القومية الاجتماعية ـ كما أرادها سعاده ـ تمثل منهجاً يرمي إلى بناء وحدة الأمة، وإطلاق نهضتها، وتحرير الطاقات الكامنة فيها، وإقامة نظام حياتها الراقي، أيّ نظام العدل الحقوقي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يؤمّن رقيّها وفلاحها وعزّتها، ويرفع عنها الضيم والظلم الخارجي والداخلي، ويقوّي منعتها في مواجهة العواصف التي تهبّ من كلّ حدب وصوب، ويضمن ترسيخ قيمها الإنسانية الراقية، ويحفظ لها موقعها المتقدّم على المستوى العالمي.
القومية الاجتماعية اذاً هي المنهج، والحزب السوري القومي الاجتماعي يمثل حركة الإسقاط الحي لهذا المنهج في واقع الأمة، ولا يمكن فهم وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي خارج هذا الإسقاط لمفاهيم النظرة القومية الاجتماعية وتطبيقها في حياة الأمة باعتبارها مفاهيم لا بدّ أن ترتكز عليها حياتنا القومية العامة، وهي مفاهيم نهضوية أيّ تهدف الى تحقيق نهضة الأمة وعزتها وتقدّمها وفلاحها…
هذا هو المدخل للإجابة على سؤال: أيّ حزب نريد؟ ليس الحزب السوري القومي الاجتماعي حزباً سياسياً بالمعنى الاعتيادي، وليس حزباً يقوم على مصالح آنية سياسية أو انتخابية، لا يمكن اختصار الحزب بأحادية البعد السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي، انه وفي ذات الوقت كلّ هذه الأبعاد مجتمعة في حركة قومية اجتماعية تناضل وتكافح وتجسّد تجسيداً حياً كلّ مضامين العقيدة القومية الاجتماعية، انه حزب الأبعاد المختلفة والمتعدّدة والتي تتركز حول نهضة الأمة ومصالح حياتها الكبرى.
انّ جزءاً من أزمة الحزب يتجسّد في اختصار حركة الحزب في بعد سياسي أو جزئي، فالحزب يتميّز بشموليته الفكرية، أيّ بكلام آخر يمتاز باشتمال عقيدته على جوانب متعدّدة تشكل جزءاً لا يتجزأ من طبيعته وكيانه وتركيبته ودوره والغاية من وجوده…
والشمولية بهذا المعنى وفي مراحل تاريخية معينة، وخاصةً في المفاصل الأساسية من حياة الأمم والشعوب هي مصدر غنى فكري وثقافي وحضاري، وتمثل المرتكز لعملية النهوض بالأمة والارتقاء بها من مستوى الانفعال الى مستوى الفعل في رسم مسارها النضالي التحرّري التنموي الاستقلالي، وتحقيق الأهداف والغايات الكبرى ورسم علاقتها بأمم وشعوب هذا العالم المترامي الأطراف…
القضية القومية الاجتماعية هي قضية الأمة بأسرها، هي قضية تحرّرها ووحدتها وبناء كيانها السياسي، وهي أيضاً قضية التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، كلّ هذه العناوين تمثل «النهضة» بأبعادها المختلفة.
الحركات النهضوية الكبرى مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي هي حركات تحمل أسئلة كبرى حول الوجود القومي والهوية والكينونة والصيرورة في الواقع الانساني، وهي تتحمّل مسؤوليات تاريخية كبرى وتتنكّب مهام «مزدوجة»، وهذا ما يميّزها عن الأحزاب التي نشأت في مجتمعات مستقرّة نسبياً كالمجتمعات الأوروبية، وهي مجتمعات وأمم وشعوب حسمت في داخلها منذ زمن بعيد المسائل المتعلقة بالهوية والوجود والانتماء، وتفرّغت لطرح البرامج الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية المرتبطة باللحظة الآنية، فيما الحركات النهضوية الكبرى هي تلك التي توجّه عملها، وتركز جهودها لتثبيت الهوية والدفاع عن الوجود القومي ومن ثم البحث لاحقاً في البرامج السياسية والاقتصادية الظرفية، لذلك اعتبرت أنّ مهمة «النهضة» مزدوجة بهذا المعنى…
ثمة قصور اليوم في فهم الدور والوظيفة للحزب وهذا يعيق حركة فعله ويعرقل أداء مهامه النهضوية، لذا ثمة حاجة ماسة حقيقية لأن نعيد للحزب بعده النهضوي الشامل في الثقافة أولاً وفي التربية وفي السلوك وفي الأداء السياسي وفي النضال طبعاً، لأنه يشكل نموذجاً نهضوياً وحدوياً فريداً وتجربة نضالية قومية مميّزة تجب المحافظة عليها وتطويرها وحمايتها ورفدها بكلّ عوامل الانتصار والقوة، وتقديمها للناس باعتبارها فكرة تحققت بالممارسة المرتكزة الى تربية قومية صحيحة والمشدودة الى عقيدة توحيدية جامعة لكلّ أطياف المجتمع القومي الواحد خارج كلّ التكاذب والدجل الذي تحفل به حياتنا العامة.
