إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الأمم تحيا بثقافة الحضارة وتنقرض بثقافة الهمجية

يوسف المسمار

نسخة للطباعة 2018-04-17

إقرأ ايضاً


كتب هذا المقال بالبرتغالية وترجم الى العربية ونشر في الكتاب الذي اعدته الاديبة رولا فارس ضيا تحت عنوان " البرازيل بعيون اللبنانيين والمتحدرين " عن دار الفارابي، وجرى توقيعه برعاية السفير البرازيلي في بيروت في 20 آذار 2018 في المركز الثقافي البرازيلي اللبناني

*******

قال الفيلسوف الفينيقي السوري زينون الرواقي:" لقد خلق الله لنا أذنين ولساناً واحداً لنسمع أكثر مما نتكلم " . لأننا عندما نصغي ونـتعلم ونفهم ، وعندما ننطق نُـعَــلِّـم ونرشد . فلكي يكون تعليمنا أصدق وأنفع علينا أن نصغي ونسمع ونستوعب بشكل أوفى لأننا بدون معرفة صحيحة لا نستطيع أن نقدّم سوى الجهالة.

وقال السيد المسيح : " أتيت كنور لأضيء الطريق أمام التائهين" أي أن بالعلم والتعاليم أتى ، وبالعلم والتعليم ينير الطريق، وبالتـعـلـُّم يهـتـدي التائـهـون .

وبعدالسيد المسيح أتي النبيّ محمد بقوله :" أطلب العلم من المهد الى اللحد " أي أن كل دقيقة لا نـتـعـلم فيها تضيع من حياتـنا ، وكل توقـّف عن التعلم يجعل المسلم مـقــّصرا ً في اسلامه . ليتعلم منه حكيم البلغاء علي بن ابي طالب فيقول : " لاغنى كالعلم ولا فقر كالجهل" .

نعم ان العلم هو الغنى وان الجهل هو الفقر . ومؤسس الحركة القومية الاجتماعية الفيلسوف أنطون سعاده ما حاد ولم يحد عن هذا النهج ولكنه حدد وعيّن لنا نوعية العلم واتجاهه الذي عناه كل من السيد المسيح والنبي محمد وعلي بن أبي طالب حين قال : " العلم الذي لا ينفع كالجهالة التي لا تضر " مضيفاً أيضاً ان "المجتمع معرفة والمعرفة قوة ". أي أن المطلوب هو العلم النافع الحكيم . كما جاء في القرآن الكريم : " من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيراً ".

ويمكننا أن نفهم أيضاً أن حياة الانسان بدون معرفة وبدون ممارسة المعرفة لن تتطور ولن تصل الحياة الا الى الشلل والموت.

ولتجنب حياة الركود والشلل والخلاص منها فقد وهب خالق هذا الكون الانسان العقل الذي يمكن ان ينقذه من أيّ حالة خمول وركود وشلل يتعرض لها .

وهكذا من خلال العقل ، والمعرفة ، والتعلّم، والبحث ، والعمل والخبرة ، والعمل والانتاج ، والجهاد ، والابتكار ظهرت الثقافة المادية - الروحية لتلبية حاجات المجتمعات الانسانية ، وأصبحت الثقافة هي الوسيلة والجسر الذي غيّر مسار حياة البشر لينتقلوا من الحياة البدائية القائمة على أساس شرائع الأدغال الى حياة جديدة حضارية متقدمة تهتدي بقوانين العقول المتطورة والمتقدمة باستمرار .

