لا يمكن الحديث عن التبدلات التي حدثت على النظام العربي ممثلا بالمحاور الرئيسة فيه، وهي سوريا ومصر والسعودية دون الاخذ في الاعتبار التحولات الكبرى التي استجدت على النظام الاقليمي بعد الحادي عشر من ايلول وبعد احتلال اميركا العراق الذي أحدث اهتزازا شاملا ليس فقط في النظام الاقليمي المتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي بل في النظام الاقليمي الشرق الاوسطي الممتد على مساحة قارة اذا صح التعبير.
عمليا بعد هذا الحدث انفرط عقد النظام الاقليمي القديم ودخلنا في مرحلة مشروع اعادة صياغته من جديد. وهذه الصياغة تخضع بلا شك لموازين القوى، والمتحكم فيها بالدرجة الاولى هي الولايات المتحدة التي وقعت بعد احتلال افغانستان واحتلال العراق وبعد فشل مجموعة من الاختبارات السياسية في فلسطين وفي العراق وبعد فشل مجموعة من الاختبارات السياسية في فلسطين وفي لبنان في مأزق اعاق قدرتها على تشكيل النظام الاقليمي الجديد، فطرحت مقولة الشرق الاوسط الجديد كأطروحة تعكس رغبة الاستراتيجيا الاميركية في عهد الرئيس بوش في اعادة صياغة المنطقة. ولكن هذه الاطروحة تعرضت لانتكاسات عدة مددت عرقلة تشكيل النظام الشرق الاوسطي الجديد وأدت الى ان تعيش المنطقة مرحلة انتقالية شديدة التعقيد انعكس فيها السلوك الاميركي على القوى الاساسية في المنطقة، وخصوصا الدول المحورية مثل السعودية وسوريا ومصر. هذه التعقيدات أدت الى نوع من الحرب الباردة، بين هذه المحاور. والاسباب التي أدت اليها متعددة منها الوضع في لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري وما رافقه من تداعيات وصولا الى حرب تموز 2006 والانقسام في المواقف التي ظهر حولها، اضافة الى الموقف من موضوع السلام والمفاوضات مع اسرائيل. هذا الموضوع تحول الى خلاف أساسي بين المحاور العربية. لقد وصل الامر بالصف العربي الى غياب الثوابت الاستراتيجية التي كانت تستدعي غالبا انعقاد القمم العربية وتحقيق الحد الادنى من التضامن العربي. أما الآن وقد مست هذه الثوابت فان المأزق أصبح مفتوحا امام مرحلة جديدة او مستجدة تأخذ من الماضي تعقيداته ومأزقه وتنتهي الى حاضر فيه الكثير من الجزئيات والتفاصيل التي تغذي في طياتها مشروع الفوضى التي تعمل الولايات المتحدة على انضاجه.
في خضم هذه التجاذبات يبرز الدور السوري ليس كحالة عارضة في المنطقة او في النظام الاقليمي الجديد، بل ان موضع سوريا التاريخي والجغرافي او ما يسمى الوضع الجيواستراتيجي، يجعلها مؤسسا لأي نظام اقليمي جديد. ففي كل حقبة يبقى النظام الاقليمي في الشرق الاوسط او النظام الذي يحكم الصراع العربي الاسرائيلي ناقصا ما لم تكن سوريا عاملا مؤسسا او مشاركا فيه. المحاولات السابقة الساعية الى عزل سوريا عن النظام الاقليمي فشلت، مما أدى بالولايات المتحدة الى مراجعة استراتيجيتها على قاعدة اعتبار سوريا عاملا ميسرا ومسهلا لبناء النظام الاقليمي الجديد آخذة في الاعتبار وضعيتها الجيواستراتيجية. وقد ظهر هذا الامر في توصيات لجنة بيكر هاميلتون. وما يحصل اليوم ليس استثناء عن القاعدة وسينتهي الى قناعات اميركية بأن أي نظام اقليمي في المنطقة مستقر على مستوى الصراع العربي الاسرائيلي لا بد من ان يأخذ وضعية سوريا الجيواستراتيجية. والأمر لا علاقة له بوضعية النظام الحاكم في سوريا، فأي نظام فيها يعكس هذه الحقيقة التاريخية، وللكاتب والصحافي العالمي باتريك سيل رأي