عرفت مديرية تورنتو حضوراً جيداً لرفقاء من الجنوب السوري، ابرزهم الامين سبف حكيم، الرفيق يوسف جبري، الرفيق سعاده سوداح الذي كان له الاهتمام الصحفي الجيد وقد نشرت عنه في اكثر من مناسبة، كما كنت نشرت عن والده الامين سعاده سوداح.
الامين سيف حكيم كان تولى مسؤولية مدير مديرية تورنتو اكثر من مرة وهنا ننشر النبذة الغنية عن مسيرته النضالية بعنوان من هنا وهناك في العمل القومي الاجتماعي، وفيها معلومات تضيء على نشاط رفقائنا في مواجهة العدو الاسرائيلي.
جدير بالذكر ان رفقاءنا في تورنتو، لهم حضورهم اللافت في نشاط النادي الفلسطيني، وهنا نأمل من مديرية تورنتو ان تكتب لنا ما يضيء على هذا النشاط.
*
الأمين المناضل سيف حكيم
" لقد شيّدت الحركة الصهيونيّة ومؤسساتها الكثيرة المتعدّدة الأسماء ثلاث بنايات كبيرة في مدينة حيفا – فلسطين؛ واحدة منها أمام سكة الحديد، وكانت عبارة عن مطحنة للطحين، والبناية الأخرى بالقرب من سينما "الأمفيتاتر" اليهوديّة، وكانت بناية مستديرة تجاريّة، والثالثة كانت فوق حارة الغزازوي فوق جسر وادي رشميا، وكانت معملاً للثلج، ولكن عندما بدأت المناوشات كانت هذه الأبنية الاستراتيجية مُشادة عن تخطيط عسكري، لأنّ باستطاعة اليهود تقنيص الكثير من المواطنين الذاهبين إلى أعمالهم والعائدين من أعمالهم. وقد تنبّه القوميّون إلى ضرر هذه الأبنية، مع أنّ بريطانيا لا زالت حاكمة للبلد، وكانوا صارمين في أحكامهم، خاصة ضدّ شعب فلسطين. كنتُ أنا في سنّ السابعة عشر من العمر، وكنتُ أعمل في سكّة الحديد مع الرفيق المرحوم عبده فران، الذي وعيتُ منه على الحركة السورية القومية الاجتماعية، حتى أنّه في إحدى المرات أرسلني لاستحضار شارات الزوبعة من حانوت الطلاء الذي كان يخصّ السيد غلاييني في حيفا، ولمّا سألت عبده عنهم لم يشرح لي تماماً ما أردت، وكنتُ آنذاك ألاحظ التقارب والتآخي بين أعضاء الحزب من المعتقَدَين المحمدي والعيسوي، ومن خلال ذلك تعرّفت أن جميل عطية رفيقاً والشهيد محمد شبلي، وعليان، والجدع، وغيرهم.. إلى أن علمت أن بناية القنص قرب سكة الحديد (المطحنة) سوف تُنسَف. وبالفعل في تمام الساعة الرابعة والربع بعد الظهر من ذلك اليوم الذي لم أتذكّر تاريخه، ذهبنا بعيداً لكي نشاهد التفجير بعد أن علمنا أنّ تانك المازوت المطلوب دخل مكانه عندما دبّروا سائقاً ليقوم بهذه المهمة، وهكذا تمّ التفجير وقضى على أول بناية بالرغم من وجود بريطانيا كحكومة واليهود ومنظماتهم. وفي ما بعد، عرفت أشياء أكثر بعد تجمّع المعلومات، فكان لمديرية حيفا في الحزب هذا العمل الناجح والتنظيم المُتقَن. ثمّ بعد سقوط مدينة حيفا، وبعد سقوط بلد الشيخ، القرية التي سكنّاها وترحيلنا إلى شفا عمر، والبعض الآخر إلى عكّا ثمّ إلى مدينة الناصرة. وقد كان نصيبنا أن نحطّ الرحال في البلد شفا عمر، التي هي بين عكّا والناصرة، وهي خليط من المواطنين الدروز والعيسويّين والإسلام. لم نبقَ فيها أكثر من شهر، وقرّر والدي أن نرحل إلى مدينة الناصرة لأنها أكبر كمدينة وفيها مجالات أكثر. وهناك في الناصرة قابلت الرفيق عبده فران ثانية، وبدأت علاقتنا المنفتحة، فأوضح لي ما هو الحزب السوري القومي الاجتماعي، وما هي شارات الزوبعة التي لم يجبني عليها من قبل، ووضّح لي أن الحزب لا يُدخل أي عضو دون بلوغه سن التاسعة عشر، وكنت خلالها قد التحقت بجيش الجهاد المقدس الذي يرأسه أبو إبراهيم