أصبحت العولمة قدراً محتوماً على شعوب العالم، قدرٌ يتدخل في تفاصيل حياتهم بكل أضلاعها الثقافية والاقتصادية والمالية والاجتماعية. وهي في هذه المرحلة من تطورها راحت تضغط أكثر فأكثر على مسارات الشعوب، فتهز كياناتها واستقلالها وتهدم إجراءات حماياتها، وبالتالي استطاعت أن تجعل من هذه الأمم والدول ملحقات تدور في فلك المركز الدولي الذي عولم كل مفاهيمه ورساميله وقيمه.
تأتي دراسة د. زهير فياض لتقارب موضوع العولمة من منظور قومي اجتماعي، يبيّن الأخطار والتداعيات المنتوجة من ظاهرة العولمة.
اتسم العقد الأخير من القرن العشرين بجملة من التحولات التاريخية التي أفرزت واقعاً عالمياً جديداً يمتاز بديناميكية متحركة بوتائر متسارعة في اتجاهات لم تتحدد آفاقها النهائية بعد، وقد ولدت في السياق العام لهذه التحولات ظاهرات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية فرضت نفسها بقوة في الواقع الإنساني، وبدأت تشغل مساحة تتسع باضطراد من مساحات الفكر العالمي، ولعل ظاهرة ما يسمى بـ «العولمة» تحتل موقع الصدارة من بين تلك الظواهر الناشئة، لما تحمله من مضامين وطروحات وأفكار تلامس الواقع الحياتي لمجتمعات عالم اليوم، ولما طرحته من تساؤلات تعبر عن قلق وهواجس تحتاج إلى وضع أجوبة قد تفيد في حل إشكاليتها الجديدة، أي اشكالية العولمة في كل تجلياتها، وتحدياتها، وآفاقها… ماذا تعني العولمة؟ سؤال بديهي يتبادر إلى الأذهان، ويشكل مقدمة ضرورية في سياق الكشف عن هذه الظاهرة وأبعادها الحقيقية التي تنطوي عليها. في الواقع، «العولمة» هي وقبل كل شيء ظاهرة رافقت المجتمعات البشرية منذ حقبات تاريخية موغلة في القدم، وتمظهرت في ذلك الصراع الدائر بين إرادات الأمم ذات الرسالات المتنوعة والذي يرجع إلى نزعة نفسية متأصلة في الإنسان، نزعة دفعت هذا الإنسان إلى الانعتاق من حدود الواقع الزماني والمكاني الضيق، إلى ما هو أوسع وأرحب وأشمل، هذه النزعة لم تولد في الإنسان على أرضية الفراغ الروحي والمادي بل هي وليدة الحاجات المادية والنفسية في آن وبهذا المعنى، فالعولمة هي صيغة لاحتواء الكل من خلال الجزء، وصيغة تهدف إلى تعميم الخاص ليصبح عاماً.
إن العولمة تمثّل نزوعاً حقيقياً لإطلاق قدرات الإنسان الهائلة على طريق العلم والتقدم، لكن هذا النزوع الجامح راح يطلق صوراً لا عقلانية منضوية على قدر كبير من الشر الذي يهدد بالإطاحة بكل تلك المنجزات. يقول عالم الأنتروبولوجيا برنارد جيمس في السبعينيات من القرن الماضي: «إنّ شعوراً باليأس يملأ الأجواء، شعور بأن الإنسان أُقحم بالعصا نتيجة العلوم والتكنولوجيا في عصر جديد بالغ الهشاشة». ويخلص برنارد للاستنتاج أنه وبما أن هذا الكون قد تعرض للنهب والاغتصاب، فلا بد من الحديث عن موت التقدم. ولا يعتبر برنارد الوحيد الذي تحدث عن موت التقدم، ذلك أن عالماً آخر هو جون هورغن كان قد قد أصدر في عام 1997 كتاباً بعنوان «نهاية العلم» حيث تحدث فيه عن نهاية التقدم ونهاية الفلسفة ونهاية الفيزياء ونهاية كل العلوم، ليصل في خاتمة كتابه للحديث عن الرعب الإلهي.
