مجدداً، تتابع أنقرة عدوانها وتوسّعها في مناطق الشمال السوري، مستغلة موقف «وحدات حماية الشعب» الكردية المتشنّج تجاه نفوذ دمشق، والتوتر الذي أشعلته واشنطن بطرحها «قوة أمن الحدود» في مناطق «قوات سوريا الديموقراطية». ومع بدء حملة التوغّل البرّي والقصف التركي بمشاركة فاعلة من عناصر «الجيش الحر» المنضوية تحت راية أنقرة، من ثلاثة محاور، بات على «الوحدات» أن تقرر كيف ستدير صراعها العسكري على أرض عفرين. فهي تبدو منعزلة أمام «توافقات» إقليمية على الحركة التركية ضدها، و«كف يد» أميركية تحت شعار «غرب الفرات ليس ضمن منطقة عملياتنا»
شرعت تركيا في اعتداء عسكري جديد على أراضي الشمال السوري، استهدف منطقة عفرين، بعد أشهر طويلة من التحشيد العسكري والتهديد عبر الإعلام، تحت مسمى «عملية غصن الزيتون». وبدأت العملية العسكرية التي تم التمهيد لها باتصالات عسكرية وسياسية واسعة من قبل الطرف التركي، بعد توتر مستجدّ حرّضهُ الإعلان الأميركي عن إنشاء «قوة أمنية حدودية» في مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية»، ليتم نشرها على «حدود» تلك المناطق لاحقاً.
وحشدت أنقرة عدداً كبيراً من مسلحي فصائل «الجيش الحرّ» التي تعمل تحت إمرتها، لمهاجمة خطوط التماس مع «وحدات حماية الشعب» الكردية على حدود منطقة عفرين، في وقت كثّف فيه سلاحا الجو والمدفعية في الجيش التركي من استهداف بلدات المنطقة.
وتصاعدت وتيرة العملية تباعاً خلال الأيام الماضية؛ فبعد القصف التركي المدفعي لمواقع متفرقة في عفرين، بدأت المناوشات على أطرافها الشمالية المتاخمة للأراضي التركية، وخاصة في ناحية بلبل، قبل أيام. وتكثفت العمليات البرية أول من أمس، على ثلاثة محاور رئيسة، واستهدفت قرى في نواحي شنار (شمال شرق) وبلبل (شمال) وراجو (شمال غرب)، إلى جانب قصف مدفعي على ناحيتي شيخ الحديد وجنديريس (غرباً)، إذ حاول مسلحو «الجيش الحر»، بدعم تركي، اقتحام 4 بلدات في ناحية راجو وبلدتين على أطراف ناحية بلبل، في وقت نفت فيه «الوحدات» الكردية أي سيطرة تركية على تلك البلدات.
وحصلت اشتباكات متفرقة على كامل خط التماس الشرقي المحاذي لمنطقة أعزاز وصولاً إلى محيط مارع في ريف حلب الشرقي، وسط استهداف مدفعي لمواقع «الوحدات» الكردية الدفاعية هناك. وردّت الأخيرة بقصف صاروخي على مختلف خطوط التماس، إلى جانب استهدافها لمواقع في محيط مدينة كليس التركية. وبينما أعلنت رئاسة الأركان التركية أن «طائراتها دمّرت 45 هدفاً عسكرياً في عفرين»، أشارت «الوحدات» الكردية إلى «مقتل 10 من الفصائل التابعة لجيش الاحتلال التركي، و4 جنود أتراك، وفقدان 3 من مقاتلينا لحياتهم». وأوضحت وسائل إعلام كردية «استشهاد 11 مدنياً بقصف طال نازحين كانوا موجودين في مدجنة في قرية جلبرة بريف عفرين».