نحن بأمسّ الحاجة الى إحداث نقلة نوعية في مسيرة الحزب ترتكز على أسئلة في صلب المنهج القومي الاجتماعي، وتضع في رأس أولوياتها الأهداف والغايات التي نشأ عليها الحزب منذ تأسيسه حتى اليوم، أيّ وبكلام آخر – يجب طرح سؤال أيّ حزب نريد؟ والإجابة على هذا السؤال عند سعاده نفسه «الحزب: فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها».
هذا الجواب التاريخي الذي قدّمه سعاده يدفعنا إلى إجراء أوسع وأشمل وأعمق حركة نقد تاريخي لأداء الحزب ومدى انسجام هذا الأداء في الشكل وفي المضمون ومدى تناغم السلوك مع مقتضيات العقيدة القومية الاجتماعية بمفهومها الواسع والشامل.
هذا النقد لا بدّ منه، للاستفادة من تجارب الماضي وعثرات الحاضر بغية تقويمها وتصحيح الخلل فيها، والانطلاق مجدّداً في مسيرة نضالية متجدّدة دوماً باتجاه ما نصبو اليه.
وكلّ هذا يدفعنا دفعاً الى بناء المؤسسات وتعزيز عقل المؤسسات، وثقافة المؤسسات، وتعزيز آليات المحاسبة والرقابة، وتطوير القاعدة القانونية والدستورية التي تعزز انبثاق السلطة من القوميين الاجتماعيين باعتبارهم مصدر كلّ السلطات عبر اقتراحات قوانين ومراسيم توسع وتعمّق مفهوم الديمقراطية القومية الاجتماعية الحقة.
لا بدّ ـ في نهاية المطاف ـ أن نواصل حركة نضالنا على قواعد الفكر القومي الاجتماعي وفي سياق النهج الذي ينبثق عنه في مقاربة المشاكل واجتراح الحلول، فالعقيدة هي البوصلة في العمل القومي وفي التحالفات التي يقيمها الحزب وفي المشروع النضالي المرحلي وفي الأداء المتميّز للحزب، فلا تحالفات تأسر الحزب، ولا مشروع نضالياً يلغي فرادته في طرح مشروعه النهضوي المتميّز، ولا مواقع في السلطة على أهميتها وفي كلّ كيانات الأمة تحدّ من هامش حركة الحزب في أداء رسالته كاملةً.
والعقيدة ـ بهذا المعنى ـ تحصّن الحزب وتقوّي جسمه وتزيد من مناعته وتعطيه موقعه المتميّز في العمل.
ما نحتاج إليه فعلاً هو إحداث صدمة إيجابية داخل صفوف الحزب، وإطلاق أوسع حركة ثقافية تربوية مناقبية تعيد وضع النقاط على الحروف، وتعيد بناء الإنسان الجديد حقاً، إنسان سعاده المتميّز بعلمه وعمله وأخلاقه ومناقبه وسلوكه، وإعادة التركيز على البناء الأخلاقي القومي الاجتماعي هي المدخل الحقيقي لمقاربة كلّ هذه المشكلات.
أما صدقية القواعد الفكرية التي ارتكز عليها الحزب فتثبت صوابيتها الأحداث والتطورات سواء الداخلية في مجتمعنا أو على مستوى الإقليم والعالم، انْ كان لجهة الفهم العميق لواقع الأمة وحقيقة الهوية والانتماء لها، أو لجهة فهم واقع العالم وطبيعة العلاقات القائمة بين أطرافه، وحقيقة الصراع القائم فيه من أقصى الشرق الى أقصى الغرب، وبهذا المعنى تقدّم القومية الاجتماعية نموذجاً رائداً في كيفية تحصين الأمة من الداخل، بما يؤدّي الى تحصينها في وجه الأعاصير والعواصف التي تضربها من الخارج.
راهنية الحزب تتجسّد في حله إشكالية الهوية والانتماء، وإشكالية الهوية كانت على الدوام تقف عائقاً أمام حركة الأمة باتجاه المستقبل، إذ كيف يمكن أن تثبت على أرض الصراع والهوية تعاني تصدّعاً مشهدياً لا وضوح رؤية فيه.
راهنية الحزب في شموليته البعد المدرحي في فهم علاقة الإنسان مع الإنسان، وفي فهم علاقة الإنسان مع البيئة، هذه العلاقة التفاعلية البنّاءة الرحبة أوجدت الأساس العملي لوحدة الحياة ولحلّ كلّ إشكاليات الانقسامات الأفقية والعمودية، الروحية والمادية، وأوجدت الأرضية لحلّ كلّ مشكلات الأقليات الطائفية والمذهبية والاتنية والعرقية على قاعدة التفاعل والوحدة في دورة اقتصادية اجتماعية صاهرة وجامعة لكلّ أطياف المجتمع الواحد الموحد.