معانٍ متعددة ومتناقضة
يقول في هذا المجال برتران بادي في «الدولة المستوردة» إنه «عندما تحثّ العولمة على استيراد نماذج غربية إلى مجتمعات الجنوب تكشف بذلك عن عدم ملاءمة هذه النماذج، أو عندما تحرض المجتمعات الطرفية على التكيّف توقظ أيضاً آمال التجدد مع المخاطر في الوقت ذاته بخداعها. وحين تمنح النظام الدولي مركزاً للسلطة مرتباً أكثر من أي وقت مضى، فإنها تتجه نحو زيادة حدة منازعاته وشدّة صراعاته، وحين تسعى العولمة لوضع نهاية للتاريخ، فإنها تمنحه فجأة معاني متعدّدة بل ومتناقضة. ويخلص برتران إلى نتيجة مفادها «أن الرفض الشعبي للعولمة له مبرّراته المترتِبة على حجم الآثار السلبية الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية التي ستقذف في وجه الأفراد. لكنّ المفاجأة بالعولمة في الخطاب الرسمي، لا تتفق مع فشل الدولة في دمج أفرادها في خطط التنمية والارتقاء بمستوياتهم المادية والاجتماعية والثقافية، إنما يصبح مفهوماً أن وقوع الدولة المستوردة في أزمة الانتماء المواطني يدفعها إلى تحبيذ ازدياد التدفقات العابرة للأوطان، بمعنى ازدهار علاقات دولية تأخذ أشكالاً شبه رسمية». يقول الدكتور مصطفى سليمان في «مقاربة أولية لتداعيات العولمة على المجتمع العربي» ما نصه: «العولمة الرأسمالية اليوم، تستند إلى مناخ عالمي خصب، تمخّض بنهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، وانفتاح العالم ليكون رأسمالياً باضطراد، لكأنّ التاريخ لا يحتمل اليوم غير تطوّر وحيد ينتهي رأسمالياً على حد زعم فوكوياما. ومع أنّ الخطاب الكوني للنظام الدولي لا يخلو من تهديم للتواريخ التي لا تندرج في مساراته، فإنّ ذلك ينتج ظاهرتي السيطرة والاستعباد، سيطرة مراكزه، واستبعاد وتهميش أطرافه، لكن هذا الاستبعاد لأطراف النظام العالمي يواجه هو الآخر من قبل متلقيه بخطاب منازعة ورفض لذلك النظام العالمي، وخطاب الرفض هذا يتراوح واقعياً بين ردود إيديولوجيّة، ورسميّة للدول والأحزاب والجماعات، أو تبنّي الأفراد والجماعات لحالات العنف والتطرّف في ظل رؤى ذاتيّة وإيديولوجيّة، بحيث تحيل تجليات العولمة على «الغول الآتي لابتلاع العالم»… «ابتلاع الانتماءات والهويات والقيم». هذا الإسقاط المجازي للعولمة «كغول» يثير ذلك الهلع المتوافق مع «غريزة القطيع» حيث ينتشر «الطاعون»، إن رؤية الشر المحض أو وجه القبح في الآخر، فيه تقليل من قدرة الذات والأنا على مقاومة ذلك القبح أو تجنب ذلك الشر وإن لم يكن بالمطلق. إن تقديم العولمة عبر فهم كهذا يخضعها للإزاحة عن مضامينها الموضوعيّة التي تفتح احتمالات التطوّر، لجهة التقدّم حيث السيطرة الواعية على المحيط البيئي والاجتماعي، كذلك لجهة تعثّر التطوّر واحتمالات الشر أو السلب أيضاً. إن كونية النظام العالمي المطروحة وفقاً لاستنسابية فاضحة، والطامحة إلى توحيد مناهجه وقيمه وأهدافه، وسيره على خطى أحادية للتاريخ، تتكشّف في معترك الواقع المعاش عن عجز العولمة في ما ترسم عالمياً.