الصغير، وقد تعرّفنا على الضابط محمد العورتاني الذي هو مفرز من الجيش الأردني، وهو الذي وافق على انتظامنا أنا وخالي في الجيش. وخالي خدم في جيش الحدود الأردني، أما أنا فقد كذبت أنّ لديّ سابق خبرة عسكرية حتى ألتحق بالجيش، وهناك قابلت المرحوم صديقي حسين عطية، وكان مسؤولاً في مخزن الأسلحة، فسلّمني بندقية مع ذخيرتها وألحقوني في السريّة الأولى، وفي نفس الليلة سألني عن سابق خبرتي العسكريّة، فأخبرته بما حصل، وقد تحدّث حسب ما يظهر مع المسؤول عن خبرتي المهنية، وكانوا بحاجة إلى من يساعد ميخائيل منصور خبير الأسلحة، وعندما صعدنا على الشاحنة لكي يرسلونا لمعركة "الشجرة" أوقف الشاحنة الضابط أبو إبراهيم وسأل عن اسمي، ففكّرت توّاً أنّ أحداً وشى عليّ، وسرعان ما خاطبني الضابط وشكرني على حماسي، ولكنّه قال: نحن بحاجة ماسّة إلى من يعمل على تصليح المعدّات، وعلمت أن لديك خبرة. وطلب منّي أن أساعد ميخائيل منصور، هذا الإنسان الجريء وذو الخبرة في السلاح، وهكذا بقيت في المعسكر لكي أساعده، وبالفعل كنّا نعمل ساعات طويلة نسبة إلى الأسلحة التي يرسلوها لنا، وهي قديمة، وقنابل يدويّة صدئة، فكنّا نعيدها إلى سيرتها الأولى بعد جهد جهيد، وندهنها لكي تظهر جديدة بعد أن نغيّر ما في داخلها، وعندما نطلب أيّ قيمة ماديّة ثمن الدهان، كنّأ نلاقي صعوبة في التحصيل. أما الأمر، فهو ضروري بنظر ميخائيل ونظري، لأنّ القنبلة مهما كانت جيدة من الداخل وصدئة من الخارج، فقد تقلّ معنويّة حاملها ويخاف من أن لا تفصل ولا تنفجر. أمّا عندما تكون مطليّة وتظهر جديدة، فقد يهاجم بقلب قويّ متأكّداً من فصلها. كانت معركة "الشجرة" مشتعلة، وقد وضع اليهود باص ركّاب مصفّح في عرض الطريق ليقطعوا النجدات، وكنّا قد استلمنا عدد اثنين من الأسلحة المضادّة للدبابات، وكان سلاحاً فرنسياً قديماً وصدئاً، وقد باشرنا في تحضير واحدة منهم بعد إزالة الصدأ والتنظيف، وكان سلاحاً يخترق الباب المصفّح، وقد أحضرنا واحدة وجرّبناها في باب مصفّح من دائرة البوليس التي كنّا فيها سابقاً، حيث أصبحنا في مدرسة شلينر للألمان سابقاً، وهي مقابلة لمستعمرة "كفارها خرويش" اليهودية، ولمّا جرّبناها خرقت الباب المصفّح. سلّمناها للجاويش، الذي أخذها لمعركة "الشجرة"، وقد فعلت فعل السحر، واستطاع جيشنا أن يفتح الطريق بعد أن قتلوا بعض من كانوا في الباص حسبما أخبرونا. وبالفعل، بدأنا نحضر القطعة الثانية، وقد بدأت الكتائب الصهيونية بمهاجمة وقذف مدينة الناصرة، وكانوا يملكون كلّ وسائل القتال وآليّاتها، وكان الوقت في الصباح الباكر. وعندما سألنا عن القيادة، قالوا لنا إنّ الجيش العراقيّ في طريقه. ومن جهةٍ ثانية، بعض الدعايات تقول إنّ شعب الناصرة بدأ يرحل ويترك البلد، وقد طلبت أن أذهب إلى بناية الكازانوفا، حيث يقطن والدي وإخواني، وقد ذهبت لكي أطمئنهم أنّ الجيش العراقيّ قادم، وكانت هذه الخبريّة أشبه بكذبة نيسان وإطلاق النار مستمر كالشتاء، وحاولت الصعود إلى شلينر المعسكر، فقابلني لفيف من المواطنين في الناصرة، وقالوا لا تذهب فهم أصبحوا داخل البلد وقد يقتلوك ومن يأتي في طريقهم. وهكذا ذهبت للساحة في الناصرة محاولاً أن نذهب مع الجيش الخارج في سيارات منفردة، فلم يقف أحد ولم ننجح في ذلك، فعدنا إلى بناية الكازانوفا حيث والدي وإخواني والكثيرين من طبريا والبلدان الأخرى التي احتلّوها من قبل، مثل سمخ وقضائها وبيسان.
