برز الرفيق نقولا النمار في الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي وكان له حضوره الحزبي الفاعل محلياً ومركزياً عندما تولى مسؤولية عميد للثقافة والفنون الجميلة. واذا كان الرفيق نقولا لم يستمر في زخمه الحزبي بعد الثورة الانقلابية 1961-1962 إلاّ انه بقي على حضوره المتقدم في الوسط الاكاديمي والثقافي ومنها الفنون الجميلة التي كان عميداً لمعهدها في الجامعة اللبنانية.
في تلك الفترة كان للرفيق نقولا نمار حضوره الجيد بين رفقاء الاشرفية، واسمه مرادفاً لكل الأنشطة الحزبية فيها الى جانب شقيقه الرفيق الياس(1) ومئات من الرفقاء(2) نذكر منهم: غسان التويني، جبران، ادمون، جورج حايك، راغب حداد، نقولا ناهض، نقولا قباني، ولسن مجدلاني، جورج وفكتور بشور، متري العقاد، نقولا فياض .
*
بعيد رحيله(3) كتب عنه احمد بزوز في جريدة السفير بتاريخ 5/2/2011 مقالاً يضيء بشمولية على الرفيق نقولا النمار، ننقله بالنص كما جاء في "السفير".
عميد الفن في لبنان
الرفيق الفنان نقولا نمار
" وحده نقولا النمار يستحق لقب " عميد الفن في لبنان "، لا لأنه أكبر الفنانين سناً (مواليد 1925)، فهو ليس كذلك، ولا لأنه أكبرهم فناً، فهو ليس كذلك أيضاً، انما لأنه كان أكثر الفنانين اهتماماً بالفن وأهله، وأول من اهتم بأن تكون للفن مؤسسات تؤسس أجياله وترعاهم وتعمل على نشر الابداع في لبنان... هو عميد الفن لأنه ناضل من أجل أن يكون لبنان منارة له، ولأنه كان مسكوناً بالحركة الفنية، يهتم بتطويرها قبل أن يهتم بتطوير لوحته، يعطي وقته لتأسيس البناء الفني أكثر من اهتمامه ببناء فنه الخاص، يتابع محترفات الآخرين قبل أن يعطي الوقت لمحترفه. لولاه لما كان معهد الفنون الجميلة، أو لربما تأخر. هو من دفع الفنانين لأن تكون لديهم جمعية. هو من ساهم في اقامة العديد من المعارض الجماعية. كان أباً لعدد من الفنانين اللبنانيين، واستاذاً في الاكاديمية اللبنانية، ثم استاذاً وعميداً في معهد الفنون، وبقي لقب "عميد" يرافقه حتى عندما صار مديراً للفرع الثاني للمعهد، ثم عندما عاود رئاسته لجمعية الفنانين اللبنانيين في تسعينات القرن الماضي. ولا غرابة في أن تبقى عمادة الفن لقباً لا وظيفة، وأن ترافقه حتى آخر أيامه.
كان النمار ثاني طلاب الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)، التي فتحت أبوابها العام 1943، من دون أن يتسجل في قسم الرسم والنحت أي طالب، ثم في السنة التالية تسجل فريد عوادة، ثم تبعه النمار ووصل العدد الى العشرين، بمن فيهم عدد من الطلاب البولونيين اللاجئين الى لبنان. كان النمار على رأس الدفعة الأولى من جيل الفنانين اللبنانيين الذين تلمسوا خطوط الحداثة الفنية، وازداد عددهم سنة يعد سنة ينهلون من أساتذتهم الأوائل قيصر الجميل وجورج بل خوري والبولوني ماركوفسكي. وكان الى جانب النمار وعواد، في الصف نفسه، شفيق عبود ومنير عيدو(4) ونقولا بخعازي وآخرون.
صخب الحوار
اذا كان شقيق نقولا، متري النمار(5)، هو الذي قاده الى الاكاديمية، فان شغفه سبقه الى الفن، بعدما أمضى سنتين محاسباً وكاتباً في الجيش الفرنسي، بل ان الحماس الذي كان يتعلم به وزملاءه جعل الصفوف الأولى للرسم في الاكاديمية تشهد حركة أكاديمية غير عادية، اذ كثيراً ما تحدّث طلاب تلك الصفوف عن حياة أكاديمية تبدأ في الصباح ولا تنتهي الا في آخر الليل، درساً ونقاشاً وسهراً وبحثاً في شؤون الحداثة الفنية، وقد تطور الأمر أكثر مع مجيء الفنان الايطالي فرناندو مانيتي أستاذاً في الأكاديمية العام 1946، ومشاركاً للطلاب في حياتهم خارج الصف، ومساهماً في حوارات سرعان ما تلقف الطلاب التماعاتها وبنوا عليها الكثير.
