 تعود معرفتي بالرفيق الرائع بدر الحاج الى ستينات القرن الماضي عندما كان طالبا في الجامعة الأميركية وكنت اتولى مسؤولية رئاسة مكتب الطلبة.
اذكر تلك المرحلة الغنية جدا وقد تألق فيها عدد جيد من القوميين الاجتماعيين بنشاطهم او بحضورهم اللافت اذكر من بينهم: فريد نبتي(1)، الدكتور يوسف زعرور، فداء جديد، صلاح زهر، باسم المعلم، قيصر رزقالله، رمزي اسطفان، اديب صعب، ربيع سليمان، نورمن صدقة، راغدة سعادة، نظام الأشقر، حنا سعادة، صفا رفقة(2)، مفيد خوري (القسيس المواطن)، ولا انسى الحضور اللافت للقوميين الاجتماعيين في الجامعة الأميركية اذ تولى يوسف زعرور رئاسة الرابطة اللبنانية، فيما تولى رئاستها الرفيق المميز خالد نصر في جامعة هايكازيان.
*
اذكر عندما توجهت ذات يوم الى منزل الامين الياس جرجي وقد كان قد سبقني إليه مجموعة من الطلبة لحضور حلقة إذاعية، يومئذ لفتني طالبا قصير القامة جالسا في المقعد الامامي، تعجبت ليس لقصر قامته انما لاتساع عينيه بحيث انه كان يستمع ويبتلع الكلمات لحديث الأمين الياس وكان كلما استطرد الأمين الياس كلما اتسعت عيناه ولمعت.
ومرت الأيام والتقيت الرفيق بدر في جريدة البناء حيث كان محررا يلفت الجميع بمقالاته .
غادر الرفيق بدر الى لندن فنجح كثيرا في جمع وبيع الصور التاريخية كما الانكباب على جمع الوثائق مما جعله بعد سنوات وعودته الى لبنان ان يصدر الكثير من الكتب الوثائقية التي اغنت المكتبة القومية الاجتماعية والعامة بكثير من النفائس والمخطوطات التاريخية.
هذا "العملاق" انتج الكثير وينتظر منه الأكثر.
*
مؤخرا صدر له في شهر تموز من عام 2024 في بيروت المجلد الأول (1895-1925) من "الوثائق السرية للإحتلال الفرنسي"، وقد ذكر في التمهيد:
" تُقدم بعض الوثائق الدبلوماسية الفرنسية، في هذا المجلد، صورة تفصيليّة دقيقة عن المساعي الصهيونيّة للاستيطان في سورية منذ 1895 حتى نيسان عام 1925، وبشكل خاص في المناطق الحدودية بين فلسطين وسورية ولبنان الكبير.
لم تقتصر تلك المحاولات والمشاريع الصهيونية على المناطق الحدودية فحسب، بل كانت هناك محاولات طموحة للاستيطان في مناطق متعدّدة مثل تدمر، الفرات، العراق، سهل العمق(3) في الاسكندرون، وسهل البقاع للسمسرة وتسهيل عمليات البيع، أو الدعاية والتسويق للنشاط الصهيوني الاقتصادي في فلسطين، وإغراء الناس للتعامل مع الصهاينة.
تستند الوثائق الى تقارير دبلوماسية وأمنية وفرّتها الأجهزة الفرنسية المنتشرة في شتّى أنحاء منطقة الاحتلال وبشكل خاص المناطق المحاذية لفلسطين سواء في صيدا، وصور، ومرجعيون، ودرعا، وصفد، ودمشق، وبيروت. كانت تلك المعلومات ترسل الى المندوبين السامييّن في سورية، وبدورهم ينقلونها الى وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء في باريس، وعلى ضوئها كانت تُرسم السياسات، وتوضع الخطط الهادفة الى إحكام السيطرة لفترة طويلة على سورية.