يقول في هذا المجال برتران بادي في «الدولة المستوردة» أنه «عندما تحثّ العولمة على استيراد نماذج غربية إلى مجتمعات الجنوب تكشف بذلك عن عدم ملاءمة هذه النماذج، أو عندما تحرض المجتمعات الطرفية على التكيّف توقظ أيضاً آمال التجدد مع المخاطر في الوقت ذاته بخداعها… وحين تمنح النظام الدولي مركزاً للسلطة مرتباً أكثر من أي وقت مضى، فإنها تتجه نحو زيادة حدة منازعاته وشدّة صراعاته، وحين تسعى العولمة لوضع نهاية للتاريخ، فإنها تمنحه فجأة معاني متعدّدة بل ومتناقضة».
ويخلص برتران إلى نتيجة مفادها «أن الرفض الشعبي للعولمة له مبرّراته المترتِبة على حجم الآثار السلبية الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية التي ستقذف في وجه الأفراد. لكنّ المفاجأة بالعولمة في الخطاب الرسمي، لا تتفق مع فشل الدولة في دمج أفرادها في خطط التنمية والارتقاء بمستوياتهم المادية والاجتماعية والثقافية، إنما يصبح مفهوماً أن وقوع الدولة المستوردة في أزمة الانتماء المواطني يدفعها إلى تحبيذ ازدياد التدفقات العابرة للأوطان، بمعنى ازدهار علاقات دولية تأخذ أشكالا شبه رسمية». والواقع، أنّ النسق المطروح اليوم للنظام العالمي الجديد ولترتيباته السياسية والاقتصادية والثقافية بكل تداعياتها يأتي في سياق عالمي للتطوّر الأحادي في أبعاده ونتائجه السلبية، سياق يملك نزوعية الهيمنة والاستبداد والاحتكار، إنهّا «المالتوسية الجديدة» تضع الدول النامية والأمم المستضعفة أمام امتحان البقاء والصراع لأجله… وما أكثر ما طرح السؤال الأساسي: «هل العولمة دين الحداثة أم نذير نهايتها؟ وإلى أين يذهب بنا هذا الاقتصاد العولمي معصوب العينين، الذي جعل من مصير البشر لعبة تتقاذفها أياديه الخفية وتقلبات أسواقه وقصر نظر استراتيجياته وتكتيكاته؟». في سياق تحليله للعولمة وما تمثله من تحديات، يقول المفكر المصري نبيل علي: «ثمة نزعتان تتجاذبان هذا العالم الذي نحيا فيه اليوم: التوسع المكاني والإسراع الزمني، ودوامة حركة الاقتصاد الهادرة التي تحدثانها لتعملا معاً كمضخة أعماق هائلة، آلية «شفط» لا تهدأ ولا ترحم، تضخ إلى أعلى القيمة المضافة، وعوائد الاستثمار الضخم، التي تسحب معها أموال صغار المستثمرين». وهنا، يرتسم سؤال من نوع آخر حول من يقود آلة «الشفط» تلك أهم أفراد أم دول؟ أم الشركات العابرة للقارات؟ ماهو دور الدولة في ظل عملية «الشفط» تلك؟ ومن هو المستفيد من عائدات «الشفط» تلك؟ وكيف تتوزع عائدات النهب و«الشفط»؟ ما هو القانون السحري الذي يحكم توزيع الثروة؟
لا شك أن ثمة أسئلة كثيرة تتناول أداء منظومة الاقتصاد العالمي! ويطلق الاقتصادي الهندي العظيم أمارتيا سن تسمية «العقلانيون الحمقى» على أولئك الاقتصاديين من أصحاب النظرة الضيقة الذين يطبلون ليل نهار للعولمة من دون التمعن في تداعياتها على شعوب بكاملها قد تحمل لهم البؤس والشقاء والفقر الشديد. وربما هذا ما يفسر حرص «جيمس ميد» الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد على ألا يكون ضمن هؤلاء الحمقى حينما يقول: «لقد سعيت طيلة حياتي لأن أفهم ظاهرة الاقتصاد الحديث، إلا أن بداهة الحس الطبيعي كانت على الدوام تسد الطريق أمامي. حقاً لقد باتت البشرية في أمس الحاجة إلى اقتصاد مختلف، أشد ما يكون عليه الاختلاف عن «اقتصاد الكازينو» هذا الذي ابتلينا به، وذلك ضمن نظام اجتماعي مختلف هو الآخر، يخلصنا من «بربرية التكنولوجيا المتقدمة»، بربرية ثقافية في غلاف من وهم التقدم المادي، ومن «بربرية التخصص» التي جعلت من علم المتخصصين سداً منيعاً يحجز عن هؤلاء «الجهلاء الجدد» كل ما دون تخصصهم من معارف وخبرات، وحتماً فإن «آفة التخصص» تلك وراء عجزنا عن فهم مجتمعنا واقتصاده».
