تطغى ديناميات الأحداث على كامل منطقتنا وعلى مدى بيئتنا الطبيعية وبعض عالمنا العربي. فإذ بالأسئلة تتناسل وتتوالد ويضجّ بها العقل في محاولة لفهم معمّق لطبيعة الحدث نفسه، خصوصيته، ميزته، أسبابه، تداعياته، نتائجه المباشرة وغير المباشرة، تأثيره على حاضرنا ومستقبلنا وعلاقته بالماضي قريبه وبعيده.
ثمة دينامية عالية وتغيّرات متسارعة تفرض وقائع سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية جديدة في كلّ يوم، وثمة صراع قوي فيه الكثير من التعقيدات والتشابكات والتقاطعات المحلية والإقليمية والدولية، بعضها منسّق، والكثير منها يضرب على غير هدى، ويشكل عنواناً لفوضى وعبثية مطلقة لها طابع تدميري شامل للبنى والهويات والأطر والدول والمؤسسات والعقول.
ما يحدث اليوم على الساحة القومية كاملة من العراق إلى فلسطين مروراً بالحدث السوري يشكل منعطفاً خطيراً يُنذر بأوخم العواقب، إذا لم يتمّ تفعيل المبادرة وتزخيم فعل كلّ القوى القومية الشعبية المؤمنة بالوحدة والحرية والمؤتمنة على التاريخ والحاضر والمستقبل في المنطقة بأسرها، باعتبارها القاعدة الحضارية لبلاد الشام والعراق وعمقاً إجبارياً استراتيجياً وجغرافياً وتاريخياً للهلال الخصيب كله.
إنّ هذه الهجمة الوحشية غير المسبوقة بشعاراتها ومضامينها وأشكالها المتصلة بالقرون الوسطى، وبما تحمله من فكر إلغائي تدميري لمعالم الحضارة والإنسانية في بلادنا، بدءاً من الحدث العراقي والتراجيديا المستمرة كنتيجة لسقوط أجزاء من العراق في فم هذا الأخطبوط الجهنمي، وتهجير مئات الألوف من المواطنين والمجازر المرعبة التي ارتُكبت وتُرتكب بحق المدنيين من نساء وشيوخ وأطفال، وسيطرة داعش على أجزاء من التراب العراقي، مروراً بالأحداث الهائلة التي شهدتها وتشهدها سورية وعنف ووحشية الهجمة البربرية المعادية، وصولاً الى لبنان الذي يعيش حالة من ستاتيكو الفوضى العبثية في السلطة والمجتمع، انتهاءً بفلسطين حيث ترتكب «إسرائيل» جرائمها الوحشية بحق شعبنا الفلسطيني الذي يتعرّض لعملية إبادة حقيقية، ولغزوة بربرية وحشية تستهدف الحجر والبشر، بهدف فرض حقائق جغرافية جديدة على الأرض في ظلّ الصمت والتآمر الدولي المقيت، وإضعاف جبهة المقاومة الداخلية لفلسطين – المقاومة بغرض تطويعها وإخضاعها وضرب جذوة الصراع فيها، وحيث تستمرّ عمليات القضم والتجريف والتغريب وتغيير معالم الأرض والمدن والقرى كمقدمة للقضم والضمّ ومتابعة عمليات الاستيطان. كلّ هذه الأحداث الهائلة تفرض نفسها على الحاضر والمستقبل، وتشكل تحدياً أساسياً لكلّ القوى الشريفة الوطنية والقومية والعالمية المؤمنة بالإنسان والأرض وبالدور الريادي لهذه الأمة على مستوى الإقليم والعالم. هذا التحدي الوجودي يفترض رسم خطوط مواجهته في الميدان والثقافة والوعي وفي قلب المجتمع الذي يشكّل الطرف الأساسي في معادلة الصراع الكبرى.
وتزامناً مع كلّ هذه الأحداث، تحقق قوى المقاومة إنجازات كبيرة في الميدان من العراق إلى سورية الشام وثمة انتصارات ميدانية على الإرهاب يتمّ تحقيقها من الموصل إلى حلب شكلت القاعدة لصدّ هذه المؤامرة في حلقاتها الأخيرة.
بيد أنّ التهديدات والأخطار لا تزال قائمة بالرغم من كلّ الإنجازات، وما معركة حلب والإنجاز الذي تحقق بتحرير المدينة إلا مفصل أساسي من مفاصل الحرب نظراً للموقع الجغرافي والديمغرافي والاقتصادي للمدينة، باعتبارها المفتاح لتأمين وحدة الدولة السورية وإسقاط مشاريع التقسيم والفدرلة وفق الخرائط التي أريدَ تسويقها وتجذيرها في الواقع الجغرافي – السياسي والاجتماعي، كمدخل لتفتيت المنطقة بأسرها لتأمين سلامة واستمرارية وإنقاذ الكيان الصهيوني من مأزقه التاريخي الوجودي.
الخلاصة، ثمة صراع هائل تخوضه المقاومة من العراق إلى الشام إلى لبنان، إلى فلسطين، إنه صراع يرقى الى مستوى حرب الوجود ضدّ أعداء الداخل والخارج معاً، وخصوصية هذه الحرب أنها تمتدّ على الساحة القومية كاملة، على الرقعة الجغرافية في المدى السوري كاملة، وعلى أرض الهلال السوري الخصيب كاملاً، أيّ على امتداد الجغرافيا الممتدّة من بلاد ما بين النهرين إلى بلاد الشام.
لقد أسقطت حقائق الصراع والميدان كلّ الحدود المصطنعة ما بين هذه الكيانات السياسية الهشّة الضعيفة التي تجرّ ذيول الخيبات والوهن والانقسامات على أنواعها.
لقد توحّدت سورية على أرض الصراع، وامتدّت معركة المصير القومي على أرضنا القومية الكاملة في أوضح وأعمق صورة جيو بوليتيكية. وبالتالي، فنتائج هذه المعركة لا يمكن حصرها في رقعة جغرافية، بل أصبح انعكاسها حتمياً على البيئة الطبيعية القومية كاملة.
التحديات الآنية جدية وحقيقية ولا يمكن مواجهتها في الميدان إلا من خلال أطر مقاومة وطنية وقومية لها بعد شامل كلّ معالم الهوية والانتماء الوطني، ولا يمكن ضمان استمرارها إلا بالعمل الثقافي الحثيث ذي الطابع التأسيسي للمجتمع والدولة، لكي نستعيد زمام المبادرة… ونحن قادرون على هذا بالفعل، لسبب واحد، ذلك أنّ هذا المنهج هو منهج المستقبل الحقيقي الواعد، ولنا في التاريخ العالمي تجارب وعبر لا بدّ من استلهام دروسها… كي نربح المستقبل!
|