قال الفيلسوف أنطون سعاده قبل استشهاده في احتفال أقيم بمناسبة ذكرى ميلاده :" لا أعتقد أن هذا الحفل هو احتفال لمجرد شخصي ، ولكنني واثق من أن هذا الاحتفال هو احتفال بولادة المباديء الجديدة والتعاليم الجديدة والمـُثـُل العليا التي نسعى الى تحقيقها جميعا " . وهذه التعاليم هي التي تتطلب منا جميعاً مواصلة الجهاد من أجل وضع حد لقرون هيمنة العقائد الجزئية العنصرية التي قادت وتستمر في قيادة دول الطغيان والحكومات المستبدة الجائرة الى حافة دمار العالم الذي نعيش فيه . وذلك من أجل انقاذ عالمنا من الدمار ، فقد اسس الفيلسوف أنطون سعاده مدرسة الحياة الجديدة التى تسمى " الحركة السورية القومية الاجتماعية " في وطننا الأم ، واسس الجمعيات الثقافية في البرازيل والارجنتين ، ودعا أعضاء هذه الحركة الى تأسيس جمعيات ثقافية مماثلة في جميع البلاد التي يتواجد فيها معتنقون لعقيدة المعرفة القومية الاجتماعية من أجل نشر المباديء الجديدة التي يمكن بواسطتها خدمة وترسيخ حركات التجديد والتجدد في جميع بلدان العالم لانقاذ الانسانية من التقاليد البدائية الهمجية .

من خلال اسم الجمعية الثقافية السورية البرازيلية التي انبثقت عن الحركة السورية القومية الاجتماعية أو الآرجنتينية أو الانكليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الأميركانية الشمالية أو ...الخ ، يتبيّن أن هناك جانبان : الجانب السوري وجانب المجتمع المضيف البرازيلي أو الارجنتيني أو الانكليزي أو الفرنسي أو الأميركي أو غير ذلك من المجتمعات . فالجانب البرازيلي ،على سبيل المثال، هو واضح ومعروف كشعب ووطن . فبالنسبة للبرازيل مثلاً هناك شعب أسمه الشعب البرازيلي ، ووطن هو الوطن البرازيلي بحدوده المعروفة . ولا يوجد برازيل صغرى أو برازيل كبرى, بل يوجد فقط بيئة جغرافية واحدة هي بيئة البرازيل الطبيعية الواحدة .

نستنتج مما تقدم أن الثقافة البرازيلية هي نتاج الشعب البرازيلي الذي عاش وتطور في بيئته الطبيعية الخاصة .

أما على الصعيد السوري فالكثيرون لا يعرفون بما فيه الكفاية عن سورية . ولذلك فان من المفيد جداً توضيح بعض الميّزات والخصائص الأساسية عنها .

فسورية الجغرافية - التاريخية تمتد من جبال طوروس الفاصلة بينها وبين تركيا في الشمال الى حدود قناة السويس والبحر الأحمر الفاصلة بينها وبين مصر و قارة أفريقيا في الجنوب . ومن جبال زغروس الفاصلة بينها وبين إيران في الشرق الى البحر الأبيض المتوسط في الغرب شاملة جزيرة قبرص .

موقع سوريا اذن وسطي ومحوري يصلها بقارات ثلاث عن طريق البر : أوروبا وأسيا وأفريقيا وبالقارة الأميركية عن طريق البحر المتوسط المتصل بالمحيط الأطلسي وتتصل بقارة أوقيانيا عن طريق الخليج .

في هذه البيئة الممتازة وهذا الموقع الجغرافي الفريد في العالم لسوريا أهّلها لأن تكون الوطن الممتاز لأمة ممتازة أعطت العالم ثقافة ممتازة ورائعة.

فعلى هذه الأرض -أرض سورية - نفسها ظهر مهد الحضارة الانسانية وأرسيت قواعد الثقافة المادية الروحية التي نسميها في سورية الثقافة "المدرحية" ، مما يعني انه لا وجود لثقافة مادية حضارية منعزلة في حد ذاتها، ولا توجد أيضاً لثقافة روحية حضارية منعزلة عن المادية ، وانما هناك ثقافة اجتماعية انسانية لها مظاهر ثقافية مادية ومظاهرثقافية روحية .

وفي ضوء ذلك ، استطاعت الثقافة السورية التي بدأت منذ عصور ما قبل التاريخ الجلي أن تكون ثقافة معرفية ادراكية خاصة تنطوي على عملية توحيدية وحيدة متناغمة شملت أموراً عديدة في مجالات متنوعة جمعت بين استصلاح الأرض وزراعتها ، وتدجين الحيوانات وترويضها، والصناعة ، والملاحة والابحار ، وتمجيد القوى الالهية والتوصل الى فكرة الله، واختراع الحروف الابجدية، والكتابة، والتجارة، وتأسيس العلوم ، واختراع الفنون ، واكتشاف القوانين والنواميس الطبيعية والانسانية، واقامة العلاقات الدولية على اساس الاحترام المتبادل للحقوق، وحمل الرسالات الدينية الروحانية والاخلاقية، وانشاء ثقافة متميّزة للحضارة الانسانية عرفت بالحكمة السورية التي كانت أساس المدنية الحديثة .

