مع الصحف التي استلمتها من الرفيق الصديق جوزف مسلم المقيم في كالغري (كندا)(1)، مجموعة اوراق من بينها رسالة كان وجهها الرفيق فؤاد جرجس حداد، احد الرفقاء الخمسة الاوائل، الى حضرة الامين عبدالله قبرصي، وفيها معلومات عن البدايات يفيد الاطلاع عليها.
" أخي...
استلمت رسالتك تاريخ 15 ايلول وكم سررت بما تحويه من محبة صادقة وذكريات قديمة عزيزة. لقد اعدتني ثلاث وثلاثين سنة الى الوراء عندما كنتَ تسكن في منزلنا في شارع جان دارك(2) مع الزعيم المصلح الشهيد انطون سعاده سنة 1933. اني اسمي سعاده المصلح لان رسالته لم تكن الا لاصلاح المجتمع السوري الذي تفسّخ وتمزق تحت مطارق الاستعمار اجيالاً طويلة وها اني احمل لك في هذه الرسالة ذكرياتي عن تأسيس الحركة.
ان محبة سعاده لشعبه وبلاده دفعته الى العودة من البرازيل سنة 1929 (الاصح: سنة 1930) الى لبنان. لقد كان في البرازيل يؤدي رسالة جليلة الشأن بين المغتربين، فقد كان يحرر مع والده المجاهد الكبير الدكتور خليل سعاده مجلة "المجلة" التي كانت حرباً على الاستعمار بشتى اشكاله ووجوهه ولكنه آل على نفسه ان يترك ساحة المغترب وان يعود الى ساحة الوطن يناهض بما ملكت يداه، كل القوى من داخلية وخارجية تعطل انطلاق بلاده الى اجواء الاستقلال والحرية والنهوض.
لقد قصد الى دمشق سنة 1931 ودمشق آنذاك بقيادة الكتلة الوطنية، من الاتاسي الى الغزى الى هنانو تتحرك لثورة جديدة بعد ان اخفقت ثورة سلطان باشا سنة 1925 – 1926 في نيل الاستقلال، ولقد حرر صفحة السياسة الخارجية في جريدة "الايام" الدمشقية التي كان يشرف على سياستها المجاهد الوطني آنذاك جميل مردم، ولما رأى انه لا يستطيع ان يؤدي رسالته القومية بين جيل من الوطنيين، عنده للوطنية مفهوم غير مفهومه العلمي، عاد الى لبنان واخذ يدرّس في الجامعة الاميركية اللغات الاجنبية (الالمانية، الروسية، والايطالية)(3).
لقد تعرّفت انا الى الاستاذ سعاده في خريف 1931 بعد عودتي من افريقيا حيث كنت اغتربت. لم افلح في تجارتي في تلك البلاد لاني فكرت ببلادي اكثر من التجارة ونصبت نفسي محامياً عن بني قومي ضد مواطني تلك البلاد الذين كانوا يرمونهم بالافتراءات والاهانات. ولما عدت، رحت اعمل مع والدي المرحوم جرجس سمعان الحداد، الذي تذكر اخلاقه الرضية كما اعتقد، في مطعمنا الذي كان يقوم في شارع "بلس" تجاه الجامعة، والذي اندثرت معالمه اليوم بسبب عمليات تجميل بيروت وتوسيع شوارعها. ان مطعمنا كما تعرف كان مطعماً قومياً اجتماعياً. لقد حوّلناه الى مضافة فمن كان معه مال اخذناه، منه ومن لم يكن معه مال، استضافنا فأضفناه بلا منة ولا تردد.
دخل عليّ سعاده ذات يوم برفقة احد تلامذته من اصدقائي(4)، وهو ذو لحية سوداء كثيفة وعينين تلمعان بالحياة والنفاذ وابتسامة أخاذة، وبادرني بالقول: سمعت عن طعامكم انه لذيذ جداً فرحبتُ به واجبت: اختبر بنفسك يا استاذ ثم خبّر سواك.. فأكل كبة بالصينية وحمص بالطحينة وسلطة ولما همّ بمغادرة المطعم شكرني على الطعام اللذيذ والنظافة ووعد بالعودة باستمرار وهكذا كان.
ذات يوم اقبل متأخراً لتناول طعام الغذاء. كان سعاده يكتفي من الغذاء بوجبة واحدة لضعف وسائله المادية. جلست إليه اود التعرّف مزيداً الى شخصيته الجذابة. فقصّ عليّ سبب هجرته ومقامه في دنيا البرازيل الوسيعة ومشاغله وهمومه الوطنية، كما شرح لي اسباب عودته. فتجرأت وقصصت عليه اخباري، لتنشأ بيننا معرفة وصداقة متبادلة. لقد انس مني محبة له واحتراماً فكلفني بان اساعده على استئجار غرفة نظيفة وشَرِحة ورخيصة، فوعدته خيراً. وكان من حسن حظي ان دارنا كانت وسيعة كما تعرفها وطلبت الى الوالدة اعداد افضل غرفة عندنا لمستأجر نابغة. وهكذا بقي عندنا مدة طويلة ثم انتقل الى منزل يشبه الكوخ في بساطته في ملك المرحوم جرجس الخوري المقدسي في شارع الصيداني قريباً من منزلنا. ولكن كان تأسيس الحركة القومية الاجتماعية في منزلنا نفسه.