وهكذا كان، فقد بقينا تحت أيادي الأعداء. أمّا كيف أخبرونا بانّ الجيش العراقي قادم، فهذه جريمة كبيرة من الذين قالوها، وفي نفس الليلة فرضوا منع التجوّل بمكبّرات الصوت، وفي اليوم الثاني بدأوا بإعطاء تعليماتهم، وطالبوا بتسليم الأسلحة وكلّ ما لدى المواطنين من أسلحة صيد وغيرها، وأعطوا مهلة لثلاثة أيام وبعدها من يجدوا معه أسلحة يعاقبوه. وقد كان معنا في البيت بعض القنابل اليدوية ومسدّس، أفرغت محتوياتهم ووضعتهم في كيسَين ورق وسلّمتهم إلى شقيقتي التي ذهبت إلى ساحة الكنيسة مقابل الكنيسة، وقد كان فيها بئر مهجور، وذهبت وأنا أراقبها من النافذة، ووصلت إلى البئر ورمتهم داخله، وهكذا كان.
وفي ثالث يوم، وأنا داخل البناية، رأيت شابّاً مذعوراً يسير في صالون البناية الكبير، وقد عرفت وجهه وهو بدوره عرف وجهي، فوقفت وتحدّثت معه فعرفت أنّه ضابط من جيش الإنقاذ سوريّ الجنسيّة، وهو ضابط فوج حطين لم يستطع الخروج قبل دخول الصهاينة، وعرفت أنّه كان يحضر لتصليح أسلحة، وبعد أن عرفته وهو لا يعرف أحد، أرسلت والدتي إلى حاجّة تسكن في غرفة لوحدها، وقد كانت مواطنة صالحة فهمت الموقف، ووضعنا بطانية وقسمنا حجرتها إلى غرفتَين، وطمأنته أنه سوف يخرج معي متى هيّأنا ذلك، وما يحصل عليّ يحصل عليه.
بقينا في هذه الحال سبعة عشر يوماً من الاحتلال، وكانوا إذا وجدوا سوريّاً أو أردنيّاً أو عراقيّاً أو غيره، يقتلونهم فوراً، ويعبّروا أنهم قادمون لمحاربة اليهود.
وقد كنتُ تعرّفت على مواطنة جيّدة كان لها أخ يعمل معي في سكّة الحديد، وهي تعرف بواسطة راعي الكنيسة عن ما يفعله الجيش في البلد، وكانت تعمل المستحيل لكي تساعدنا في المعلومات، وأخبرتها أننا سوف نترك في أول فرصة ممكنة. كان اسمها (وردة) وهي بالفعل وردة بقوميّتها وسلوكها الوطنيّ.
وفي إحدى المرّات، ونحن جالسين مع بعض اللاجئين من مواطنينا الشركس من قضاء مدينة سمخ، حضر أحد رجال البوليس "الإسرائيلي" العسكري ولباسه كالجيش الإنكليزي بالضبط، ونظر في كلّ الجالسين حتى سلّط نظره على الشاب السوريّ عبدالله الأمين، وقال له: أنت تعال هنا. ثمّ جال نظره حتى وصل لعندي وقال: أنت انزل لتحت معاه. وقد فكّرت أنّ في الأمر وشاية لاختياره نحن الاثنين، والستّ وردة كانت تراقب فقالت لي: خذه وانزل معه إلى غرفتي، وأنا أرسل شابَّين مكانكما من التلاميذ، وهي تعرف لماذا طلب الشباب أنهم يريدون تحميل المؤن التي احتلّوها من جيش الإنقاذ وغيره، ويحققوا مع الشباب ثمّ يخلون سبيلهم. وهكذا نجونا من أيديهم بواسطة السيدة (وردة). أمّا لماذا ترك الجيش المؤن ولم يتركوها للشعب بدل اليهود، فالعلم عند الله.
