عندما نعلم انه في شبابه انتمى الى الحزب، نفهم أكثر مواقفه الوطنية الناصعة، وتحديه الجريء للاحتلال الاسرائيلي، وتقديمه الكثير من الدعم للمقاومة في مواجهة ذلك الاحتلال.
*
في كتابه "قصه الحزب" يروي الامين د. شوقي خيرالله التالي، ننقله بالنص الحرفي:
" همّنا من هذا المختصر، ونحن على المقاعد الثانوية في مدرسة الحكمة ـــ بيروت ـــ أن استاذاً يدعى جوزف الخوري(1)، العبقرّي في الرياضيات، والعضو في الحزب، كان موقوفاً في حلب. وحُكِم بالإعدام، بتهمة التعاون مع الالمان ضد الحلفاء، لأنه "سلّمهم خرائط عسكريّة لمطار النيرب في حلب". فحكمه الإعدام. وقلما نام احد من الطلاّب الداخليين في مدرسة الحكمة لان الحكم وشيك التنفيذ. وتقول الاسطورة حتى اليوم إنه رُبط على العامود وتهيأت مفرزة الاعدام، وإلاّ وصل العفو لان المطران مبارك توسّط لجوزف لدى الجنرال "دانتز" فعفا عنه. فلّما عاد جوزف الخوري الى التعليم في مدرسة الحكمة / بيروت شعرنا بالنصر !! والملفت ان الزعيم لما دخل الزنزانة ليلة 8 تموز سأله الخفير: ما هو حكمك؟ أجابه: إعدام مبرم، ولفّ سترته مخدة ونام وأغفى في نومة عميقة كأنه راح يفكّر بعمل مشابه، فوق!!
" وتضيف الاسطورة / الملحمة، في حلب، وهي حقيقية، ان الدعوة الحزبيّة ضد الانتداب يتولاها عُمَران اثنان، ويضاف إليهما مجهول ثالث. العمَران يجهلان ثالثهما!! هو يعرفهما، جوزف الخوري المعدوم غداً يعرف ان عرّابيه هما ــ ربما ــ عضوان سرّيان في حلب، شبحان خفيّان يدّعيان / تمويها / إنهما عمر وعمر. وأما ملقّن القسم فسرّي كذلك. والثلاثة اذا كُمشوا سيُحكمون بالاعدام، والشعبة الثانية الفرنسيّة تفتش عليهما كما عن إبرة في التبّان، في حلب وبلاد حلب.
" اليوم نبوح بالاسمين: العمران هما عمر وعمر فعلاً: "عمر أبو زلام ابن مفتي حلب. وعمر أبو ريشة، الشاعر المبتدىء، ابن زعيم قبائل "ابو ريشة".. والمجهول الثالث هو الراهب كبّوجي. هذا سيصبح مطراناً على القدس، وسيكمشه الإستعمار اليهوديّ وهو مطران، بتهمة تهريب سلاح لفتح، وسبحان من يُحبك الاعمار، ويشبّك الاقدار !! ويا ما أصغر الدنيا!! ويا ما أكبر النهضة!
" في ذلك الزمان كانت مخابرات الإنتداب الفرنسي، في حلب وشمالي سورية، تلاحق "شبح العمرَين" ولا يدرون هل هما اثنان فعلاً أم شخص واحد ينتحل المثنّى. وقد عاث هذا "المثنّى" فساداً في حلب ومنطقتها لأنه يبّشر بالعقيدة القومية السورية"، وقد قسّم الثنائي القسَمَ لعدد غير قليل. والمؤسس أنطون سعاده منفيّ الى آخر الدنيا في اميركا الجنوبية، والعقيدة هذه سبق لها ان قاومت ضمّ الاسكندرون الى تركيا، وهي تقاوم الإنتداب اولاً وآخراً، وأشاع عملاء المفوضية العليا ان الحزب يؤيّد الألمان ضد الحلفاء!! وثمة سيّئات اُخر لدى هؤلاء المخرّبين القوميّين فهم يقاومون الهجرة اليهوديّة الى فلسطين لأن "فلسطينهم" جزء لا يتجزأ من "سوريّاهم" كما تنصّ عقيدتهم، وثمة الف شربوكة أخرى وكأن عندهم لاهوتاً وعلم كلام!!