نحن والعولمة: رؤية وموقف
يقول أنطون سعاده في شرح مبادئ حركته القومية الاجتماعية: «لا يوجد حدود طبيعية في العالم تقدر أن تمنع أمة قوية من الامتداد وتوسيع مدى حيويتها وحياتها. وإننا نرى، مع تقدم وسائل النقل وإتقان الصناعات، أن الحدود الطبيعية، إذا لم تؤيدها قوة إنسانية فنية، لم تقدر على صد جماعات لها فاعلية وقدرة على تخطي الحدود». هذه المقولة قاربت إشكالية العولمة وما تفرضه من تحديات في مرحلة تاريخية مبكرة وهي ترتكز على قاعدتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: إن الفكرة القومية الاجتماعية التي طرحها تجسد نظرة ديناميكية نامية ومتطورة للوجود الإنساني تتأسس على شمولية البعد المدرحي في فهم التاريخ وموقع الإنسان المحوري في حركته التي لا تقوم على الحتميات لا المادية منها ولا الروحية، بل تحكمها عملية التفاعل المادي الروحي – الشامل بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والبيئة التي تقدم له إمكانيات النمو والتقدم، وكل ذلك بالارتكاز على معطيات العقل وقدراته على قيادة هذه العملية التاريخية المركبة والمعقدة. القاعدة الثانية: إن القومية الاجتماعية تراهن بشكل أساسي على الإنسان في ريادة المستقبل وما قد يعرض في سياقه من تحديات قد تواجهه، فلا الحدود الطبيعية ولا أي عامل آخر يمنع أمة قوية من الامتداد والتوسع في مدى حيويتها بأبعاده المختلفة، ومع التقدم في العلم والتكنولوجيا وتقنيات الاتصال والتواصل بين البشر يبرز دور الإنسان ودور كفاءاته في تبوئه الموقع الذي يطمح له في الحياة. وكما أن الحدود الطبيعية لا تقدر أن تمنع أمة في العالم من الامتداد وتوسيع مدى حيويتها وحياتها، كذلك هذه الحدود تبقى قاصرة عن صد أمة أو مجموعة أمم تسعى للهيمنة بأشكاها المختلفة وهنا يبرز -عند سعاده – الرهان على الإنسان بما يمتلك من كفاءات وقدرات فنية وبما يتسلح به من علوم زمانه، ومن هذه النقطة بالذات تكتسب مقاربة العولمة على ضوء النظرة القومية الاجتماعية أهمية خاصة انطلاقاً من كون العولمة كظاهرة تجسد حيوية الجماعات البشرية وسعيها الدائم بما تملكه من وسائل مادية وبما تقبض عليه من تقنيات زمانها للهيمنة على العالم سياسيا واقتصاديا وفرض مفاهيم قيمية تنسجم مع أهداف الهيمنة هذه. هاتان القاعدتان الأساسيتان تقودان إلى استنتاج حقيقة قومية اجتماعية بامتياز مفادها أن «العولمة» ظاهرة تاريخية ناتجة من صراع الإرادات الحضارية بين عالميات الأمم التي حددت خاصيات التاريخ الإنساني… وهي ـ أي العولمة ـ وبهذا المعنى تجسيد أكيد لثورية الإنسان عبر العصور، هذه الثورية التي لا تعرف إلا حدود العقل ونمو المجتمع وأغراضه ومطامحه، فتستوعب باستمرار حالات التطور لتطلق رؤى وأفكاراً في مستوى العصر ومن قواعد انطلاقها الفكرية بالذات، غير أن المأزق التاريخي الكبير الذي واجه هذه الظاهرة عبر التاريخ يتمثل في أمرين:
أداة استغلال خطيرة
الأمر الأول: غياب العقلية الأخلاقية الجديدة الناظمة لشبكة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية التي تطرحها العولمة، فتتحول ـ في أغلب الأحيان ـ إلى أداة استغلال خطيرة في يد الطرف الأقوى في معادلات حركة العولمة أي في يد القوة الأنشط والأفعل في اطار الظرف الزماني والمكاني الذي تشكلت فيه وفي أغلب الحقبات التاريخية، ما أدى باستمرار إلى تشويه لصورة هذه الظاهرة وأبعادها الثورية ـ التغييرية، التفاعلية، التطورية نتيجة إفراغها من المضمون الإنساني الحقيقي المرتكز إلى مفاهيم الحق والعدالة والمساواة وإلى قيم الشراكة الحقيقية الإيجابية والبناءة التي وحدها تؤسس لقيام عالم جديد متوازن في صيغ العلاقات المطروحة بين أممه وشعوبه وحضاراته.
