لا تشبه السلطة في لبنان أيّ سلطة في العالم… هي وحيدة في نوعها في تركيبتها في فلسفتها في آلياتها وفي أساليب عملها… سلطة بطبيعتها ماجنة، ساحقة، ماحقة للإرادة الشعبية، لم تقم يوماً وزناً لإرادة شعبية، وأصلاً الإرادة الشعبية في كنف نظام السلطة الطائفية المستولدة من رحم الكيان المشوّه خلقياً ما هي إلا إرادات مسحوقة بالمخاوف الطائفية والهواجس الأقلياتية تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم الحقوق والتوازنات لكتل طائفية متكوّرة حول متزعّم أوحد «مقدّس»… أو حول رموز تمّ تحويلها بفعل تضعضع المفاهيم الوطنية وغياب الهوية المواطنية الى «أيقونات عجائبية» لها قدرة ما ورائية مفترضة في تقديم الحمايات المتناثرة هنا وهناك على مساحة هذا الكيان المأزوم بنيوياً.
هذا الكيان ذو الولادة «القيصرية» على يد القابلة الفرنسية (الجنرال غورو) يحمل في داخله انشطارات هائلة في المفاهيم حول المجتمع والدولة والسلطة والحكومة والأحزاب والثورة والحكم لا يمكن مقارنتها بأية مفاهيم مماثلة في عالمنا المعاصر.
السلطة في لبنان عميقة الجذور، وإزاء مفهوم الدولة العميقة حول العالم، نجد مفهوماً لبنانياً خاصاً للسلطة «العميقة» التي تستمدّ قوّتها من تحالف رموزها مع «اكليروس» ديني شكل على الدوام مظلة حمايتها الحقيقية وفي كلّ المراحل، وهو ما أعاق ايّ اتجاه إصلاحي ووقف سداً منيعاً أمام تطوير النظام السياسي باتجاهات مدنية تعزّز فكرة المواطنة والهوية والانتماء.
إنّ «العيش المشترك»، «الديمقراطية التوافقية»، «الميثاقية»، «لبنان الطائر بحناحيه»، وغيرها من المصطلحات الاستعراضية هي باقة تجميلية لنظام قبيح، هو في الحقيقة نظام كونفدراليات طوائفية يمثل في الجوهر أعتى وأقسى وأبشع نظام توتاليتاري ديكتاتوري مقنع يشكل على طول الخط نقيضاً للديمقراطية الحقيقية.
للديمقراطية شرطان: الحرية والوعي.
الحرية بكلّ أبعادها، حرية المعتقد والرأي والفكر والوعي للهوية الوطنية والقومية والإنسانية.
لا ديمقراطية خارج مفهوم المواطنة. المواطنة الكاملة في الحقوق والواجبات والمدخل الحقيقي للوصول اليها هو قانون انتخابي على أساس النسبية ولبنان دائرة واحدة.
قد يقول قائل، لبنان ليس جاهزاً لتحوّل وتطوّر كهذا انطلاقاً من «النظرية الخبيثة» «إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص» ايّ الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها منذ قيام هذا الكيان المسخ في العام 1920!
صحيح، أنّ كلّ تحوّل نوعي حقيقي في المجتمع دونه عقبات ودونه تضحيات، وقد تأتي نتائجه الأولية في ميزان الحسابات الضيقة غير منطبقة على حسابات البيدر الوطني، ولكن أهميته، (أيّ أهمية تحوّل كهذا) أنه يفتح أمام المواطن والمواطنية آفاق التفاعل الحقيقي السياسي وربط المصير الوطني الواحد بالرؤية الواحدة والفعل السياسي الواحد، ومع مرور الزمن تتحوّل الوقائع السياسية الى حقائق وطنية دامغة ووعي حقيقي بأهمية المواطنة، والأهمّ ما تشكله من ضمانات حقيقية لكلّ المخاوف الأقلياتية، وتنقلنا شيئاً فشيئاً من لبنان المحميات الطائفية الى لبنان الدولة الواحدة. وهذا ما يفتح المجال أمام – ربما – قيام تشكيلات سياسية جديدة وأحزاب من نوع مختلف على أنقاض كلّ هذا الدمار الهائل الذي يمثله واقع لبنان السياسي الرث.
