إدلب الواقعة حتى الآن تحت تأثير تركي شبه مطلق، سواء في ما يخص القدرة على التأثير في السيناريوات العسكرية، أو في ما يتعلّق ببنى بعض المجموعات «الجهادية»، واحتفاظ أنقرة بنفوذ كبير عليها (لا يصل إلى حدّ التبعية المطلقة). ويبدو مسلّماً به أن الرؤية التركية لكيفية تطبيق توافقات «سوتشي» و«أستانا» تقوم على وجود دور تركي مباشر في إدارة «المناطق المنزوعة السلاح»، كما في إدارة الأوتوسترادين الدوليين «حلب، اللاذقية/ M4»، و«حلب، دمشق M5». اللافت في هذا الإطار حرص أنقرة على بسط سيطرتها على أجزاء مفصلية من أوتوستراد «الحسكة، حلب»، وهو جزء أساسي واستراتيجي من الأوتوستراد «M4» (فعلياً يمتد M4 إلى اليعربية، فالحدود السورية العراقية في نقطة تماس مع السكك الحديدية العراقية).
فعلياً، ستسعى تركيا إلى إحكام قبضتها أكثر فأكثر على ورقة إدلب، محاوِلة الحصول على أثمان مسبقة لكلّ خطوة من خطوات تفكيك تعقيدات هذا الملف، الأمر الذي ستسعى أيضاً إلى تحقيقه في ما يخص ملف «اللجنة الدستورية». غير أن أوراق الملف الأخير ليست حكراً على أنقرة، إذ لا يُعدّ نفوذها مطلقاً على ممثلي المعارضة في اللجنة، ولا تُعتبر «حصّتها» معطِّلة لأي توافقات. يضاف إلى ذلك تنامي رغبة دولية جمعية في إنجاح مسار «اللجنة» تمهيداً لتثميره تالياً في صورة اتفاق حلّ سياسي نهائي. ومن المنتظر أن يلتئم الاجتماع الأول لأعضاء اللجنة في نهاية الشهر الحالي في جنيف. وعلى رغم الكلام المتداول في دمشق حول عدم حسم أجندة الاجتماع الأول، وما إذا كان مجرّد لقاء بروتوكولي أم سيتضمن برنامجاً عملياً، فإن معلومات «الأخبار» تؤكد أن اللقاء سيتجاوز الوظيفة البروتوكولية نحو مباشرة مهمات فعلية في مسار يُتوقّع أن يكون شاقّاً، لكن إنجاحه يشكل هدفاً لكثير من الفاعلين.
|