" الأمن العام "والدزيام بيرو" ـــ الشعبة الثانية ـــ الفرنسيّون والمخبرون والعملاء راجعوا سجلاّت النفوس تفتيشاً دقيقاً عن جميع من إسمهم عُمر، وزاروا كلّ عمر في بيته. وهدّدوا الأهل بالاعتقال والسجن والإعدام إذا تبيّن أن عمَرَهم من هذه الفئة المغضوب عليهم والضالّين. وكان من الذين هُدِّدوا والد عمر ابو زلام مفتي حلب، ووالد عمر ابو ريشة زعيم عشائر أبو ريشة في الشمال السورّي. وبرغم التنبيه والتهديد ونشاط العسس والمخبرين وجوائز المخبرين لم يتوقّف النشاط المخرّب. وراح الطوق يضيق.
" في إحدى الليالي، وفي عمق أعماق سوق البهارات والأفاويه وتلك المحلات العَقْد الدهرية في أقبية من عمرِ "ماري" و"الحثّيين" وقبل الخبز، كان العمَران في مهمّة ليلية ليكرّسا عضواً جديداً بقسم الانتماء في تلك الأقبية، بعد الأقفال العام وبالكاد على ضوء الشمعة، والاّ دخل عليهما تلميذ / راهب من الدير ومدرسة اللاهوت، وبالأسكيم الأسود التقليدي وقبعته الدهرية، فشلح عنه اول إسكيم وشلح الثاني بسلطان وغضب ـــ وكان يرتديهما فوق إسكيمه الاصيل ــ وأمرهما مثل رومل: "فليرتدِ كلّ منكما إسكيمه! وبَكّلا القبّوعة جيّداً!! ولا يبقينّ معكما أي اثر للمبادىء والعمل الحزبيّ!! إدفنوا المبادىء في أكياس البهار!! وسيرا خلفي بغير كلام ولا سلام مطلقاً! ولا تتفوها بكلمة!! أنتما راهبان معي. ورائي!!
ورائي!! وانطلقَ. تبعاه الى قبوة من أيام الطوفان ويا ما أحلى سوق البهارات الحلبيّة!! ولما دخلا أغلق عليهما الباب. وانصرف. وهي كانت!!
في اليوم التالي دخل عليهما برغيف شبيّع لكلِ منهما وأمرهما باتّباعه بصمت وبغير سلام لأحد. في البساتين كان راهب آخر ينتظر فابتعد بهما عن حلب مثل هون وحلب. وأمرهما كبوجي بلهجة "تبلّغوا وبلّغوا"، بالبقاء هناك حتى آتي بذاتي لأنقلكما. مفهوم؟؟ مفهوم!! واستدار وغاب في بساتين حلب على موسيقى الفستق المتفتّح، واذا جعتما فكلا من البستان وما فيه! حاكمك وربّك!!! وجلسا لا يصدّقان ماذا يجري معهما.
طيّب!
ما اسمك؟ سأله أحدهما.
بلا حكي يا رفيق! بل أنتما أيضاً إنسيا من انتما!! مفهوم؟؟ فبركا اسمين جديدين وتخاطبا بهما حتى تعتاد الأذن!! واختفى.
هكذا تعرّف العمران على كبّوجي بغير اسم ولا رسم. وهل لراهب اسم؟؟
*
هوامش:
(1) عبد الغني اسرب: كان يملك بيتاً رحباً وفخماً كان سعاده سينزل في فندق "السياحة والاصطياف" عند وصوله الى مدينة اللاذقية، الا ان ناظر التدريب الرفيق عبد القادر اسرب(3) اخبر والده عبد الغني بالاجراء المتخذ ، فاظهر والدا عبد القادر سرورهما باستضافة الزعيم في منزلهما.
(2) فؤاد شواف واديب عازار: منحا رتبة الامانة، ولكل منهما نضاله الحزبي الطويل. اوردت عن كليهما في نبذات سابقة، وأعمل على إعداد نبذة تعريفية مضيئة عن كل منهما.
(3) عبد القادر اسرب: تعرفت على ابنائه الرفقاء: اثنان منهما في الولايات المتحدة، والثالث المهندس فادي، التقيت به في بيروت اكثر من مرة.
|