كان سعاده قد بدأ نشاطه بين الطلبة. فكل يوم يأتي بصحبة تلميذ ويختلي به طويلاً. وهكذا دواليك طوال شهر كامل. لقد كانت تأخذ مني الدهشة كل مأخذ من هذا النشاط واطمع باكتشاف سره. ولكني ما لبثتُ ان فاجأني بأنه يؤسس حزباً سرياً اهدافه هي الاهداف التي تتضمنها مبادئ وتعاليم الحركة والتي لم يطرأ عليها اي تعديل منذ التأسيس الى اليوم كما نعرف جميعاً. كانت روح الشباب المتمردة تهدر في اعماقه، فكان من اسعد ايام حياتي ان اعرف رجلاً من بلادي صمم على انقاذها وتوحيدها بعد تحريرها من السيطرة الاجنبية. دخلتُ الحركة في حماس وايمان. وكان اول اجتماع عقدناه في منزلنا يتألف من تسعة اعضاء كنت انا تاسعهم. ولقد قامت اختي عفيفة الموجودة في ديترويت – مشيغان حالياً بدور الحراسة. اما المؤسسون الاول: فهم جورج عبد المسيح. رجا خولي. بهيج المقدسي، جميل صوايا، فيكتور اسعد واثنان من الاردن وفلسطين لا يحضرني اسمهما(5) ثم دخل نعمة ثابت وفخري معلوف وجبران جريج وموسى سليمان. في اخر السنة الدراسية 1932 دعانا سعاده الى اجتماع وخطب فينا طالباً منا ان نبحث عن العناصر الفتية الصالحة، كي نعدها لدخول الحركة في مطلع السنة الدراسية 1932 -1933. والتقينا معاً في خريف 1932 ورحنا نتجادل يا اخي عبدالله: انا اصيح: تحيا سوريا وانت تصيح: يحيا العرب، الى ان اقتنعتَ معي(6) وجئت بك الى سعاده في دار المقدسي اي ما اصطلح على تسميته "الكوخ" واقسمتَ اليمين وكنتَ اول عميد للاذاعة في مجلس العمد الذي كان يرأسه نعمة ثابت. وها انت اليوم من الشهداء المشردين، جزاك الله خيراً ويجمعك بمحبيك عن قريب.
وجاء صباح يوم 16 تشرين ثاني 1935 بعد مرور ثلاث سنوات على تأسيس الحركة، فإذا بالشرطة تداهم بيتنا بعد تطويقه بقوة رهيبة، وينقض رجال الامن على غرفة الزعيم ويأخذون ما فيها من اوراق ويسوقونه مكبل بالحديد. فكان انكشاف امر الحزب وسوقنا جميعاً الى الامن العام والتحقيق والمحاكمات. يا له من خائن ذاك الذي وشى بنا ولا نعرفه حتى اليوم مع الاسف، كان ذلك ليلة عرسك انت كما تذكر. كم ضحكنا ونحن في القيود لهذه المصادفة، عريس في السجن..
لقد بقيتُ اناضل معكم حتى سنة 1939. سافرت الى الولايات المتحدة واُعلنت الحرب وتطوعتُ في الجيش الامريكاني سنة 1941 وابليت البلاء الحسن في المعارك وها انا الان اعيش على ذكرياتي. كل ما اعود الى هذه الذكريات اشعر بألم وحرقة اني انسحبت عن الساحة لاغترب فيما يتحمل رفقائي، وانا من اولهم، ادهى المصائب والاوجاع والاضطهاد والحرمان ونكران الجميل من بني قومنا فيما كنا نحن اول من فكر بالحزب العقائدي المنظم في العالم العربي كله.
واسلم اخي ورفيقي الامين للحق والجهاد
اخوكم فؤاد جرجس حداد "
هوامش:
(1) جوزف مسلم: من بلدة القرعونوكانت له مسؤولياته في مدينة كالغري – كندا .
(2) المنزل في شارع جان دارك. كان ما زال قائماً وكنا نشرنا نبذة عنه، مع صور مناسبة. لمن يرغب الاطلاع الدخول الى الموقع المذكور آنفاً.
(3) لا معلومات لدينا ان سعاده كان يعطي دروساً في اللغات الثلاث، انما كان يعطي دروساً في الالمانية لمن يرغب من الطلاب في الجامعة الاميركية .
(4) هو عزيز سلوم، مراجعة الصفحة 48 من الجزء الاول من مجلد "من الجعبة" للامين جبران جريج.
(5) المجموعة الاولى التي انتمت تألفت من: جورج عبد المسيح، جميل عبده صوايا، زهاء الدين حمود (اردني)، وديع تلحوق وفؤاد حداد، انما تبيّن زيف اثنين منهم، هما وديع تلحوق وزهاء الدين حمود. المرجع المذكور آنفاً.
(6) يشرح الامين عبدالله قبرصي في الجزء الاول من "عبدالله قبرصي يتذكر" كيف راح يتحاور طويلاً مع الزعيم في موضوع العروبة الى ان اقتنع منه، فاعتنق العقيدة السورية القومية الاجتماعية، وكان له مع الحزب المشوار النضالي الطويل المعروف.
|