راهنية الحزب في فهمه العلاقات بين الأمم أيّ على المستوى الفوق ـ قومي انطلاقاً من حقيقة كون هذا العالم عالم أمم وشعوب ومجتمعات متمايزة في الثقافات ومتمايزة في الحضارات ومتمايزة في النظرة الى مسائل عديدة ولكنها جميعاً تتلاقى في رحب الإنسانية الجامعة، ولكن على قاعدة حفظ الذات والهوية وحماية المصالح الحيوية لكلّ مكوّنات هذا العالم.
راهنية الحزب في فهمه للشأن الاقتصادي باعتباره ركيزة من ركائز الاجتماع البشري، يقول سعاده: «الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى»، وهو يعتبر أنّ المسألة الاقتصادية هي مسألة مفتوحة على تطورات الحياة الاقتصادية نفسها، والحلول الاقتصادية ترتكز على قواعد حماية مصلحة المجموع القومي ولكنها أيضاً تخضع لظروف الزمان والمكان، ومستوى التطور الإنتاجي ـ الاقتصادي، فالحلول الجاهزة غير ممكنة في الاقتصاد، كما قولبة النظم الاقتصادية مسألة تخطاها الزمن، وكذلك دور الدولة ومستوى تدخلها في العلاقات الاقتصادية تقرّرها الظروف، فلا الرأسمالية الجشعة الغير إنسانية أوجدت حلولاً مستدامة لأزمات الواقع الاقتصادي، ولا الأنماط التي قدّمتها الماركسية المادية حققت إنجازات هامة على مستوى حلّ إشكاليات الواقع الاقتصادي المأزوم.
القومية الاجتماعية تتميّز أيضاً بالبعد الاجتماعي القائم على توسيع قاعدة العدالة الاقتصادية والاجتماعية، لأنّ الأخوة القومية الحقة لا تستقيم في ظروف الظلم والقهر الاجتماعي وسوء توزيع الثروات القومية.
راهنية «القومية الاجتماعية» تتمثل في كونها تسعى لـ «عقلنة» المجتمع، واعتبار العقل هو «الشرع الأعلى في المجتمع» و«العقلنة» ـ بهذا المعنى ـ مسارٌ معرفيٌ أخلاقي في مقاربة مشكلات الواقع الاجتماعي بتشعّباته وتعقيداته ومناحيه واتجاهاته المختلفة، وهو المسار الآمن الذي تعتمده الأمم الحية التي تسعى الى التقدّم والتنمية وحلّ المشاكل بعيداً عن الانفعال والتعصّب والانجراف وراء الغرائز والأهواء…
ثمة حاجة حقيقية لأن نرسي هذا المنهج العقلاني العلمي لكي يساعدنا على قراءة الواقع الذي نحياه بغية رسم «خارطة طريق» لمستقبل أجيالنا التي ولدت، أو التي لم تولد بعد…
انّ أمتنا تحتاج الى هذا المنهج العلمي لتحديد أولوياتها في هذه المرحلة التاريخية بما تفرضها من تحديات، وهي أحوج ما تكون الى جيل جديد يتبنّى هذا المنهج لإصلاح البنى السياسية والاجتماعية والأمنية والثقافية والتربوية القائمة لتستطيع بالفعل لا بالقول أن تثبت في معترك الصراع العالمي القائم…
ففي زمن العولمة وتجاذبات القوى المتصارعة على مدى العالم لا مكان لبنى وطنية أو اجتماعية غير موحدة وغير مستقرة أو مفككة، فالأساس هو في بناء الذات وحلّ إشكالية الهوية ومن ثم الانطلاق إلى تحديد المشكلات والمعوقات أمام مسائل من نوع آخر ولاحقة تتعلق بقضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أو مسائل الإصلاح التربوي وغيرها من المشكلات…
وعنوان الصراع الجاري اليوم في ما يخصّ أمتنا له علاقة بتحدّي الهوية وكيف نربط الهوية بقضية الوحدة، وكيف نربط مسألة الوحدة بالحرية والاستقلال، وكيف نربط الاستقلال بموضوع التقدّم والتنمية والازدهار والرخاء والرفاهية وترقية مستوى الحياة بوجوهها المختلفة…
اذ أنه لا يمكننا أن نلج هذا العالم أفراداً أو قبائل أو عشائر أو طوائف أو مذاهب متقاتلة ومتناحرة، بل وجب أن نقدّم أنفسنا في إطار بنية وطنية وقومية متراصة ومتينة وموحدة تملك هويتها وخصائصها وميزاتها وأهدافها وغاياتها ومثلها العليا، وقتئذٍ تصبح المسائل الأخرى المتصلة بتجويد الحياة مسائل تفصيلية يمكن مقاربتها على ضوء العقل بأبعاده المختلفة…
وعندها فقط نستطيع أن نتطلع الى ما وراء الحدود لكي نثبت بالفعل أننا جزء فاعل من هذا العالم، وهذا بالضبط ما تسعى اليه الحركة القومية الاجتماعية، وهذا بالضبط ما يجسّد بعمق راهنيتها!
|