ولكن للاسف ، فان الحلفاء الأنكليز والفرنسيين الذين انتصروا في الحربين العالميتين الأولى والثانية وبمصادقة وموافقة الولايات المتحدة الآميركية والاتحاد السوفياتي غيروا كليا جغرافية سوريا ودمّروا تاريخها وحاولوا القضاء عليها من خلال تجزئتها الى مزارع سميت فيما بعد دول مستقلة ، وجزأوا الشعب السوري الى مجموعات طائفية واتنية وقبائلية. وهكذا ظهرت فيما بعد دويلات سياسية اصطناعية مثل دول: لبنان ، وسورية الصغرى ، و الأردن ، وفلسطين حيث قام على ارضها كيان اصطناعي سمي ( اسرائيل الحالية ) والعراق ، والكويت وجزيرة قبرص .

بالإضافة إلى ذلك، تم التبرع لجزء من شمال سوريا لتركيا من قبل الفرنسيين، وجزء آخر من الشرق تم التبرع به لإيران من قبل البريطانيين، والجزء الثالث من شبه جزيرة سيناء تم التبرع به أيضا من قبل البريطانيين لمصر والسعودية . واتفق البريطانيون والفرنسيون على التبرع بجزيرة قبرص إلى اليونان وتركيا .

ونتيجة لتلك التجزأة، تجزأ الشعب السوري وتشتت عشرات الملايين من السوريين في كل ركن من اركان كوكب الأرض يبحثون عن ماوى للعيش فيه ويكافحون من أجل الحصول على أي عمل يكسبون به معيشتهم بكرامة.

ونتيجة لما سبق ذكره ، كانت مهمة المواهب السورية صعبة جداً كما نلاحظ في مقال كتبه الفيلسوف جبران خليل جبران حين كتب في مقاله ( مات أهلي ) :

"يا أبناء بلدي أيها السوريون ،

لقد مات أهلي وأهلكم . فماذا نستطيع أن نفعل لننقذ من لم يمت بعـد ؟ "

ومن أجل انقاذ من تبقى على قيد الحياة من السوريين أسس الفيلسوف جبران خليل جبران : " رابطة الأصابع الذهبية " بهدف استعادة ونسج وحدة الأمة السورية والوطن السوري ، ولكن للأسف توفي جبران قبل رؤية تحقيق حلمه .

أثارت صيحة جبران وسؤاله المأساوي أعماق عقل وقلب أنطون سعاده الذي كان يدرس في البرازيل في مدينة سان باولو وجعله يتخذ أهم قرار في حياته مردداً في نص مقاله الشهير :

"سلام على الوطن الحي اذا كان حيا ً

سلام على الوطن الميت اذا كان الوطن ميتا ً

سلام على الأهل أحياء

سلام على الأهل أمواتا ً

إن الوطن ينتظرني ، والأهل يترقبونني ،

لا شك عندي انه سوف تتحرك عظام وطني وتكتسي

لحما وعصبا فينتصب على قدميه ويقف بين الاوطان الحيّة "

وهكذا غادر أنطون سعاده البرازيل وعاد إلى بيروت ملبياً النداء النابع من أعماق روحه ،وحاول بكل جهوده تأسيس حركة سورية قومية اجتماعية من أجل إنقاذ الأمة من خلال ولادة عامة جديدة على أساس الواقع الجغرافي و الحقيقة التاريخية الى جانب برنامج فلسفي تام وشامل يغطي جميع النقاط الأساسية في حياة الأمة.

بدأ العمل من أجل تحقيق وحدة السوريين الذين قسمتهم القوى الاستعمارية ساعيا بالاضافة الى تحقيق الوحدة السورية الى انشاء اتحاد أو جبهة عربية يمكن أن تساعد الشعوب الأخرى في جميع القارات على النهوض والتقدم وتأسيس عالم أفضل جديد يتكون من الأمم المتحضرة الحرة التي يمكنها تحقيق مستقبل أفضل لإنسانيتنا، وليس منظمة من الدول الإمبريالية المستبدة الجائرة ، كما نراه اليوم، لا تهتم الا باشباع وأنانيات قادة القوى العظمى.