شهير، عندما قال ان سوريا هي مقولة تاريخية اكثر منها جغرافيا سياسية، ودائما الجغرافيا السياسية ان لم تسند بالتاريخ تبقى ضائعة النسب او تبقى مهددة بالتغيير الدائم، فالمقولة اذا هي هذا الجمع بين التاريخ والجغرافيا، وهذا الامر هو الذي يحكم بلاد الشام وهو مستمد من التاريخ البعيد بصرف النظر عن طبيعة الانظمة السياسية. هذه المرحلة الانتقالية لا يمكن اعادة ترتيبها خارج هذه الحقيقة التاريخية والجيواستراتيجية التي تحتلها سوريا. لذلك ان الاحتدام سيبقى مفتوحا بحيث تسعى كل قوة في هذا النظام الاقليمي سواء عربية أو غير عربية لتحسين موقعها في النظام الاقليمي العتيد الذي لم تتبين معالمه بعد. لذلك هذه المنطقة ستبقى مفتوحة على الاحتدام الى أجل غير مسمى، قد تحصل مفاجآت وتغيرات إلا أنها لن تتعدى السقف المرسوم الذي يحكم حتى استراتيجية الولايات المتحدة الاميركية. أرادت ادارة بوش خاصة في حقبة المحافظين الجدد ان تعيد تغيير صورة المنطقة على نحو يشبه الصورة التي أعقب اتفاقية سايكس بيكو، أي انها أرادت اجراء تغيير راديكالي عميق لصورة المنطقة فلم تفلح رغم أنها اعتمدت الحد الاقصى من الآليات المستخدمة ومنها حروب الغزو المباشر.
المعطيات تشير الى ان الامور قد تتغير بالنسبة الى سوريا بعد الانتخابات الاميركية المقبلة المتوقع فيها فوز الديموقراطيين بحيث يتوقع حصول تغيير في الفكر الاستراتيجي بحيث ستتقدم نظرية الاحتواء السلمي على نظرية الغزو المباشر او الفوضى الخلاقة. وأتصور انه حتى ولو رجع الجمهوريون الى الحكم من خلال فوز ماكين فانهم لن يخرجوا عن هذه القاعدة التي رصدها الفكر الاستراتيجي الاميركي قبل أشهر في تقرير بيكر – هاميلتون الذي يشكل نوعا من اعادة صياغة جوهرية للفكر الاستراتيجي الاميركي الذي يأخذ في الاعتبار المصالح العليا الاميركية، ولكن على قاعدة الاحتواء السلمي، وسبق لبريجنسكي المفكر الاستراتيجي وفيلسوف السياسة الاميركية ان انتقد الادارة الاميركية على سياستها في المنطقة ونبه الى ان الولايات المتحدة أمام فرصة تاريخية لديمومة امساكها بخيوط اللعبة في منطقة الشرق الاوسط من خلال اعتمادها استراتيجية الحوار الهادىء لاحتواء الصراعات في المنطقة. هذا الامر يتطلب شهورا لكي تتضح الصورة التي سيستقر عليها النظام الاقليمي، وهذا يعني ان أزمات المنطقة ستستمر بالتآكل البارد طيلة هذه الفترة وصولا الى الفترة التي ستعقب الانتخابات الاميركية، حيث ستكون تبلورت موازين القوى من جديد. لا شك في ان المحورية التي تحتلها سوريا في الشرق الاوسط الواسع تجعلها محلا للنزاعات الكبرى الاقليمية والدولية. يعني الكلام الذي يقال عن الصراع على سوريا فيه الكثير من الصحة نظرا الى الموقعية التي تحتلها سوريا في تعقيدات النظام الاقليمي والعربي الجديد. ويبدو لبنان الصورة الامثل لتظهير صورة الفشل الاميركي في احتواء سوريا بغير الطريقة السلمية، حيث ان اغتيال الرئيس الحريري شكل منعطفا حاسما في التحول اللبناني والاقليمي، ولا شك في ان الولايات المتحدة الماضية في مشروعها في المنطقة اعتبرت هذا الحدث مدخلا جديا من اجل استكمال حلقات هذا المشروع، لذلك جيشت بعده حلفاءها وعبأتهم في اتجاه تصعيد مواقفهم من سوريا وان بدرجات متفاوتة، ولكن رأينا بعد ثلاث سنوات ان الامور اتجهت نحو الفوضى دون ان تستطيع الولايات المتحدة ان تشكل النظام الذي كانت تأمل تشكيله سواء في لبنان او في المنطقة.
|