لا يمكن أيَّ «ستاتيكو» أن يستمر إلى ما لا نهاية. أمام هذه الحقيقة، ينبغي البحث عن إجابات لأسئلة ما بعد الجمود الحالي في الملفات السورية، على الصعيدين العسكري والسياسي، خاصة أن ثمة من يرى في هذا الجمود «سلاحاً يمكن تسخيره لقلب الطاولة» في وجه دمشق
تهيمن حالة من الجمود على الملف السوري بمختلف تفاصيله. من الناحية العسكرية، لم تشهد خرائط السيطرة تبدّلاً يُذكر في العام الأخير، باستثناء إنهاء الهيمنة الجغرافية لتنظيم «الدولة الإسلامية/ داعش» المتطرف شرقي الفرات لمصلحة «قوات سوريا الديمقراطية». وعلى رغم التصعيد المتكرّر بين وقت وآخر في إدلب ومحيطها، قصفاً متبادلاً أو اشتباكات موضعية محدودة، لا توحي المؤشرات بتحوّل جذري وشيك قد يلحق بالمشهد العسكري في مثلث «حلب، حماة، إدلب» في المدى المنظور. وعلى نحو مماثل، لم تخلّف زوبعة «الانسحاب الأميركي» واقعاً ملموساً مغايراً لما كانت عليه الأمور قبل تغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الشهيرة، وما لحقها من شدّ وجذب بين مختلف مراكز الثقل الأميركي. أما آمال أنقرة بـ«مناطق آمنة» تحت إدارتها تخلُف الاحتلال الأميركي، فلم تخرج بدورها من حالة «الهرولة في المكان». وعلى رغم حضور الملفّ على طاولة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، يوم الاثنين، فإن المعطيات العامة بتوافر التوافق اللازم بين مختلف اللاعبين لكسر جمود الميدان قريباً.
ويتزامن «الستاتيكو» الميداني مع آخر سياسي، هو في الواقع مسبّب أساسي لتجميد الجبهات، بعدما بات مألوفاً في العامين الأخيرين حصر معظم التحركات العسكرية «تحت سقف التفاهمات». وثمّة، في مكان ما، من يرى في هذا الجمود سلاحاً يمكن تسخيره لـ«قلب الطاولة في وجه النظام السوري»، على حدّ تعبير مصدر دبلوماسي أوروبي يعمل في بيروت. يتحدث المصدر عن توجه غربي لاستخدام سلاح «الصبر الاستراتيجي» الذي طالما اعتمدته دمشق، بطريقة معكوسة هذه المرة. «في السنوات الأولى، لم يكن النظام مستعجلاً، ولم يخشَ من امتداد عمر الحرب، بخلاف الساعين إلى إسقاطه. اليوم، تغيرت الصورة، وتبدّلت الأدوار»، يقول المصدر. وتسري في بعض الكواليس الدبلوماسية الغربية أحاديث عن ضرورة «محاربة النظام بأسلحته»، مع الاستشهاد بالواقع الذي سبق أن أفلحت دمشق وحلفاؤها في فرضه على عدد من المناطق المهمة التي كانت خارجة عن السيطرة. «تشديد الخناق الاقتصادي، والحدّ من قدرة المجموعات المسلحة على شنّ المعارك الهجومية، وصولاً إلى تيئيس الحواضن من إمكانية إحداث أي تغيير»، كلها كانت عوامل مهدت في النهاية لـ«سقوط الغوطة على سبيل المثال»، وفقاً للمصدر نفسه.
*يختبر الشارع اليوم حالة من الجمود الاقتصادي في ظل انكماش تضخمي هائل*
ويبدو أن الرهان الغربي قد انعقد أخيراً على «تحويل سوريا إلى غوطة كبيرة»، في إشارة إلى استنساخ ظروف مشابهة، في ما يتعلق بالوضعين الاقتصادي والخدمي على وجه الخصوص. ويختبر السوريون بالفعل منعكسات بالغة السلبية للعقوبات الغربية، ولا سيما بعدما فاقمها «مشروع قانون قيصر» الأميركي، على رغم أنه لم يتحول إلى قانون ساري المفعول حتى الآن! ومن دون أن يكون واضحاً على نحو قاطع ما قد تكون عليه «الخطوة التالية» من هذا السيناريو، يمكن الجزم بأن الأوراق ستكون كثيرة في يد واضعيه، فيما لو تحقّق المطلوب، وانزلقت الظروف الداخلية إلى حالة من الاختناق التام، معطوفة على يأس الشارع من إمكانية تحقيق أي انفراجة ولو جزئية. ويختبر الشارع السوري اليوم حالة من الجمود الاقتصادي، في ظلّ انكماش تضخمي هائل، علاوة على تعثّر في الأداء الحكومي ولّد أزمات متتالية في قطاع «حوامل الطاقة» على وجه الخصوص. ومن المفارقات أن انحسار رقعة المعارك يبدو أحد مسبّبات نقص السيولة المتداولة؛ إذ اختفى «اقتصاد الحرب» من معظم المناطق، من دون أن تنغرس محلّه بذور «الاقتصاد الإنتاجي».