وترافقت عمليات أمس وإعلانات من جانب الفصائل الموالية لتركيا، تشير إلى أن العمليات العسكرية «ستتطور حسب الضرورة والسياسة التي تفرضها علينا أرض الواقع». وشدد عدد من قادة تلك الفصائل على أن العملية تستهدف محاصرة عفرين «لإرغام الوحدات الكردية على مغادرتها». وأشار رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم إلى «توغّل عناصر الجيش الحر والقوات المسلحة التركية لمسافة خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية، بعد العبور من قرية غولبابا التابعة لمدينة كيليس». ولفت إلى أن العملية «ستنفذ على أربع مراحل، لإنشاء مجال أمني بعمق ثلاثين كيلومتراً، مع الحرص على ألا يلحق أي ضرر بالمدنيين». وبدوره، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال مؤتمر حزبي، إنه يتوقع «انتهاء العملية قريباً»، مضيفاً أن هدفها «إعادة عفرين إلى أهلها من الكرد والعرب والتركمان»، على أن «تستمر حتى القضاء على آخر إرهابي».
وتزامن انطلاق العمليات مع انسحاب القوات الروسية التي كانت تتمركز في بلدات عفرين، نحو بلدة تل عجار، جنوب مطار منغ بنحو 2.5 كيلومتر، وفق ما أعلنت وزارة الدفاع الروسية. وأوضحت الوزارة أن الانسحاب جاء لضمان سلامة عناصر تلك القوات، خلال العمليات التي تنفذها تركيا في عفرين ومحيطها. وجاء الانسحاب بعد رفض «الوحدات» الكردية لمقترح روسي بعودة سلطة الدولة السورية إلى المناطق التي تسيطر عليها «الوحدات» غرب الفرات، عفرين ومنبج، كخطوة لتجنّب أي عمل عسكري تركي.
ومع رهان «الوحدات» سابقاً على دعم «التحالف الدولي» في لجم تركيا، وافقت على عودة مؤسسات الدولة الخدمية ورفع الأعلام السورية فوقها، على أن تبقى السلطة الأمنية والعسكرية في يدها وقوات «الأسايش»، وفق ما تشير إليه مصادر في حديثها إلى «الأخبار». وعلى عكس ما حدث في أواخر آب من العام الماضي، حين وصلت روسيا إلى تفاهم مع تركيا حول «تخفيف التصعيد» على حدود عفرين الشرقية، فإن رفض «الأكراد» عرض موسكو قاد إلى انسحاب القوات الروسية، وإعطاء الضوء الأخضر لأنقرة. وأفضى الانسحاب الروسي إلى حملة شرسة من قبل «الوحدات» الكردية ومناصريها في عفرين ضد الدور الروسي، إذ رأت عدة شخصيات قيادية وعسكرية أن تصرف موسكو يوازي الاعتداء التركي نفسه. وأشار القيادي في «حركة المجتمع الديمقراطي»، ألدار خليل، إلى أن «الوحدات رفضت طلباً روسياً بتسليم عفرين للنظام السوري»، محمّلاً «الجانب الروسي مسؤولية الهجوم على عفرين».
ومع تمسّك دمشق وموسكو بفرض سيطرة الحكومة على كامل مناطق عفرين ومنبج، كطريق لنشر الجيش السوري بما يضمن وقف التمدد التركي، أصبحت «الوحدات» الكردية، مرحلياً، أمام خيار مواجهة منفردة في وجه الاعتداء التركي. وبدا لافتاً أن قواتها في محيط منبج اكتفت بتعزيز مواقعها من دون فتح أي جبهة جديدة في وجه فصائل «درع الفرات» التركية، حتى الآن. وسيحدد موقف دمشق الراهن من «الوحدات»، بشكل كبير، سياق تطور المعارك مع تركيا، وذلك لوقوع طريق إمداد عفرين الوحيد تحت سيطرة الحكومة السورية. وأتى موقف الرئيس السوري بشار الأسد، باعتبار العملية العسكرية التركية دعماً للإرهاب، في سياق تأكيد سابق بالاستعداد للعمل ضد أي عدوان. ومن المرجّح أن تنشط الاجتماعات بين «الوحدات» وممثلين عن الجانب الروسي خلال الأيام المقبلة، لضمان موقف «ليّن» من دمشق في هذا الخصوص، لا سيما أن الوحدات الروسية أعادت تموضعها على مدخل عفرين الشرقي.
|