كان النمار مشاركاً أساسياً في تلك النقاشات، خصوصاً تلك التي تجري في "الندوة اللبنانية" التي وجد فيها متنفساً للأفكار التي كانت تموج في مخيلة أبناء جيله. كان رابع ثلاثة أطلق عليهم لقب "الثلاثي عين"، وهم عبود وعواد وعيدو. أغرم بالموسيقى، وشغف بسماعها وقصد زواياها ومرابعها، تماماً كما أغرم بالجميلات وعاش شبابه معهن بالطول والعرض، ما حفزه في ذلك الوقت على رسم الكثير من وجوه الفتيات، الى جانب رسوم العري التي اتخذت من "مريم" موديلاً، بعدما أتى بها قيصر الجميل لتكون بداية تجربة الموديل العاري في لبنان.
بعد سفر "الثلاثي عين" بقي النمار يساعد الأساتذة في تدريب الدفعة الجديدة من الطلاب على درب الفن، وكان من بين الدفعة ايفيت أشقر وسعيد عقل وجان خليفة. وبقي يتابع دراسته حتى حاز دبلوماً مع "ميدالية ذهبية" ، وكان أول طالب يتخرج من الأكاديمية في فرع الرسم والنحت العام 1949.
في ذلك العام سافر النمار الى باريس بمنحة من وزارة التربية، ليلتحق باثنين من ثلاثي الصحبة والفن، عبود عواد. هناك غاص في بحر الحداثة الذي كانت أمواجه فاضت على العالم، بل بات للنقاشات هناك نكهة مختلفة عنها في لبنان، في ظل تصارع الأفكار الجديدة والسجالات المحتدمة في الفكر والسياسة والأيدولوجيات. وكان شفيق عبود أقرب الناس اليه، الا أن تدافع الفنانين اللبنانيين الجدد خلال سنوات قليلة جعل الجو أكثر صخباً وألفة واحتكاكاً وبحثاً في الاجابات عن الاسئلة الكثيرة التي يحملونها معهم حول فهم الحداثة الفنية والهوية الفنية، وقد تفتحت لدى البعض فكرة انشاء محترف تشكيلي لبناني في باريس، وتبنى النمار الفكرة، الا أن أجراس العودة دقت العام 1952، فعاد ليكون أستاذاً في الأكاديمية، قبل أن يحقق حلمه في انشاء معهد للفنون الجميلة. عاد الى الأكاديمية ليعيد الصخب نفسه، مع عدد لا بأس به من الطلاب الذين هم اليوم في واجهة الفن التشكيلي اللبناني، لا سيما أمين الباشا(6) وحسين ماضي وحليم جرداق(7) وابراهيم مرزوق ورفيق شرف وحسن جوني وزافين.
دينمو الفن
واذا كان النمار ثاني طلاب الأكاديمية بعد فريد عواد، فقد كان أيضاً ثاني رئيس ل"جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت"، وبعد قيصر الجميل، العام 1958، ثم ثاني عميد أصيل لمعهد الفنون العام 1968، بعد المهندس المعماري أنطوان نحاس، الذي استمر بضعة شهور، وقد استمر الاصرار على النمار ليتسلم العمادة، بعد توكيل آخرين بها، الى أن أذعن. وهو كان على رأس من ناضلوا لتأسيس المعهد، وجابهوا رفض الرئيس شارل الحلو في ذلك الوقت الذي كان شعاره "لا لانشاء مؤسسة رسمية ما دامت لدينا مؤسسة خاصة تقوم بالمهمة". وبالفعل قاد النمار التحركات الطلابية ، التي قام بها طلاب الأكاديمية ، وكان أستاذاً فيها منذ عودته من باريس، وتحقق مطلبهم بعد اضرابات واعتصامات عنيدة، واستمر عميداً للمعهد حتى العام 1973، ثم من العام 1978 حتى العام 1981 مديراً للفرع الثاني للمعهد.