وثمة مخاوف طبيعية تفرض نفسها في ظلّ الواقع الراهن، من انتشار موجة جديدة من «الانفلات الأمني»، تأخذ طابع ازدياد معدلات جرائم السرقة والنهب والسطو، فيما تراهن بعض الأوساط المعارضة على إمكانية «اندلاع ثورة جياع» تعيد الأمور في بعض المناطق السورية إلى النقطة الصفر. ويشير المصدر الدبلوماسي السابق الذكر إلى أن «لكل هذه الظروف رصيداً يمكن صرفه في حرب الديمقراطية». يجيب المصدر عن استيضاحاتنا بالقول إن «استمرار هذه المعطيات سيكون كفيلاً على الأرجح بقلب الطاولة في وجه (الرئيس السوري بشار) الأسد في أي انتخابات قادمة تُراقَب دولياً في شكل صارم». ينفي المصدر علمه بوجود أي مبادرة جاهزة تنصّ على إجراء من هذا النوع، لكنه يرى أن «طرحها ممكن في الوقت المناسب». المؤكد، وفقاً للمصدر نفسه، أن «هذه الظروف كفيلة بإحجام النظام عن أي سعي لاستعادة السيطرة على مزيد من المناطق، فأي سيطرة جديدة ستكون عبئاً يفوق طاقته على إدارتها». بطبيعة الحال، لا ينطبق هذا الكلام على مناطق سيطرة «قسد»، التي يُعدّ استمرار خروجها عن سيطرة دمشق واحداً من أسباب تردي الوضع الاقتصادي اليوم، فيما ينطبق أساساً على إدلب. ويبدو لافتاً أن الحديث عن هيمنة «الجهاديين» على المحافظة المذكورة قد عاد إلى التداول في بعض وسائل الإعلام الغربية، وعلى نحو متزايد. لكن التحذيرات الغربية المتكررة من «استخدام السلاح الكيماوي مجدداً»، توحي بأن «الخطوط الحمر» التي تعوق أي عملية عسكرية برية في إدلب ما زالت قائمة، من دون أن تشكل سيطرة «الجهاديين» على إدلب ومدنييها فارقاً. «هل يمكن أن نشهد نشاطاً جديداً للتحالف الدولي يكون مسرحه إدلب هذه المرة؟»، نسأل المصدر، فيشير إلى أن «الأمر غير مطروح حالياً، لكنه يظلّ وارداً».
على المقلب الآخر، لا تشير المعطيات في معسكر دمشق وحلفائها إلى وجود «التوافقات اللازمة» حول كثير من التفاصيل المستقبلية. وتذهب بعض الآراء إلى إدراج الصفقة الروسية مع الكيان الإسرائيلي، في شأن تسليم جثة الجندي زخاريا باومل، ضمن سياق «لعبة عضّ أصابع»، وتصف الصفقة بأنها «أحد أشكال الرد الروسي على زيارة الأسد لطهران». وسواء أصحّ هذا الكلام أم لا، فالمؤكد أن توقيت تسليم الجثة وطريقته كانا مناقضَين للمصالح السورية. اللافت، ضمن إطار علاقات دمشق بحلفائها أيضاً، أن «الخط الائتماني الإيراني» لا يزال مجمّداً، برغم اشتداد الحاجة إليه. ماذا تعني كل هذه المعطيات؟ وإلى أين يسير الملف السوري في ظلّها؟ لا يبدو أن ثمة إجابات واضحة سريعة، لكن المؤكد أن مرحلة حساسة وصعبة قد بدأت قبل فترة وجيزة.
|