كاهن الدبلوماسية الأميركية ومخضرمها كان في بكين في الساعات القليلة الماضية بعد غياب عقود في لقاء يعتبره الخبراء المعنيون في قراءة المتحولات الدولية بأنه فاتحة محطة جديدة في العلاقات بين الغرب والشرق.
عندما استقلّ هنري كيسنجر، مستشار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، لشؤون الأمن القومي في بداية سبعينيات القرن الماضي، الطائرة من باكستان الى بكين، للقيام بزيارة سرية، استمرت من 9/7 وحتى 11/7/1971، اجتمع خلالها مع رئيس وزراء الصين آنذاك، تشو إن لاي، وعدد من المسؤولين الصينيين كانت الولايات المتحدة تعاني مأزقاً استراتيجياً مميتاً، بسبب غرقها في الحرب الفيتنامية، التي لم تكن واشنطن تجد فيها لا طريقاً للنصر العسكري، على الشعب الفيتنامي وثوار الفيتكونغ، ولا طريقاً لوقف هذه الحرب دون تكبّد هزيمة ساحقة للولايات المتحدة، ما يعني هزيمة لها على صعيد الصراع الدولي بينها وبين الاتحاد السوفياتي وحلفائه التقليديين آنذاك.
وفِي ظل تلك الهزائم العسكرية، التي كانت تُمنى بها الجيوش الأميركية في فيتنام، فقد عقد الرئيس نيكسون اجتماعاً بينه وبين وزير دفاعه آنذاك، الجنرال اليكساندر هيغ، ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر، قبل سفر الأخير الى باكستان ومن ثم الى بكين، لوضع الخطوط العريضة للمحادثات التي سيجريها كيسنجر هناك.
وقد تم الاتفاق في ذلك اللقاء على ضرورة حرص هنري كيسنجر، خلال مباحثاته مع المسؤولين الصينيين، أن لا يظهر ان التوجهات الأميركية التصالحية تجاه الصين الشعبية ستكون على حساب العلاقة الأميركية مع تايوان، الدولة العميلة لواشنطن والمعترف بها من قبلها، كما تمّ تأكيد ضرورة ان يحاول هنري كيسنجر تعميق الخلاف بين الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي.
ما أشبه اليوم بالبارحة. فالمأزق الاستراتيجي الأميركي ملازم لنظام الدولة الاستعماري العدواني، والذي ازداد عدوانية وتخبطاً مع وصول الرئيس ترامب الى البيت الأبيض منذ حوالي عامين. وها هو مأزق السياسة الأميركية وهزائمها، في كل ميادين المواجهة في العالم، يتجدّدان ويتصاعدان. فبعد فشل مخططات واشنطن لإسقاط الدولة السورية وضرب محور المقاومة وبالتالي فرض الهيمنة الأميركية الكاملة على المنطقة العربية ومعها الجمهورية الإسلامية، وذلك بهدف ضرب الدور الروسي والصيني المتصاعدين، في إطار عملية الصراع الدولي على إنهاء أحادية القطبية التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
فعلى الرغم من موجات التهديد والوعيد التي يرسلها الرئيس الأميركي بكل الاتجاهات، والتي كان آخرها فرض عقوبات جديدة على إيران، فإن مسلسل الفشل الأميركي لا يتوقف. فها هي عقوبات ترامب ضد إيران قد فشلت قبل أن تبدأ وها هو النظام المالي الاستعماري، المرتكز الى الدولار الأميركي، يترنّح تحت ضربات القوى الدولية الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين، الى جانب تزايد الديون الخارجية الأميركية والتي تمثل مأزقاً بحد ذاتها.
إذن، فإن هذا الواقع يشي بأن التهديدات الأميركية غير قابلة للتطبيق وأن ادارة ترامب، ورغم كل الضجيج، تبحث عن حلول لأزماتها، وكما في عهد نيكسون، من دون أن يبدو ذلك وكأنه تراجع أميركي أمام الخصم.