ثمّ بعد سبعة عشر يوماً من احتلال مدينة الناصرة، حضر السيد أحمد طه، هذا الإنسان النبيل، وهو ابن خال الرفيق جميل عطية، وقد أبلغوني بالأمر وعزمنا على الخروج وقد كان منع تجوّل، وكان رحمه الله والدي يراقب لنا الطريق حتى أصبحنا في المنطقة الشرقية من الناصرة، وتوجّهنا للمكان الذي اتفق عليه وبصحبتي الضابط السوريّ عبدالله الأمين، قابلنا مواطن في بيته وكان يريد إرسال ابنه معنا لكي يخرجنا من البلد في هذا الظلام الدامس، ولكن الأخ أحمد طه الذي حضر كان معنا، فلم نحتاج الشاب الآخر. وبعد أن وضع الرجل الطيّب الذكر العشاء والبطيخ، شكرناه وسرنا، وقد نبّهونا لأشياء كثيرة حتى لا نعلق في شراكهم.
وصلنا إلى وادي رمانة وبدأنا بقطع سهل البطّوف، وقد حذّرونا من الدوريات اليهوديّة. وفي الصباح الباكر كنّا على حدود المنطقة المحتلّة وغير المحتلّة، وقد وصلنا إلى جيش الإنقاذ السوريّ وكان هناك ضابط أرمنيّ من حلب، وبعد أن أخذوا إفاداتنا توجّهنا إلى عيترون في لبنان، وكان الجيش العراقيّ هناك. وصلنا في المساء، فلم يكن عندهم أي طعام ونحن خمسة شباب، وأعطونا بطانيات لكلّ اثنين حتى نضع واحدة تحتنا ونتغطّى بالأخرى. تصوّر هذا الجيش الذي قدم لتحرير فلسطين (أليست هذه مهزلة؟). وهناك أخبرني حضرة الرفيق جميل عطيّة أنه عازم على الذهاب إلى بيروت وأنا كذلك، أمّا الضابط السوريّ الذي كان مفقوداً، عبدالله الأمين، من اللاذقية، فقد ودّعته من هناك بعد أن التقى مع جيشه وكتيبته، وقد قابلنا كثيرين من رفقاء ومواطنين في الجيوش التي مررنا عنها، منهم الضابط الرفيق فريد حسين والمواطن عبد الحفيظ والمواطن خالد حجاوي، وخالد عطيّة الذي كان معنا، وعصام حفيظ وغيرهم. وركبنا في باص ركاب من بنت جبيل، ووصلنا إلى صيدا حيث نزلت هناك، بينما جميل عطية واصل إلى بيروت، وقد كان جدّي والد والدتي الحاج محمود الصديق رحمه الله، حيث كان يعرف أهل صيدا عندما كان يحضر من فلسطين أيام العزّ مع عائلته.
القصة واقعية وطويلة، وأنا دوّنتها في حوالى سبعين صفحة، وهي قصة واقعية قد يطبعوها في كتاب ويستفيد الحزب من دخله إذا أرادوا. وكذلك ترجمة عن كتيّب نشر باللغة الإنكليزية للكاتب المرحوم الراحل سامي هداوي، ترجمة سيف حكيم، إنّه عن اليهود وتاريخهم، ويفضح ألاعيبهم، إنّه أيضاً قابل للنشر والاستفادة.
لقد ذهبت بعدها إلى السعودية العربية وعملت في الظهران، وفي سكّة حديد الدمام، وكل هذا وارد في القصة الواقعيّة مع رسوم للرفقاء والمواطنين. أمّا ما كتبته في هذه الصفحات المرسَلة، فهو جزء صغير ممّا حصل في رحلتي المتشعّبة إلى أن سجنوننا إحدى عشر يوماً في الدمّام وسفّرونا إلى لبنان بعد السجن، ولم نعرف الأسباب لحدّ الآن في هذا العالم العربيّ الذي إن لم يصحُ سوف يدفع الثمن غالياً، هو وكل العالم العربي، خاصة الدويلات السوريّة.
وبعد السعوديّة حضرت إلى كندا في 1956، وأسّست مفوّضية تورنتو التي أصبحت مديريّة الآن في هذه الرحلة الطويلة الشاقّة وما احتوت من مهازل وسوء معاملة وتشتيت.
