يغوص مجتمعنا من جديد، في متاهات الانقسام والتفسّخ والتشرذم، وإذ بنا ندخل مجدّداً نفقاً لا نرى نهاية له.
وإذ بالفتنة تطلّ من جديد برأسها هذه المرة – من نافذة المحكمة الدولية والقرار الظني وما يسمّى «العدالة الدولية».
لا شك في أنّ المرحلة تشتمل على تحديات شتى، مختلفة ومتعدّدة، وخطيرة، ولكن الثابت أنّ مواجهة هذه التحديات تتخطى الإطار الكلاسيكي التقليدي، وتتطلب جهداً خاصاً ومميّزاً لا بدّ أن يقوم به كلّ الغيارى على وحدة الأمة وأمنها وسلامتها واستقرارها.
فالفتنة ليست مسألة طارئة في حياتنا، بل ومع الأسف – حقيقة مستمرة ذات أبعاد مختلفة، بعضها داخلي يختصّ بالبنية الداخلية لمجتمعنا التي يعتريها عطب بنيوي لا بدّ من معالجته جذرياً، وبعضها خارجي يتمثل في المشروع الصهيوني وتقاطعاته الدولية، والضغط الذي يمارسه هذا المشروع والذي يتركّز على نقطة إحداث اهتزازات كبرى في بلادنا كمدخل لتفتيت الأمة وتشتيت قواها، وضرب وحدتها.
وكلّ ذلك، يدفع القوى الحية في المجتمع الى التوحّد في خطة نظامية، وفي مشروع معاكس يناهض الفتنة، ويؤكد على ثوابت الحياة الواحدة والمصير الواحد، ويقيم شبكة أمان حقيقية تقي لبنان وكلّ الأمة من المخاطر، وتحقق التقدّم الحقيقي على طريق إحباط وضرب مشاريع الفتنة وامتداداتها الداخلية والخارجية ولكلّ ما يتفرّع عنها.
الفتنة اليوم تتوسّل «الصراع المذهبي» تارةً بين سنة وشيعة، تارةً أخرى بين مسيحيين ومحمديين إلى ما هنالك مما تمّ تطويره من أشكال الفتنة التي تطلّ علينا بألف رأس ورأس…!
والهدف طبعاً هو كسر روح الممانعة لدى شعبنا، وإضعاف المعنويات كمقدّمة للتطويع والتدجين بدءاً من الفكر الى الثقافة الى الاقتصاد، وصولاً الى التربية، وانتهاء بشطب الهوية وتمزيقها إلى هويات تقسيمية تزيد إنساننا غربةً وتيهاً في عالم لا يثبت في معتركه إلا الأقوياء المتمسكون بالهوية.
كيف يكون الردّ؟ هل نكتفي بالنفي والإنكار أنّ «التركيبة الداخلية» لمجتمعنا تعاني حالة اهتراء؟ هل نرفض رؤية الواقع كما هو؟ هل نغمض أعيننا عن الحاجة إلى التغيير الحقيقي في طرق التفكير، وأساليب وجوهر المقاربات لكلّ المسائل؟
هل يكفي أن نؤكد حرصنا على الوحدة، فيما كلّ البنى التي تظلل وجودنا هي بنى طائفية ومذهبية وعشائرية وعائلية بالمعنى السلبي والضيق للكلمة؟
الفتنة التي تطلّ برأسها اليوم تحاول اختراق النسيج الشعبي للمجتمع وزرع أوهام الفرقة والانقسام والتشرذم، والفتنة قبل كلّ شيء نتاج اختراق لبنية العقل في بلادنا، والردّ يكون بإعادة صياغة وعي جديد يؤسّس لثقافة الوحدة والتفاعل والتواصل الحياتي الإيجابي على مستوى الجغرافية الوطنية والقومية.
بالوعي نبني، وبالإرادة المصممة نخطو الى الأمام. وهذا هو بالضبط دور القوى الحية المؤمنة بالهوية القومية، وقيم الانتماء الى الأمة، والمؤمنة بالحرية والديمقراطية سبيلاً للتحرّر والانعتاق من التقاليد البالية، والمتمسكة بخيارات رفض السيطرة والهيمنة الأجنبية على مجتمعنا باتجاه تصليبه وتحقيق منعته الداخلية.
الطائفية لعنة الأمة في كلّ كياناتها السياسية، ووباء قاتل يهدّد سلامة المجتمع القومي ووحدته ويقفل أيّ إمكان للتطور الطبيعي باتجاه المستقبل. الطائفية تنشئ تقسيمات نفسية ومادية في قلب المجتمع الواحد، وتخلق تضاربات في المصالح والرؤى والأهداف بما ينعكس سلباً على حياة الناس، ويدفع بهم الى أتون صراعات غير مجدية ومدمّرة في آن.
المفارقة، أنّ هناك شبه إقرار بخطورة هذه الظاهرة، ويكاد يكون توصيفها متطابقاً لدى كلّ الألسن، ولكن، عندما تطرح الحلول أو الرؤى لتجاوز هذه اللوثة، تتكشف النيات الحقيقية، والسلوكيات الملتبسة، وتطرح علامات استفهام جدية حول وجود إرادة حقيقية لتجاوزها.
الطائفية كظاهرة وكمضمون فاقمت من أزمة لبنان هويةً ونظاماً، وأدّت الى فتن وحروب أهلية ما زلنا نشهد الى اليوم تداعياتها على حاضر ومستقبل هذا الكيان السياسي الهش.
أما «العبور الى الدولة» فهو ليس شعاراً استعراضياً فارغاً، بل وقبل كلّ شيء ثقافة يجب تعميمها وترسيخها في أذهان الناشئة من شباب وفي عقولهم وقلوبهم، ثقافة المواطنة والانتماء الى المجتمع والدولة، ثقافة المحاسبة والمساءلة والشفافية، ورفض كلّ أشكال العنصرية وخاصة الطائفية والمذهبية الهدامة.
نحن الآن أمام مفترق خطير، والخيار الوحيد المتاح هو خيار بناء الدولة الحقيقية، دولة الوطن والإنسان، بعيداً عن المزارع الطائفية والمذهبية، وكانتونات الطوائف والمذاهب والقبائل، دولة ركيزتها القانون واحترام حقوق المواطنة، والمحاسبة والشفافية، والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، دولة واضحة في خياراتها الوطنية والقومية وفي انتمائها الى بيئتها ومحيطها القومي، هذا هو الخيار الوحيد المتاح إذا أردنا فعلاً أن نخطو باتجاه المستقبل… فهل نبادر؟
|