وكما كان نشوء الحركة السورية القومية الاجتماعية لاعادة الحيوية الى الثقافة السورية من أجل نشر الحكمة الأصلية في سورية لصالح سورية وصالح الانسانية وارساء السلام بين جميع الأمم ، تم تأسيس العديد من الجمعيات الثقافية في العديد من البلدان كما نرى مثل : الجمعية الثقافية السورية البرازيلية ، في البرازيل؛ الجمعية الثقافية السورية الأرجنتينية، في الأرجنتين؛ الجمعية الثقافية السورية الفرنسية في فرنسا؛ الجمعية الثقافية السورية الاميركية في الولايات المتحدة ؛ الجمعية الثقافية السورية الإنكلیزیة، في إنکلترا ، و الجمعية الثقافية السورية في کل بلد يتواجد فيه مھاجرون سوریون من القومیین الاجتماعيين .

ومن خلال جمعيات ثقافة المعرفة ، ستتمكن جميع الأمم من القيام بحركات التجديد والسير قدما في وئام وسلام وتشكيل عالم عولمة الفضائل والقضاء على المفاسد والخراب والجريمة مرة واحدة والى الأبد .

هذه هي مهمة جمعيات الثقافة القومية الاجتماعية - ثقافة المعرفة - التي يمكن أن تحسن الوضع العالمي، وتضع حداً لكل مظاهر المآسي وكوارث البطالة والجوع والهجرة، واللجوء، والاضطهاد والجريمة، التي سببها الحكام الأنانيون والطغاة والمجرمون.

وهكذا من خلال صراع ثقافة المعرفة التي انبثقت لأول مرة في التاريخ في أمتنا يمكننا أن نوقظ الأرواح والعقول في جميع الأمم لتحقيق التقدم ومتابعة مسار العلاقات الطيبة بينها جميعاً والخروج من ميادين الانانية والجشع والكراهية ونزعات التوحش من أجل خلق عالم أفضل يقوم على الحق والخير والعدالة والجمال والمحبة والاحترام المتبادل والتقدم للبشرية جمعاء .

ان الفلسفة القومية الاجتماعية هي الاكتشاف السوري الجديد والرسالة الجديدة التي نقدّمها الى جميع شعوب العالم من أجل التخلّص من جميع أنواع التعصّب الأناني والعرقي والعنصري والديني والطائفي وكل أشكال تجمعات الجشع ،لأن الحقيقة انه لا يوجد في هذا العنصر أمة واحدة يمكنها ان تؤكد انها مكوّنة من عرق واحد أو عنصر واحد أو دين واحد أو طائفة واحدة أو لون واحد أو ...

هذه الفلسفة هي العقيدة الوحيدة التي يمكن أن تساعد عالم اليوم على المرور بأمان وثبات الى القرن المقبل لأنها تقوم على حكمة الحياة الحضارية التي لا تقتصر على الأقوال والشعارات بل يقوم ويسعى معتنقوها جاهدين لجعل منتجات الحياة الجيدة، والابتكارات الرائعة تراث الإنسانية جمعاء في جميع الأمم و جميع الأجيال الحاضرة والمقبلة في حين أن الأعمال الشريرة والأشياء القبيحة ، يتحمل مسؤليتها فاعلوها الأشرار .

وبمواصلة الالتزام بالمعرفة والحكمة السورية من خلال الجمعية الثقافية السورية البرازيلية، فاننا نريد لسورية والبرازيل وجميع الأمم وجميع الناس في جميع أنحاء العالم كل ما نريده لأمتنا ومواطنينا السوريين والبرازيليين من أجل تحقيق حياة قومية اجتماعية أكثر تقدماً وأفضل مستوى وأكثر تحضراً في علاقاتهم الدولية .

ان ثقافة المعرفة الحضارية هي وحدها فقط ثقافة الأمم الحيّة التي تقيم عالم القيم الانسانية العليا وتساعد جميع الشعوب على التطوّر والسير دائما الى الأمام .


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024