لا شكّ أنّ سعاده هو عالم اجتماع، مفكر قومي إنساني، فيلسوف اجتماعي، زعيم نهضة، في شخصه تجتمع أبعاد مختلفة متعدّدة ومتنوّعة ومتشعّبة. وبالتالي، كلّ المسائل الفكرية والسياسية والاجتماعية لديه تتمّ مقاربتها من زاوية المجتمع وقضاياه. والعقيدة القومية الاجتماعية التي وضعها هي عقيدة قومية اجتماعية تنظر الى المجتمع من زاوية المكان والزمان الذي نحيا فيه، بكلام آخر هي عقيدة تتناول المجتمع وكلّ المسائل المتعلقة به في هذا الوجود الديناميكي النامي والمتطور دائماً.
القومية الاجتماعية عقيدة الوجود الاجتماعي في الزمان والمكان
لذا أخلص الى القول إنّ العقيدة القومية الاجتماعية ليست نظرة فلسفية ما ورائية، بمعنى أنه لا يدخل في نطاقها ما يدخل في نطاق الدين بمعنى تفسير الوجود، وطرح الأسئلة الكبرى: «من أين؟ إلى أين؟ فكرة الخلق؟ مآل الروح؟ الجنة والنار؟ الثواب والعقاب؟ أسبقية الروح على المادة أم أسبقية المادة على الروح… حتى أنه في مقدمة «نشوء الأمم» قام سعاده بعرض للتعليل الديني، والتعليل العلمي، وبيّن نقاط ضعف النظريتين من زاوية موضوعية علمية دونما تبنّ نهائي لأيّ من التعليلين تاركاً المسائل الإيمانية للأفراد، كما ترك سعاده للأديان والفلسفات الماورائية أن تهتمّ بقضايا الما وراء.
سؤال معرفة الذات هو المنطلق ونقطة البداية
سعاده عالم اجتماع انطلق في بحثه من سؤال: «ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ طبعاً، نتحدث عن المرحلة التي سبقت التأسيس سيطرة عثمانية تركية امتدّت لأكثر من 400 عام، حرب عالمية أولى عشنا ويلاتها، مفاعيل ونتائج الحرب العالمية الأولى وتداعياتها مجاعة أماتت الآلاف، اتفاقية لتقسيم بلادنا «سايكس – بيكو»، وعد بلفور، تحدّي قيام الكيان الاستيطاني اليهودي على أرض فلسطين… وغيرها من الأزمات التي هدّدت مجتمعنا وأدّت الى حالة اللا استقرار والحروب والاستنزاف ، فكان سؤال آخر طرحه أنطون سعاده على نفسه بعد السؤال الأول وهو «من نحن؟»، سؤال معرفة الذات إذاً… هو المنطلق… هو نقطة البداية… في رحلة الجهاد الفكري لدى أنطون سعاده لسبر أغوار مشكلات الواقع الاجتماعي بتفرّعاته وتشعّباته وتحدّياته المختلفة والمتعدّدة والمتنوّعة.
كي تستطيع الانتقال من دائرة الانفعال إلى دائرة الفعل يجب أن تحدّد ماهية الهوية؟ من نحن؟ لأنّ تحديد الهوية يحدّد الفاعلية ودائرة تأثيرها في الزمان والمكان.
إذاً الأصل لدى سعاده أنه عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي حمل لواء خلاص أمته وبلاده وشعبه من الويلات التي كانت وما زالت تحدق من كلّ حدب وصوب، وحمل أيضاً لواء نهضة هذه الأمة وتطوّرها ورقيّها، لواء رفعة المجتمع وتقدّمه وازدهاره.
وكلّ أبحاثه ودراساته الأولية المعمّقة ارتكزت على معطيات العلم، فدرس التاريخ الإنساني، وحاول استنباط القواعد والأسس التي قامت ونشأت عليها المجتمعات والأمم، بما فيها أمتنا، وقام بوضع الخلاصات التي شكلت الملمح الفكري للمدرسة القومية الاجتماعية في نشوء الأمم ولا سيما أمتنا التي قرّر أنها سورية بناء على هذه المعطيات التاريخية والاجتماعية والحياتية والثقافية والجغرافية، وحدّد العوامل التي تنشئ الأمة في سياق تاريخي حياتي طويل الأمد، يقوم على وحدة الحياة، على وحدة الدورة الاقتصادية الاجتماعية التي تطال البيئة الطبيعية بأسرها، وتمتدّ لاحقاً الى خارج حدود الوطن القومي، لتنفتح على العالم انطلاقاً من قواعدها الأصلية الذاتية مما يكسبها الحصانة والقدرة على الانتقال من دائرة الانفعال الى دائرة الفعل الإيجابي وعلى كلّ المستويات.
الأمة عند سعاده – هي البنية الاجتماعية الأساسية الحاضنة لكلّ الشعب بكلّ مكوناته وتلاوينه وأديانه وطوائفه ومذاهبه وعائلاته.
اذاً الأصل لدى سعاده في موضوعة الهوية هو الأمة – المجتمع المتحد الأتمّ، فالأمة هي البنية الاجتماعية الأساسية الحاضنة لكلّ الشعب بكلّ مكوناته وتلاوينه وأديانه وطوائفه ومذاهبه وعائلاته، وهو يقول في تعريف الأمة: «الأمة جماعة من البشر تحيا حياةً موحدة المصير موحدة العوامل النفسية والمادية أكسبها تفاعلها عبر التاريخ خصائص وميزات تميّزها عن غيرها»، ومن هذه الحقيقة الأساسية تتفرّع كلّ المسائل الأخرى في السياسة، والأمن والاقتصاد والاستراتيجيا العسكرية والحضارة والثقافة وغيرها من المسائل التي تشغل عقل المجتمعات الإنسانية، وكلّ مقاربات سعاده العلمية والفكرية لكلّ هذه القضايا تنطلق منها، من حقيقة الأمة الواحدة والمجتمع الواحد.