استمر النمار محركاً للكثير من الأنشطة التي تخص الفنانين، مساهماً في المطالبة باقامة معرضي "الربيع" و"الخريف".وقد جسد حركته المطلبية تلك في لوحاته التي اتجه بها في ذلك الوقت الى عناوين وطنية
وسياسية، من دون أن يستخف أبداً بالناحية الفنية التي كان دقيقاً في تقديمها، خصوصاً لجهة الخط واللون، وتقول عنه الفنانة ايفيت أشقر:" أذكر أن نقولا النمار بقي أسبوعاً بكامله وهو يتساءل عما اذا كان يجب أن يضع، في مساحة معينة من لوحة له، اللون الأحمر أم الأزرق". وكان تمرسه في محترف البورتريه الذي كان يرأسه الفنان ادموند هوزي قد زاد من خبرته في رسم الوجوه وتفننه في نقل الموديل. ويقول شفيق عبود عن النمار في تلك المرحلة:" كان مرحاً ولديه سهولة بمقاربة الآخرين، فتعرفنا معاً الى عدد من مشاهير الفنانين، وقمنا بزياراتهم، وتبادلنا الأحاديث معهم".
كان النمار جريئاً في البحث عن جديد الحداثة، لا يتأخر في الحاق فنه بمستجدات قناعاته، فلا بأس عنده من تحقيق نقلة قاسية من واقعية البورتريه والمواضيع الوطنية الصريحة وانطباعية المشاهد الى التجريد اللوني الذي قد يبتعد عن أي تلميح لانسان أو طبيعة، ويقترب من الغرافيك أحياناً وأحياناً أخرى من اللوحة الحركية، وكذلك من تحويل اللوحة الى مجرد مسرح فسيح للعبة ألوان. رسم الكثير من اللوحات الكبيرة والجداريات، لا سيما منها ما كان في سينما ألدورادو وفي أبنية عدة وقاعة الاستقبال في فندقية الدكوانة. حاز جائزة تقدير من معرض بينالي الاسكندرية العام 1962.
لا شك في أن النمار كان يصرف الوقت الطويل لحساب الأنشطة الفنية والتعليم وتحريك الأجواء الفنية، مستمراً في مسؤولياته تعليماً وعمادة وادارة ورئاسة جمعية على فترات، معظم سني حياته، ما جعل انتاجه الفني قليلاً، وكذلك معارضه التي شهدنا آخرها في "ستاسيون دي زار" في منتصف التسعينيات. ومع ذلك فقد كانت له مشاركات في معارض دولية بين العامين 1959 و 1973، أقيمت في فرنسا وايطاليا والبرازيل والولايات المتحدة واليونان ويوغوسلافيا ومصر وتونس والجزائر....الخ.
نقولا النمار صاحب المزاج الخاص، الذي ترك نفسه على هواها، الشغوف بكونه دينمو الحركة الفنية في لبنان، مات عندما ثقلت همته وأقعدته عن المتابعة الدؤوبة التي كان معروفاً بها، قبل أن تودعنا روحه الى باريها أمس الأول ، فنخسر اباً مهماً للحركة التشكيلية اللبنانية.
هوامش
(1) كان رئيساً لمجلس ادارة كهرباء لبنان، ثم انتقل لتولي رئاسة مجلس مصلحة مياه بيروت.
(2) كانت مديريات الحزب تنتشر في كل مناطق الاشرفية والرميل. لم يكن هناك شارعاً أو زاروباً لا يقطنه رفقاء ولم يكن يجرؤ افراد حزب الكتائب في تحدي القوميين او مواجهتهم، حتى حصلت الحرب في أواسط السبعينات فتبدلت أشياء كثيرة.
(3) شارك وفد مركزي ترأسه نائب رئيس الحزب آنذاك الامين توفيق مهنا وضم الرفيقين مارون حنينة ومتري تبشراني، الى رفقاء عديدين وأصدقاء من منطقة الأشرفية ومن مناطق اخرى عرفوا الرفيق الراحل في مسيرته الطويلة .
(4) من رفقاء الخمسنيات كذلك شقيقه الرفيق رفيق من اصدقاء الامين الراحل الدكتور حافظ قبيسي والامين الدكتور منير حجل.
(5) محافظ سابق لمدينة بيروت.
(6) من الذين انتموا الى الحزب في الخمسينات، شقيق الموسيقار الراحل الرفيق توفيق الباشا.
(7) رفيق ورسام معروف من بلدة "عين السنديانة"، ابن اخته: الرفيق هنيبعل سروجي.
*
من وحي سعاده
القلق. الوجدان. ا لضمير القومي.
ان فقدها اي قومي اجتماعي، فقد الاساس في عضويته،
فكأنه لم ينتمِ، ولم يُقسم
|