يوم الاحد 2 نيسان، كنت في زيارة لعائلة من أهالي بيروت.. لفتتني صورة كبيرة، وعليها الكلمات التالية: " اهالي برج ابو حيدر والمرحوم مصطفى الحارس 1958 "
تذكرت فوراً اني قرأت عن مصطفى الحارس في كتاب الرفيق اياد موصللي "انطون سعاده، ماذا فعلت ؟" ، ففي الصفحات 179-181 يعرض الرفيق اياد في كتابه، وتحت عنوان "قصة مصطفى الحارس ووضعه معنا بالقاووش"، ما يلي، ننقله بالنص الحرفي.
ل. ن.
*
" في فترة تواجدنا في سجن الرمل، كان السجن يعج باعداد من الاشخاص والاسماء التي تتمتع بتأثير ووجود في المجتمع الشعبي البيروتي وهي وجوه من سمات الاحياء وأسماء لها دلالتها أمثال، مصطفى الحارس، عبد الحفيظ كريدية، محمد المغربي، سليم ستيتية... وعدد من آل جعفر، وأمهز، ودندش... والمقدّم، من طرابلس، وشماط من سرغاية الشامية، وجميعهم لهم سيطرة متناهية على السجناء كلا حسن موضعه... مصطفى الحارس لا نعرفه إلا بالسمع حيث وقف معنا موقفاً رجولياً شجاعاً بعد اغتيال رياض الصح.. احد المرات وقع خلاف بين إدارة السجن الجديدة والقبضاي البيروتي...
المدير الجديد للسجن هو الملازم سامي الخطيب، وهو غير الضابط سامي الخطيب الذي اصبح فيما بعد وزيراً للداخلية ونائباً في المجلس...
المدير الجديد اراد اتخاذ تدبير يلوي به يد مصطفى ويؤذيه بشكل لا يثير غضب وثورة انصاره من السجناء. لم يجد أفضل من وضعه في قاووش القوميين فهناك لا نفوذ له بينهم ولا يستطيع ان يمارس فعل القبضاي فهم لا يعترفون بمثل هؤلاء..
كنت مسؤول القاووش رقم 3 في البناية عندما جاء نائب الضابط جورج عازوري. وكان هذا الرجل حسن التعامل معنا طيّب الاسلوب... فتح العازوري باب القاووش وقال لي: السيد مصطفى الحارس سجين تقرر وضعه عندكم في القاووش، ودخل مصطفى وادخل الخذمتشي(1) "اليطق"(2) والاغراض العائدة له. مدير السجن والشاويش لا يذكرون موقف مصطفى معنا يوم مقتل رياض الصلح، لكننا نحن لا ننسى.
كانت الغاية من نقله لقاووشنا جرح معنوياته وإذلاله، لأن القووش ممتلىء بالقوميين، وعادة في السجون ان السجين الذي يدخل القاووش حديثاً يأخذ المكان الفارغ لينام فيه على صف الجدران وإذا لم يكن هنالك مكان فينام بالميدان أي الممر الوسطي، وسجين بمستوى الريّس مصطفى امر كهذا مهين.
الغرفة ممتلئة لا يوجد أي فراغ، جلس الرجل بأدب فوق فراشه على جانب من الممر. ولم ينبس ببنت شفة، ادارة السجن قدرت اننا سنعامله كسجين يجلس حيث يوجد مكان... فهمنا جميعاً القصة والغاية من احضار مصطفى لقاووشنا ولم نكن نهتم بأهداف الادارة... نحن اصحاب اخلاق وقيم نعامل الناس بكل صدق وحسن تصرف والرجل كان له موقف نبيل... لذا وقفت بعد خروج "الباش شاويش".. ورحبت بالريّس مصطفى وطلبت من "الخذمتشي" ان يضع اغراضه فوق اغراضي ورحبنا به وأجلسناه صدر المكان ثم تحادثت مع الرفيق محمد باقر فأخلى مكانه الواقع في صدارة القاووش ووضعنا مكانه الريّس مصطفى وشارك محمد باقر، مسلم حلباوي المكان سوية... سرّ مصطفى وقدر موقفنا كثيراً، جاء وقت اليقلمة "تعداد" دخل "الباش شاويش" ومرافقه لتعداد السجناء وعندما وصل الى حيث يقف مصطفى سأل مصطفى: أين مكانك، فاشار بيده الى حيث يقف وقال هنا... استغرب "الباش شاويش" الامر ورأى فيه انتصاراً لمصطفى وخذلاناً لمخطط الادارة.
بعد انتهاء التعداد خرج من القاووش وناداني وسألني عن سبب تصرفي فأجبته: نحن نحترم الرجال ونعاملهم حسب تصرفاتهم وهذا الرجل اليوم جاء ولم نر منه ما يسيء اما احترامه فهذا امر نحن نقدر ظروفه... غضب "الباش" وتوعدّني، ولم آبه وصار مصطفى صديقاً يحضر نداوتنا الاذاعية والحزبية ويستمع حتى اندمج بالموضوع وصار يمارس التمارين والتدريبات ثم بعد مدة طلب ان ينتمي الى الحزب وبعد الترتيبات اللازمة اقسم اليمين أمام الأمين عجاج المهتار والرفقاء السجناء.
لم نلتق به بعد خروجه من السجن إلا قليلاً حتى عام 1958، وأبان الاحداث الدامية كنت مع الرفيق المرحوم سهيل مسابكي وعدد من القوميين في ساحة البرج قرب كافيتيريا "أبو عفيف كريدية"، وكانت الاحداث الدموية تنشر ذيولها في البلاد، والبلاد مقسومة بين انصار عبد الناصر ومَن استغلوا اسمه ليصعدوا الى الاعلى، والاتجاهات الفكرية والسياسية الأخرى وكنا من ضمنها والمعارك المسلحة دائرة بين طرفين... كنت من الذين احمّرت العين منهم وتمّ القرار بالنيل مني اثناء وجودي في ساحة البرج مع رفقائي، حضر شخص مسرعاً وتقدم نحوي وسأل: حضرتك إياد موصللي، نظرنا نحوه باستغراب وسأله المرحوم الرفيق سهيل: ماذا تريد؟ .
فقال: " اترك المكان فوراً بقلّـك الريّس مصطفى الحارس لأن هنالك جماعة سيحاولون اختطافك... وهم من مسلحي "المقاومة الشعبية" هكذا كان اسمهم ويقودهم حينها الحاج رشيد شهاب الدين، والريّس موجود في ساحة رياض الصلح... وفعلاً غادرنا المكان وكانوا حاولوا قبل يوم اختطافي من مطبعة جريدة "اليوم" حيث كنت أعمل في "الخندق الغميق" ونجوتُ وفشلت محاولتهم...
التقيته بعد ذلك بمناسبات عدة في "الجناح" ومنطقة "الرملة البيضاء" خاصة في مطعم "ناصر" وفجأة سمعنا بمقتله في تلك المنطقة وقد اطلق عليه النار غدراً محمد المغربي الذي مرّ ذكره لدى دخولنا قاووش السجن في 06/08/1949... قتله بالاشتراك والترتيب مع سليم ستيتية...
هوامش :
(1) الخذمتشي: كلمة تركية، تعني السجين الذي يقوم بخدمة باقي السجناء.
(2) اليطق: وتعني الفراش في القاووش.
|