ملاحظة: السيدة وردة شقيقة إيلي الذي كان يعمل في سكّة حديد حيفا. بوركت هذه السيدة القومية الطابع والتربية."
*
من مناضلي الحزب ووجوهه الناصعة في تورنتو
الرفيق يوسف الجبري
" انتميت للحزب سنة 1950 في مدينة إربد بالأردن، على يد كلٍّ من الشهيد محمد أديب الصّلاحي، الأمين فريد عطايا والرفيق ظافر حشيشو.
ومنذ انتمائي للحزب كنت، ولا أزال، مؤمناً إيماناً قويّاً بالقضية، وعاملاً باندفاع غير محدود نحو تحقيق أهداف الحزب، ومدافعاً عنه وعن أفكاره، وناشراً لمبادئه متخطياً كل العراقيل والصِّعاب والسجون التي كانت تعترض طريقي من أجل تحقيق تلك الأهداف. مثلاً، من تلك العراقيل والصعاب، دخولي السجن عدّة مرّات؛ أوّلها بسبب حادث مقتل رياض الصلح، حيث أُلقي القبض على عدد من القوميين الاجتماعيين برهن التحقيق وكنت واحداً من هؤلاء، وصادف أن قُتل الملك عبدالله بعد ذلك بفترة، فبقينا بالسجن ولم يُفرَج عنّا إلّا بعد أن انتهى التحقيق بالحادثين.
ودخلت السجن مرّات أخرى، بسبب معارك الحزب مع الشيوعيّين وأحزاب أخرى، ودخلت السجن أيضاً بسبب معها ركنا نحن القوميّين مع بعضنا البعض، غلى إثر الانشقاق الذي أحدثه جورج عبد المسيح بسبب حادث قتل عدنا المالكي.
كما دخلت السجن على إثر مداهمات كانت تجريها الشرطة الأردنية على أمكنة اجتماعاتنا، بحجّة أنّنا نعقد اجتماعات لحزب غير مرخَّص.
ومِن الصِّعاب التي كانت تعترض طريقي، من دون أن تثنيني عن عزمي في فترة ما بد منتصف الخمسينات، محاربة الحركات الحزبيّة لي، التي كانت تعمل في المدينة آنذاك، من بعثيّين وشيوعيّين وأخوان مسلمين وحزب تحرير إسلامي، حيث كانوا يحاربوني في لقمة العيش ويدعون لمقاطعتي حيث كنتُ أملك متجراً لبيع الأقمشة ومحلّين للخياطة الرجالية والنسائية.
وعلى إثر تحسّن الأوضاع السياسية لفترة قصيرة بين الشام والأردن، أخذت المخابرات الأردنيّة والشاميّة تداهم بيوت القوميّين ليلاً، بحثاً عن جورج عبد المسيح على إثر إخباريّات كاذبة، وكان بيتنا يُطوَّق ويُداهَم عند الصباح الباكر باستمرار، وعلى فترات متقطّعة لمدّة شهرَين.
وقد لبَّيت نداءً كان قد وجّهه المركز للوحدات الحزبيّة في الأردن للالتحاق بدورة تدريبيّة عُقدت في بيت مري في لبنان، وتركت عملي في الأردن والتحقت بتلك الدورة وأنهيت فترة التدريب تلك.
وعلى أثر تحسّن العلاقة بين معتمديّة الحزب في الأردن والحكم الأردني، تقرّر في المعتمديّة، بعد التشاور مع المركز، أن تتقدّم المعتمديّة بطلب ترخيص للحزب للعمل علني، إذ تقرّر أن يُقدَّم طلب الترخيص بِاسم عضوَين من كلّ منطقة من مناطق الأردن، وكان اسمي واحداً من اسمَين قُدِّما عن منطقة لواء عجلون. واستمرّينا بالعمل، إلى أن حدث الانشقاق الذي سبّبه عبد المسيح بسبب ذيول حادث عدنان المالكي؛ فقد تراجع العمل الحزبي بشكل ملحوظ في الأردن بشكلٍ عام، وفي مدينة إربد بشكل خاصّ، شلّه كلّياً أو كاد، وذلك بسبب أزمة الثقة التي ارتجّت عند الأعضاء؛ فمنهم من قعد، ومنهم من ابتعد، ومنهم من وقف بين بين، الأمر الذي أحدث ردّات فعل مؤلمة عند الكثير منهم.