إنّ التحدي الحقيقي هو في دكّ كلّ عواميد هذا الهيكل المشلع الركيك البنيان، والبناء من جديد مهما كانت الخسائر الآنية من اختلالات عارضة في توازنات طائفية لم تجلب على إنساننا إلا الخراب.
نحن لن نستسلم لفكرة انّ هناك أموراً مستحيلة في الحياة تحت مسمّى الواقعية، فأوروبا في زمن من الأزمنة مرّت بحروب طاحنة، ولم تنعم بالاستقرار والقوة إلا بعد أن بنت دولها الوطنية على أساس فصل الكنيسة عن الدولة ايّ فصل الدين عن الدولة.
نحن ندرك انّ التحوّلات الكبرى باتجاه المستقبل لا تحصل بين ليلة وضحاها. وبأنّ المطلوب حوار حول المفاهيم. فالمفاهيم مسألة عقلية لا تترسخ الا بالحوار والوعي والفهم والربط بالواقع طبعاً. غير أنّ وظيفة عتاة النظام الطائفي الإبقاء على هذا النظام السياسي المقفل والذي لا ينتج الا الحروب الأهلية مرة كلّ عقد أو عقدين من الزمن.
ثمة عقبات حقيقية تقف في طريق الوصول الى الدولة المدنية المأمولة، والعقبة الكأداء هي أنّ النظام الطائفي تشكل ليؤدّي وظائف خارجية، وليس من أجل أن يبني دولة حقيقية، ولذلك نرى أن هذا النظام يستعصي على كلّ تغيير، وإلا لماذا كلّ هذه الممانعة الشرسة من قبل السلطة المافياوية الطائفية لمشاريع قوانين مدنية في الانتخاب والأحوال الشخصية، تقدّمنا بها.
الواقعية تفرض نظرة واقعية وآليات واقعية للخروج من المازق، لذا، نكرّر الدعوة الى تطبيق كلّ بنود اتفاق الطائف الذي على علاته وسيئاته إلا أنه تضمّن نقاطاً جدّ مهمّة منها: «تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية»، قانون انتخابي على أساس الدائرة الانتخابية الكبرى مع النسبية، وإلغاء طائفية الوظيفة الحكومية عدا الفئة الاولى، وهذه نقاط لو تمّ تطبيقها خطوات معقولة في طريق بناء الدولة.
نحن محكومون الآن بضرورة خفض منسوب الواقعية المدمّرة ورفع منسوب الجرعة المثالية والا سنبقى نتخبّط في صراعات لا طائل منها، إضافة إلى كلّ ذلك انّ جزءاً اساسياً من الطروحات التي ناضلت من أجلها القوى العابرة للطوائف والمذاهب والمعبّرة عن وحدة المجتمع باتت اليوم طريقاً للإنقاذ، والتخلص من النظام الطائفي.
للإرادة الشعبية الكلمة الفصل الحاسمة في الوصول الى التغيير الحقيقي، شرط أن تتشكل هذه الإرادة على أساس الوعي والقيم والمبادئ الوطنية والقومية، وليس على أيّ أساس آخر، وأن يكون الهدف تحقيق تراكم نوعي في الوعي باتجاه الضغط لتشريعات وقوانين مدنية تشكل الأساس لقيام الدولة العلمانية المدنية العادلة والتي تمثل طموحات أبناء شعبنا في التغيير.
الأولوية هي للمشروع الإصلاحي الجذري الذي يشكل جزءاً أساسياً من رؤيتنا وفكرنا وعقيدتنا، ورفد كلّ عناوين الصراع والمقاومة في الأمة وعلى مستوى المنطقة، لأنها تحصّن المجتمع وتقوّي منعته الداخلية وقدرته على الصمود.
|