تجارب ناقصة ومجتزأة
الأمر الثاني: أحادية البعد في تشكل «العولمة» عبر التاريخ: إن التجارب التاريخية التي مرت بها الإنسانية، والتي تمحورت حول موضوعة «العولمة» شكلت تجارب ناقصة، مجتزأة يعتريها الكثير من الشوائب، لأنها لم تستوف شروط قيامها كتجربة إنسانية شاملة ومتوازنة ترتكز إلى حريات الشعوب وتؤمن مصالح ارتقائها ونهوضها، وتكفل تحقيق أهدافها في السلام الحقيقي العادل والدائم. إن هذه التجارب الناقصة لا تصلح نموذجاً يقتدى به نظراً إلى الثغرات التي رافقتها والتي لا تقتصر على انتفاء وجود صفة التوازن والمساواة وغياب مفهوم المصالح المشتركة في صلب بنية العلاقات التي نتجت منها بل إن هذه الثغرات طاولت نواحي أساسية هي في صلب موضوع العولمة، ولعل الناحية الأبرز والأهم التي تميزت بها أكثر التجارب ـ والتي تأتي في مقدمة هذه الثغرات ـ هي مسألة البعد الأحادي المجتزأ لقضية «العولمة» في مستوياتها المختلفة. إن هذه التجارب الناقصة أو غير المكتملة لا تزال تضغط على العقل الإنساني الذي يمثل الشرع الأعلى في المجتمع والحياة باتجاه قراءة جديدة لهذه التجارب على ضوء معطيات الواقع الإنساني دون القفز فوق الحقائق الاجتماعية بل بالأخذ بها واكتشاف دورها الحاسم في تفعيل صيغ الشراكة الحقيقية، الحضارية ـ العالمية، وإعطائها صفة الثبات والاستقرار الحقيقي غير القابل للاهتزاز، والخلخلة عند كل مفترق.
إن نقد تجارب «العولمة» التي لحظها التاريخ الإنساني لا يجسد أبداً موقفاً سلبياً من الظاهرة في حد ذاتها، ولا يندرج هذا النقد في خط الدعوة إلى التخلي عن «العالمية الواقعية» إذا صح التعبير ـ التي يجب أن تسعى إليها كل الحضارات التي أدت وتؤدي دوراً في التاريخ الكوني. ذلك أن دعوة من هذا القبيل ستبدو وكأنها سباحة بعكس التيار، ومحاولة غير واقعية في إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، فالتفاعل بين شعوب العالم الذي ساهمت كل تطورات العلم وتقنياته الحديثة في تغذيته هو حقيقة قائمة ومتصاعدة في اتجاه ترابط أكبر تحتمه ضرورات هذا التفاعل المتنامي بين الشعوب على مستوى العالم كله. ولكننا نسعى بطبيعة الحال لتحسين ظروف مشاركتنا في إدارة هذا النظام العالمي الجديد وهذا هو بالضبط لب وجوهر القضية التي نحن بصدد مقاربتها من زاوية إنسانية حقيقية تنطلق من جملة هواجس وحالات من القلق الوجودي الذي يعتري كياننا ودورنا ومستقبل صيرورتنا… هذه «العالمية الواقعية» التي ندعو لها تقوم على مبدأ التوازن والعدالة والمساواة بين الأمم والشعوب، والتوازن هنا ليس بالضرورة توازن «الخوف»، «والرعب»، و«التهديد»، هذا التوازن المرتكز إلى خلفية الترسانات النووية والكيماوية والبيولوجية، وغيرها من ترسانات الدمار والموت الشامل، القائمة في عالمنا اليوم والمنتشرة في أنحاء العالم. إن عالمنا اليوم يواجه مأزقاً حقيقياً في طبيعة العلاقات الدولية القائمة على توازنات القوى بأشكالها المادية الصرف التي تشكل مصدر قلق حقيقي لكل شعوب العالم من دون استثناء ذلك أن طبيعة هذه الأشكال، والإمكانات تمتلك الصفة التدميرية الشاملة والواسعة النطاق والتي لن يبقى أحد بمنأى عنها، لأن الكل يقع في دائرة الخطر المباشر أو غير المباشر.