وفي سنة 1968، وبعد مرور سنة على حرب الأيام الستّة التي تركت في نفسي ما تركت من مرارة وحسرة على الخسائر الكثيرة، وفقدان جزء كبير من الوطن واستشهاد العدد الكبير من المواطنين، ومنهم أخي الذي كان طبيباً عسكرياً بالجيش الأردني، هاجرت إلى كندا ومعي زوجتي وولديّ صبيّ وبنت، نزلنا مدينة تورنتو حيث حيث اتّصلت بالمسؤول الحزبي آنذاك الرفيق سيف حكيم، والتحقت بالوحدة الحزبية وبدأت أمارس نشاطي الحزبي، وتسلّمت مختلف المسؤوليات الحزبية، مثل: مدير، مفوّض، ناموس، محصّل، مذيع ومدرّب. ومنذ قدومي وحتى الآن وأنا أحمل إحدى المسؤوليات بدون انقطاع. وقد أظهرت نشاطاً ملحوظاً وتقدّماً بالعمل القومي الاجتماعي بين أفراد الجالية والجمعيّات والمؤسسات، الأمر الذي أتاح لي أن أنال ثقتهم وأصبح من المسؤولين في جمعيّاتهم لفترة طويلة، كما أظهرت نشاطاً كبيراً ضمن نطاق عملي المهني المهنيّ والتجاريّ، نلت على أثره ثقة من كنتُ أعمل معهم، وقد حقّقت ضمن عملي المهني والتجاري نجاحاً ماديّاً لا بأس به.
في العمل الحزبي
لقد داومت على القيام بعملي الحزبيّ دون انقطاع منذ قدومي إلى كندا سنة 1968 وحتى الآن، حيث كنتُ أقوم بكلّ ما يُطلَب منّي القيام به، فقد كنتُ أقوم بكل النشاطات المقرّرة، وقد كنتُ قدوة بدفع وقيمة الاشتراكات والتبرّعات، وكمسؤول، سواء كنتُ مديراً أو عضواً أو في أيّ مسؤولية أخرى، كنتُ المعبّر عن فكر الحزب وأهدافه وأخلاقه ومناقبه، وقد أرسل لي مرّة الأمين سيف حكيم وكان مسؤولاً تلك الفترة رسالة تنويه وتقدير بهذا الصدد.
أودّ هنا أن أذكر حادثة حدثت في الآونة الأخيرة، تدلّ على مدى ثقة ورأي الرفقاء بي، فبعد إعلان حالة الطوارئ وحدوث "الانشقاق"، انقسم رفقاء تورنتو إلى عدة فئات؛ منهم من لا يريد أن يعمل، ومنهم من يريد أن ينتظر حتى تنجلي الأمور، ومنهم من يعتبر أنّ الجهتَين مخطئتين ولا يريد أن يتعاون مع أعضائه عملاً مع المجلس الأعلى المنشق.
وبعد محاولات كثيرة، من زيارات ولقاءات واجتماعات، كنتُ ورفقاء آخرين نجريها مع الرفقاء كي نشرح الحالة ونشرح أسباب وظروف إعلان حالة الطوارئ، من دون الوصول إلى النتيجة الحاسمة المطلوبة.
في تلك الأثناء، أعلن الرؤساء مبادرتهم، فجمعنا الرفقاء مجدداً لنتابع معهم ضرورة اتخاذ موقف والانتظام بالعمل الحزبي، إلّا أنّهم أعلنوا جميعهم أنهم يريدون تأييد مبادرة الرؤساء، ويريدون انتخابي لأكون مسؤولاً عنهم لتلك الغاية المحدّدة، والانتظار لما سيحدث عن مبادرة الرؤساء. وفعلاً تمّ انتخابي بالإجماع، وقد سجّل تلك الجلسة آنذاك الرفيق ريمون الجمل، مديرنا الحالي، بخطّ يده. وأرسلت رسالة بهذا الصدد للعلم للأمين لبيب ناصيف موقّعة من كل الرفقاء، كلّ بجانب اسمه. أردت أن أورد هذه الحادثة لأُظهر مدى هذه الثقة التي أعتزّ بها أشدّ الاعتزاز.