كانت المصلحة الفرنسية آنذاك تتعارض مع مخطط الاستيطان الصهيوني في مناطق السيطرة الفرنسيّة، وكانت كل تلك التقارير والحركة الاستخبارية الفرنسية تهدف الى الحدّ من الاستيطان الصهيوني في سورية. ففي تلك الحقبة، وكما تظهر الوثائق، كان الصراع على السيطرة مستعراً بين الفرنسيين والبريطانيين، واعتبر الفرنسيون ان الحركة الصهيونية هي أداة بريطانية، وجلّ ما تتمناه هو قضم المزيد من الأراضي السورية الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي.
لأول مرة تُـنشر ترجمة حرفية لهذه الوثائق التاريخية الهامة، ولما تتضمّنه من فضائح عن تورّط الكثيرين في تسهيل المشروع الصهيوني بهدف الكسب المالي. لقد تمّ تجاهل هذه الوثائق سابقاُ، خاصة من قبل الذين يُعتبرون "مؤرخين" لفترة الاحتلال الفرنسي. وذلك التجاهل كان لسبب وحيد فقط وهو أنها تفضح الطبقة السياسيّة والطغمة الماليّة التي تعاونت مع المحتل الفرنسي، وتوارثت السلطة في لبنان وسورية.
من المؤسف أنه بعد مرور كل هذه السنوات على إقامة المشروع الصهيوني في فلسطين، هناك قلّة تدرك كيف لعب المال الصهيوني دوراً رئيسياً في الاستحواذ على الأرض بتعاون وثيق بين كبار الاقطاعيين والمنظمات الصهيونية وسلطات الاحتلال البريطاني. لذلك آمل ان تكون هذه الوثائق نقطة انطلاق لأبحاث أخرى تسلّط الضوء على حقائق تاريخنا المغيّبة عمداً.
إن استقراء التاريخ والاستناد الى الوثائق بدون تأويلات او ادّعاءات أمر يهدف الى إيضاح الحقائق كما هي. فمن لا يعرف تاريخه لا يمكن ان يبني حاضره او مستقبله.
لقد آثرت ان تُـنشر هذه الوثائق بحرفيتها، رغم ان بعضها مكرّر وبعضها الآخر مجرّد معلومات وإشاعات قد تكون خاطئة، لكنها نُـقلت الى جهاز الأمن الفرنسي، والهدف من نشر هذه الوثائق هو استقراء التاريخ لندرك حقيقة الخطط التي حيكت ضدّنا، وتوضيح أسباب ما وصلنا إليه.
القسم الأكبر من هذه التقارير مطبوع بالآلة الكاتبة، وبعضها عبارة عن نصوص كُتبت باليد، وهناك أيضاً برقيات تلغرافية صادرة عن باريس وبيروت، ومنها وثيقة تتعلق بامتياز سهل الحولة من أرشيف فريد شهاب، مدير الأمن العام السابق. كما أن هناك قسماً من هذه الوثائق باللغة العربية، لكن القسم الأكبر باللغة الفرنسية، وبعضها عبارة عن ترجمة الى الفرنسية لمقالات نُـشرت في صحف عربية وبريطانية أو ألمانية، وجميعها تنحصر في موضوع مسألة تطوّر المشروع الصهيوني في سورية.
لقد قمتُ بإعداد ملف يتضمّن بعض المعلومات المختصرة عن أسماء وردت في هذا المجلّد، إضافة الى فهرس عام بالأعلام أعدته أمية درغام.
من الملاحظ انه لم يُسمح بنشر جميع الوثائق، إذ قسماً منها سُمح بنشره على شكل قصاصات او مقاطع من تقارير كاملة، كما ان بعض التقارير جرى التعليق عليها بخط اليد في الهامش، وتقاري أخرى تمّ طمس بعض نصوصها بالحبر الأسود الكثيف.
هوامش
(1) فريد نبتي: من ألمع الرفقاء الذين عرفتهم في تلك المرحلة في الجامعة الأميركية.
(2) صفا ر فقة: للاطلاع على المادة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info
(3) سهل العمق: هو معلم جغرافي يقع في شمال شرق سورية يمتد ما بين جبل سمعان في الشرق وجبال الأمانوس في الغرب، وذلك في منطقة الحدود السورية – التركية، وينتهي في الجنوب الغربي عند ساحل البحر المتوسط حيث مصب نهر العاصي.
|