هذه الحقيقة المرة والصعبة في آونة واحدة، هي التي تدفع اليوم باتجاه إحداث التغيير في نمط التفكير السياسي السائد في العالم وإن كان هذا التغيير دون مستوى التحدي التاريخي الذي يواجه البشرية، والذي يفتقد حقيقة إلى العمق الإنساني الحضاري حيث لا تزال الرؤية له تستند فقط إلى ما يمثله من أخطار، وأضرار جسيمة على مجمل أطرافه، أي إن منطق الربح والخسارة لا يزال القاعدة الأساس التي تحكم التعاطي مع كل هذه المشكلات بدل البحث عن إيجاد حلول جذرية لها. إن ما نطمح إليه حقاً هو بناء عالم جديد يقوم على تفكير جديد يتجه نحو «الشراكة الحضارية» الحقيقية، المرتكزة إلى قيم إنسانية راقية تعطي لكل صيغ العلاقات بعداً نفسياً وروحياً ـ مادياً عميقاً خارج منطق الاستعباد وقيم التسلط والهيمنة، والتبعية والإخضاع بأشكالها المختلفة. «العالمية الواقعية» التي نقصدها، هي صيغة للتفاعل الحضاري الإيجابي بين الشعوب والحضارات تنطلق من واقع التمايز القومي والثقافي والحضاري، باعتبار أن الأمم والقوميات تشكل الركائز التي يقوم عليها البنيان العالمي. إننا نؤمن حق الإيمان بإمكان اتحاد الإرادات الإنسانية الخيرة، أرادات الشعوب الحرة الطامحة إلى السلام والرخاء والازدهار. ولكن، لا هذه الصيغة ولا تلك سيكتب لها النجاح، ولن تكون قابلة للتحقق في الواقع الإنساني، إذا لم تقم على قيم أخلاقية جديدة وعلى مفهوم للعلاقات الإنسانية أكثر نضجاً وأكثر فهماً لضرورات بنائها على نظرة مشتركة للحق والخير والجمال.