في النشاط مع الجالية
لقد كنتُ، ولا أزال، نشيطاً وفعّالاً بين أفراد الجالية وجمعيّاتهم ومؤسساتهم، وكنتُ أقوم بهذه النشاطات بناءً على خطة وتعليمات من الوحدة الحزبية، على على أثرها ثقتهم واحترامهم، فقد انتُخبت ثلاث مرّات عضواً إدارياً في مركز الجالية العربيّة في تورنتو، وانتُخبت مرّة أميناً للصندوق، وانتُخبت لثلاث مرّات متتالية لأن أكون عضواً في هيئة "الكرفان" العليا، الكرفان نشاط يقوم به المركز العربي كل سنة بالاشتراك مع الجمعيات السوريّة والعربيّة، يحتوي على عرض ثقافي وفنّي وتاريخي عن الوطن، يزوره عدد كبير من أفراد الجالية والمواطنون الكنديّون.
وكنتُ أمثّل الحزب في الحركة الوطنيّة اللبنانيّة على مدى الفترة التي كانت تعمل فيها في تورنتو، وأذكر مرة أنّ إنعام رعد في إحدى زياراته لمدينة تورنتو، وكان حاضراً لاجتماع للحركة الوطنية اللبنانيّة، فطلب منّي أن أغادر الاجتماع مع أني كنتُ أمثّل الحزب، بحجة أنني غير لبنانيّ، ولا يجوز حسب رأيه أن يكون غير لبناني مسؤولاً فيها.
وكنتُ ولا أزال أمثّل الحزب وألقي كلمته في المناسبات التي تقيمها الجمعيات والحركات والمؤسسات العاملة في تورنتو.
ومرّة اختارني القضاء الكندي لأجلس كمحكّم مع لجنة محكّمين للنظر والحكم في جريمة قتل.
في النشاط في مجال عملي التجاري والمهني
لم أوفّق في عملي كخيّاط في تورنتو لكثرة معامل الملابس الجاهزة، فاضطررت أن أشتري تاكسي أجرة وأعمل عليها، فوفّقت بهذا العمل واشتريت ثلاث تاكسيات أخرى، أعمل على تأجيرهم، ويدخلني منهم دخلاً لا بأس به، واشتغلت أيضاً بتجارة العقار فوفّقت جداً بهذا المجال، حيث اشتريت عدّة شقق وبيوت وقطع أراضي تاجرت بها، ولا زلت أملك بعضاً منها ويدخلني منها دخلاً لا بأس به.
وفي مجال عملي كصاحب لعدد من تاكسيات مطار تورنتو، فقد انتُخبت لعدّة مرّات لمجلس إدارة جمعية أصحاب تكسيات المطار، وانتُخبت مرة رئيساً لتلك الجمعية مفرّغاً براتب أسبوعي محترم.
هذه الجمعية تضمّ ثلاثمئة عضو، كل واحد منهم يعمل برأس مال قيمته 150000 مئة وخمسون ألف دولار "ثمن نمرة التاكسي والسيارة"، عدا عن أهميّة دخله اليومي الذي كان من واجبي أن أهتمّ به، ومن المعروف أنّ أصحاب التاكسي وسائقيها لا يعطون ثقتهم بالسهولة، حيث أنّ رأس مالهم ودخلهم اليوميّ له أهميّة وعلاقة بانتخابهم لرئيس جمعيّتهم. استلمت الجمعيّة وكانت مديونة بحوالى 25000 دولار، وتركتها بعد سنة وكان رصيدها 15000 دولار، وأصبحت موضع ثقة من إدارة المطار يأخذون رأيي بكثير من الأمور التي تتعلّق بموضوع مواصلات الركّاب بواسطة التاكسي ووضع تسعيرة لتلك المواصلات.
*
كلمة الرفيق ريمون الجمل في مأتم الرفيق يوسف الجبري
" في ما ظنك الرفيق يوسف، ان اجسادنا تفنى اما نفوسنا تبقى مرتفعة الى الخلود الافراد يفنون اما المجتمع يبقى ويتطور من الصعب ان تقف على هذا المنبر الصغير تنظر الى جسد صديق مسجى لا حراك فيه لانها مشيئة الحياة طبيعة الانسان وسنة الموت.
الرفيق يوسف الجبري صديقا لما يقارب الخمسين عاماً اي نصف قرن. هذه هي بداية صداقتي مع الرفيق يوسف "ابا بشار" يوم قدمت للسكن في تورنتو وانضم الى المجموعة القليلة العدد انذاك من رفقائنا، منهم من رحل والبعض ما زال على قيد الحياة اطال الله عمرهم.
دعانا الى بيته الاول وقام بمهمة التعارف وابتدأت المسيرة.