وهذا هو المدخل اليوم لمقاربة مسألة «الإصلاح الديني في كتاب الإسلام في رسالتيه» لدى سعاده، فالإسلام في رسالتيه بالمبدأ – ليس بحثاً دينياً مستقلاً، أيّ أنّ هدف سعاده من خوض غمار هذا البحث الديني لا يدخل في نطاق الفلسفة الدينية والتعمّق في المسائل الدينية الصرفة والقضايا الإيمانية الكبرى، واللاهوتية بقدر ما هو محاولة لمقاربة عميقة وشاملة لموضوعة الدين من زاوية اتصاله بالمسألة الاجتماعية، أيّ مسألة حياة المجتمع الزمنية، وانْ كان في السياق قد طرح رؤيته لجوهر الرسالات الدينية، ولكن الغاية الأساسية ظلت على الدوام معالجة أبعاد علاقة الدين بالمجتمع من مختلف الجوانب.
في الشكل، «الإسلام في رسالتيه»، هو في الأصل – بحث تمّ نشره تسلسلاً في جريدة «الزوبعة» النصف شهرية التي أصدرها سعاده في مغتربه القسري في «بونس ايرس» الأرجنتين، وجاء هذا البحث كردّ على محاضرات ومقالات لكاتب لبناني هو رشيد سليم الخوري الذي ادّعى اعتناقه «الإسلام» فشوّه – أيّ في هذه المحاضرات – الكثير من المفاهيم الدينية الصحيحة وأوغل في بث التفرقة الدينية والطائفية، في قراءاته المغلوطة للنصوص والآيات الدينية، مما أحدث بلبلةً وفوضى تضاف الى واقع البلبلة والفوضى التي عاشها مجتمعنا، وإلى حالة الانقسامات الطائفية والمذهبية التي لا طائل منها. وقد جاء هذا البحث في 36 حلقة تابع فيها سعاده تضارب الأفكار في تلك «الحارضة» كما سماها سعاده، مبيّناً الخطل الذي يتردّى به النفر الرجعي في أمتنا كما قال.
لقد مثّل «الإسلام في رسالتيه» بهذا المعنى، دراسة تحليلية على درجة عالية من التأمّل في مصدر الرسالتين وهدفهما السامي الواحد في غاياته البعيدة، كما أنه جاء كردّ على أوهام التعصّب الطائفي الذي لا مبرّر دينياً له، لأن لا علاقة للدين الصحيح به.
كما أنّ الفترة الزمنية 1941- 1942 التي وضع فيها الزعيم هذا البحث، في مغتربه القسري، كانت أقسى فترات الحرب الاستعمارية واستغلال عناصر التعصّب الطائفي لإبقاء الأمة في حالة من التمزّق الطائفي والمذهبي، إمعاناً في التقسيم ومفاعيله السلبية على حياة المجتمع بأسره.
العقل هو الشرع الأعلى
المدخل لفهم مقاربات سعاده في كلّ الموضوعات التي قاربها تنطلق من ركيزة «أنّ العقل هو الشرع الأعلى في المجتمع»، و«هذا العقل هو منّة الله في الإنسان، وهذا العقل وجد ليفعل، لا ليُعطّل»، هذا هو المنطلق الأول لسعاده في مقاربته موضوع النص الديني، اذ لا يُعقل أنّ واهب العقل أيّ الله- يخلق ما يعطله.
وهذا يقع في منزلة الاجتهاد أيّ إعمال العقل في قراءة الظاهرات التي تعرض في سياق الحياة، وكذلك في قراءة النصوص بما فيها الدينية.
هذا إذاً هو المدخل لقراءة أنطون سعاده للنصوص الدينية في المسيحية والمحمدية أيّ الانجيل والقرآن.
يقول سعاده: «اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض» والتأمّل الصحيح في مغزى هذا القول يوصل الى رفض الأسباب التي تجعل أبناء الأمة الواحدة يختلفون في أمر دينهم الواحد فيفقدون الأرض التي وعد الله أن يورثها المتقين من عباده. وهذا يوصلنا الى الخلاصة الأساسية التي وصل اليها سعاده أنه ليس من سوري مواطن مؤمن إلا وهو مسلم لربّ العالمين. عندما يقول: «فاتقوا الله واتركوا تآويل الحزبيات الدينية العمياء، فقد جمعنا الاسلام: «منا من أسلم لله بالانجيل ومنا من أسلم لله بالقرآن ومنا من أسلم لله بالحكمة… فليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا غير اليهود، فلنكن أمة واحدة في قضيتنا الواحدة ونظامنا الواحد».
هذه الجمل القليلة التي أوردتُها من سعاده تضيء على «الإسلام في رسالتيه» لجهة الغاية والهدف والرسالة التي جهد سعاده ليوصلها إلى أبناء أمته وإلى العالمين أجمعين في المسألة الدينية، وما يصحّ في بلادنا يصحّ في بلاد كثيرة غلب عليها الصراع الديني والطائفي والمذهبي المقيت.
|