نظرة مشتركة للحق والخير والجمال
يقول أنطون سعاده في شروح عقيدته القومية الاجتماعية ما مؤداه: «إن شرطنا لكي نعترف بوجود حق أو خير أو جمال في هذا العالم، هو أن نشترك في رؤية هذا الحق، وهذا الخير، وهذا الجمال». وهذه مسألة فلسفية بامتياز تلامس واقع عالمنا اليوم ونحن نلج به مسالك القرن الواحد والعشرين في ظروف طغيان الشر والظلم والعدوان المتستر وراء شعارات تحملها مؤسسات لتخترق بها مجتمعات تسوقها وفقاً لرؤاها وغاياتها وأهدافها القريبة والبعيدة. إن حصول هذه النظرة المشتركة «للحق والخير والجمال» هو شرط أساسي لا غنى عنه لتحقيق العولمة بمعناها الإيجابي وبمفهومها الشامل المتعدد الجوانب، والمرتكز إلى مفاهيم الأخوة الحقيقية، وهذا التوحد في النظرة لا يتأسس على أرضية الفراغ بل ينطلق من واقع التفاعل والاحتكاك الحي بين الأمم والشعوب والجماعات، وإذا كان هذا الاحتكاك قد أخذ في الماضي أشكالاً وأنماطاً مختلفة، فإن الواقع الراهن يتطلب مراعاة الأشكال الأكثر تعبيراً عن المضامين الإنسانية الحقيقية وذلك تحسساً بمستوى الأخطار التي تلف العالم بأسره. إن تحقق هذه النظرة المشتركة لما هو حق ولما هو خير ولما هو جمال هو القاعدة لمقاربة مشكلات الواقع الاجتماعي في مستوياته المختلفة، فلا يتفرد طرف سواء كان دولة أو مؤسسة أو حتى فرد في فرض نظرته الخاصة للأمور، بما يتوافق ومصالحه الخاصة فينتج من ذلك ظلم يؤسس لأحقاد تقود إلى أفعال قد تكون تدميرية، وتؤدي إلى حالة من اللا استقرار العالمي كالوضع القائم حالياً في عالمنا اليوم نتيجة غياب التحديد الواحد لـ«الإرهاب» ونتيجة اعتماد معايير مزدوجة تفتقر للعدالة الحقيقية وتنذر بعواقب وخيمة على كل الأطراف في معادلة القوى وموازينها العالمية، فلا تعالج المشاكل بعمق وتحاكم النتائج بدل التدقيق في توصيف الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأزمات. وقد طاول أمتنا وشعبنا من ازدواجية المعايير المعتمدة ضغوط كبيرة ومظالم كثيرة تجعلنا أكثر إيماناً وأشد تمسكاً بفكرنا القومي الاجتماعي المنفتح والإنساني بامتياز لنواجه به المرحلة المقبلة بما تحمله من تحديات جديدة. ولن يفيد- أولئك الذين يتموقعون في مراكز القرار العالمي – التنكر الدائم لضرورات البناء الجديد لعالم اليوم، هذا البناء الذي يجب أن يرتكز بالدرجة الأولى على قناعة راسخة بأننا سكان كوكب واحد، وبأن هذا الكوكب قد تحول فعلاً في ظل التطور التقني والتكنولوجي، وفي ظل الاكتشافات العلمية الرائدة، وثورة المعلومات الى قرية كونية واحدة محكومة بأخطار حقيقية تهددها بالزوال مع هبوب رياح كل أزمة سياسية، اقتصادية، اجتماعية في أي منطقة من العالم.
وهذا بالفعل، ما يفترض تحولاً جذرياً في العقل السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي الذي يحكم أو يتحكم بمراكز القرار الدولي باتجاه قراءات أكثر توازناً، وأعمق فهماً للمشكلات التي تواجه البشرية جمعاء والتي تشكل تحدياً كبيراً يفترض أن تتضافر معه كل الجهود لمعالجته، والتصدي له لإنقاذ هذا الكوكب من أخطاره الجسيمة التي لن توفر أحداً، لأن نطاقها هو مدى هذا الكوكب على اتساعه، فكابوس الخطر النووي ليس مجرد حلم مزعج يتراءى للبشرية في عالم اللاوعي، بل حقيقة مرة تقض مضاجع العقلاء في هذا العالم، لأنها قابلة في كل لحظة للانتقال من حيز التجريد النظري الى حيز الواقع العملي المدمر لكل شيء. ومن المؤسف حقاً أن يتحول الإنسان في هذا العصر إلى مجرد ضحية لما أنتجه عقله، وفكره من تجارب واختبارات تراكمت عبر العصور لتصل اليوم إلى نقطة التهديد الحقيقي بالدمار الشامل وكل ذلك بسبب انتفاء الأخلاقية الإنسانية الراقية، والنظرة الصحيحة لموقع الإنسان المحوري باعتباره قيمة تجب المحافظة عليها. لقد آن الآوان لأن تحرك هذه الوقائع الخطيرة شيئاً ما في داخل الإنسان، وأن تحدث التغيير المنشود في الفكر الإنساني باتجاه دفعه للبحث عن صيغ جديدة، وأشكال أكثر تقدمية للعلاقات بين الشعوب، والتخلي عن فكرة المركز والأطراف، الحاكم والمحكوم، السيد والمسود.
|