فِي مثل هذه الأجواء قام كاهن الدبلوماسية الأميركية، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الاسبق، يوم 18/11/2018، بالاجتماع مع الرئيس الصيني شي جين بينغ ومع وزير الخارجية وانغ يي، بشكل منفصل، حيث بحث الطرفان جوانب العلاقة الأميركية الصينية المضطربة.
وذلك تمهيداً لإنجاح اللقاء المقرر بين الرئيس الصيني والأميركي، نهاية هذا الشهر على هامش اجتماع قمة العشرين في الأرجنتين.
أما الرسالة التي نقلها هنري كيسنجر الى القيادة الصينية، وبعيداً عن ضجيج ترامب وصخب بيته الأبيض، فكان أهم نقاطها كما جاء على لسان المبعوث الأميركي المخضرم كما يلي :
1 – إن التعاون الصيني الأميركي يعتبر أساسياً للسلام والتطور في العالم. وأنا اقدِّر عالياً الدور الصيني في هذا المجال ويجب على الولايات المتحدة والصين ان يفهما بعضهما بعضاً بشكل أفضل.
2 – يجب العمل على تقوية التعاون الاستراتيجي بين الطرفين كما يجب توسيع المصالح المشتركة بينهما.
3 – يجب على الطرفين أن يعملا على إدارة الخلافات وإقناع العالم بأن ما يجمع الدولتين من مصالح مشتركة هو أكبر من الخلافات.
وهذا يعني أن حقيقة الموقف الأميركي تختلف عن عنتريات ترامب وتهديداته للصين وغيرها وسياساته الحمائية التي تزيد التوترات والصراعات الدولية، سواء على الصعيد الاقتصادي أو حتى العسكريالأمر الذي يعني أن رسالة كيسنجر «الواقعية»، كما يسميها أصحاب النظريات السياسية في الولايات المتحدة على وجه الخصوص هي التي تأخذ طريقها حالياً الى التطبيق العملي وليس سياسات الرئيس ترامب.
وقد كانت رسالة الرئيس الصيني الى نظيره الأميركي أكثر وضوحاً وحزماً من الرسالة الأميركية، اذ ان أهم ما تضمنته هو التالي :
إن الصين ملتزمة بسياسة تطوير العلاقات المشتركة مع الولايات المتحدة، ولكن على قاعدة الندية والمنفعة المتبادلة. ونحن مستعدون لحل المشاكل العالقة بين الدولتين من خلال المشاورات البناءة وعلى قاعدة المساواة والمنفعة المتبادلة.
يجب على الصين والولايات المتحدة أن يكون لديهما تقييم او فهم دقيق للتوجهات الاستراتيجية للطرف الآخر.
على الولايات المتحدة أن تحترم خيار الصين في اتباع الطريق الذي تراه مناسباً لتطوير البلاد، كما عليها احترام مصالح الصين المشروعة.
أي أن الرئيس الصيني قد حدد مطالبه من الادارة الأميركية بشكل واضح وإن بلهجة دبلوماسية ذكية. فهو يقول بأن الصين ترفض أي إملاءات خارجية، كما أنها ترفض اَي سياسات تضرّ بمصالح الصين المشروعة. وهو بذلك يشير الى مصالح الصين في بحر الصين وفِي عدم التلاعب بموضوع جزيرة تايوان ويطلب التزام الولايات المتحدة بسياسة صين واحده تكون تايوان جزءاً منها وليست دولة انفصالية مستقله كما ترغب بعض الأوساط الأميركية.
إذن فإن الرئيس الصيني بذلك يكون قد ابلغ الكاهن كيسنجر بأن عصر الإملاءات قد ولّى إلى غير رجعة، وأن الصين لن تتعامل مع واشنطن على غير قاعدة الندية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
بعدنا طيبين، قولوا الله.
|