الرفيق يوسف هو ابن فلسطين ابن النهضة السورية القومية الاجتماعية التزام بمبادئها في سن مبكر من حياته ومؤمناً بعقيدتها وبقي يمارس هذه القناعة ومبادئها حتى اخر ايام حياته.
لم يهدا، لم يكل، لم ييأس. فكره، عقله وهاجسه هو حزبه.
يعيش جسدياً في المهجر، ويحيى بروحه وقلبه مع الم الوطن الاصيل.
1968 العام الذي قدِم الرفيق يوسف الى كندا- تورنتو تحديداً قادماً مع عائلته الصغيرة طفلين والزوجة مسؤولية كبيرة، فعليه تأمين الحياة الكريمة لهم، وله هذا الحلم الكبير الذي حمله معه.
بداية عمل في المهنة التي كان يمارسها في الوطن - الخياطة، يتركها بعد مدة قصيرة اذ انها لا تفي بالحاجة
غير الاتجاه وسار مع التيار، خدمة الليموزين. بداية صعبة وشاقة. ينطلق من الصباح الباكر ويعود في اواخر الليل على مدى ستة ايام في الأسبوع ومرات تطول لتشمل اليوم السابع.
جهاد، كفاح، ونضال لتامين لقمة العيش والحياة الكريمة كما وعد نفسه والعائلة. لم تكن بتلك السهولة.
العائلة تنمو والمسؤولية تكبر مع هذا النمو.
اقسَم ان الفشل ليس في قاموسه، كما انه كان قد اقسم ليكون عضواً فاعلاً في حزب النهضة السورية القومية الاجتماعية.
لم يهمل تلك الواجبات المطلوبة منه ايضاً فأعطى ما تبقى من ساعات الاسبوع القليلة الباقية للعمل الاجتماعي الحزبي.
وما هي الا وقت قصير حتى استعاد الرفيق يوسف عافيته المادية والاقتصادية، فأمن اول منزل يملكه وعائلته، خفف من اوقات العمل ليعطي وقتاً اكثر للعمل الحزبي لإلتزامه الثاني، اذ أن غاية الحزب هي تأمين حياة اجود لعالم افضل لشعبه غاية نبيلة وسامية فعل رفيق يوسف قناعاته كاملة ومطلقة ولا شك فيها.
لا تراجع اذاً. عليه ان يكون في المقدمة وهكذا كان.
تسلم المسؤولية تلو الاخرى من اصغرها الى اكبرها التزم مع الجمعيات الوطنية العاملة لخير شعبنا في الوطن، ولكنه لم ينسى لماذا هو هناك لنشر فكره القومي السليم وكان مجاهراً في ذلك. تعاطى مع من عمل معهم بأخلاق واحترام وكان ذلك متبادلاً.
الرفيق يوسف لم يتعصب لأية طائفة محدودة او معينة. الكل عنده سواسية، ومفهومه للدين هو لتشريف الحياة وليس العكس.
الدين للتسامح والتأخي وليس للحقد والكراهية. لم يكن منافقاً بل كان عادياً مع من يلتقي ويتعامل معهم بقلب ملؤها المحبة.
عرفته منذ تلك الأيام تشاركنا في الأفراح والأتراح افراداً وعائلة الى عائلة. واذكر ما اذكر هدية، اعطاه لأبنه البكر ذا عمر السنتين او الثلاثة، كنار اصفر في قفص، ليقول انه من الضروري ان يتعلم الطفل محبة المخلوقات جميعها حتى يتعلم حب الانسان كذلك.
شاركنا في مؤتمرات عدة ونشاطات اكثر فيها كان ناجحاً ومنها عادياً كلهاً حسب ما كان مخططاً.
لم يخفف الرفيق يوسف نشاطه رغم التقدم في العمر. هو نفسه هذا العام كما كان هنا عام 1974 كذلك في اخر زيارة له منذ شهرين.
الهاجس هو عينه – فلسطين. الوطن. الحزب - وطنه والمصير.
عاش في سلام دائم مع قناعاته ومبادئه التي لم تتبدل ابداً.
باسمي وأسم القوميين ومديرية تورنتو في الحزب السوري القومي الاجتماعي اتقدم بالتعازي القلبية الحارة لعائلته وزوجته انصار.. والعزيزة ديانة والحبيب بشار مع عائلته.
ولروحه الطاهرة الرحمة، والبقاء للامة.
|