اصدرت " البناء- صباح الخير " عدداً خاصاً في 17 تموز 1999 بعنوان " خفايا اغتيال سعادة " ضمّنته دراسات ومعلومات عديدة يشكل بعضها مراجع للبحث.
في هذا العدد نشر الامين د. فايز شهرستان تقريراً عن الفترة التي امضاها سعادة في دمشق بعد عودته الى الوطن في تموز 1930. فنعيد نشره لفائدة الاطلاع. ل. ن.
*
وصل انطون سعادة الى بيروت في الثلاثين من تموز عام 1930، وبعد ان أقام لفترة وجيزة في مسقط رأسه ضهور الشوير، توجه الى دمشق للاقامة فيها والانطلاق منها عبر تأسيس حزب يعيد للوطن ثقته بقدراته ويصنع منه وطناً يليق بتاريخه القديم ويساهم مجدداً في صنع الحضارة الانسانية.
بعيد وصوله الى دمشق توجه سعادة الى بلدة صيدنايا، وحضر فيها الاحتفالات الشعبية بعيد سيدة صيدنايا، الذي يتقاطر المؤمنون كي يحضروه من اصقاع شتى، وذلك في 8 ايلول 1930.
خلال هذه الفترة كان سعادة قد اتخذ له مسكناً في حي دمشقي عريق داخل المدينة القديمة يدعى حي الخمارات (1)، داخل دار مبنية على الطراز الدمشقي الشهير، وتعود ملكيتها للسيد يوسف العشي.
دار واسعة مكشوفة على غرار البيوت الدمشقية القديمة، تتوسطها بركة ماء تزرع الخضرة، وتلتف الغرف حول صحنها الفسيح، كما تتوزع الغرف في طابقها العلوي الذي يُصعد اليه عبر درج من جانب صحن الدار، وبجانب الغرف العلوية سطح واسع نسبياً، يسمح بالتأمل والتفكير والراحة ويسميه الدمشقيون المشراقة. سكن سعادة في غرفة من غرف الطابق العلوي، حيث كان يسكن الغرف المتبقية صاحب الدار وزوجته السيدة سلمى ابو طبيخ، المتعلمة والمثقفة والناجحة في عملها كمديرة لمدرسة الآسية الشهيرة في دمشق.
اما الطابق الارضي فقد كانت تسكنه عائلة ديمتريادس اليونانية الاصل، السيدة اغابي وابنتاها، الكبرى لوغي بندلي ديمتريادس والصغرى ايلين. حيث درجت الابنتان على تسمية الساكن الجديد في الطابق العلوي من الدار "عمو انطون ".
صلتي بعائلة ديمتريادس
في العام 1939 انتقلت عائلة ديمتريادس من دار يوسف العشي الى دار مجاورة في الحي المذكور نفسه، وهي دار السيد خليل اسطفان، وكنت قد انتقلت في حينها مع عائلتي للسكن في تلك الدار مع العائلة اليونانية، حيث سكنت مع عائلة ديمتريادس في الطابق الارضي، كما اعتادت، وسكنت مع والدي في الطابق العلوي، وقد نجم عن هذه السكنى صداقة عائلية وطيدة بين عائلتينا ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
في العام 1955 افتتحت عيادة لي بدمشق، وفي العام 1957 جاءتني عائلة ديمتريادس وطلبت مني ان اقوم بمعالجة اسنان والدتهم السيدة اغابي في منزلها لعدم تمكنها من الحضور الى العيادة، فقمت بذلك عن طيب خاطر، وخلال الزيارات المتكررة والاحاديث المتنوعة، وكانت العائلة قد علمت بانني انتمي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكانت ايضاً قد علمت بعد ان رأت صور سعادة بعد اعدامه ان زعيم الحزب ومؤسسه هو جارهم السابق " عمو انطون "، فتجاذبنا الاحاديث عن انطون سعادة، وعن ذكريات الطفولة عند ابنتي عائلة ديمتريادس.
لاحظت كم هي متوقدة ذاكرة الابنة الصغرى ايلين ديمتريادس فاقترحت عليها كتابة ذكريات طفولتها عن " عمو انطون " ففعلت، الا انها لم توافق على نشرها خوفاً من ان يطالها الاضطهاد الذي لحق بكل من كان له صلة بأنطون سعادة من قريب او بعيد. وقد نزلت عند طلبهم بالامتناع عن النشر في ذلك الحين، وحتى نقل جزء من احاديث عن ذكرياتهم نزولاً عند رغبتهم، كما ان الحزب في ذلك الحين كان يناضل في مرحلة شديدة السرية، ولا يمكننا نشر اي شيء عن الزعيم.
جاء العام 1997 ليفتح كوة في جدار الامتناع عن النشر حيث " قمت بإهداء ايلين ديمتريادس كتاب "سعادة في المهجر" تأليف الامين نواف حردان، وما ان اتمت قراءته حتى وافقت فوراً على نشر ذكريات طفولتها عن " عمو انطون"، وكذلك فعلت السيدة لوغي، فقمت عندها بأخذ عدة صور متعددة لدار يوسف العشي، التي لا تزال كما هي تماما، وكذلك غرفة سعادة ".
وقمت بزيارات متكررة الى منزليّ لوغي وايلين ديمتريادس كي اتابع الحوار وتنشيط الذاكرة واستذكار الحوادث والاسماء والحوارات التي كانت تتم في تلك الدار الدمشقية تحت سمع السيدتين ديمتريادس.
روايات عائلة ديمتريادس
تقول لوغي: اكثر ما لفت نظري عناية سعادة بنظافة اسنانه قبل الطعام وبعده، واصراره على تعليمها كيفية تنظيف الاسنان بشكل علمي ودقيق وصارم، الا اني كنت اضيق ذرعاً لشدة اصراره على ذلك، واطالته في تنظيف اسنانه.
اما جارتي القديمة ايلين فتقول انها كانت طفلة في السابعة من عمرها، وتدرك ان شخصاً ما يتمتع بالذكاء، فتحاول ان تقترب منه وتتعرف اليه وتستمع الى احاديثه، "لذلك حاولت التقرب من "عمو انطون" وعندما كانت تراه يستقيظ باكراً ويرتدي بنطالاً قصيراً "شورت" ويقوم بتمارين رياضية صباحية كل يوم امام غرفته على سطح الدار، كانت تصعد الى الطابق العلوي قرب غرفته لمشاهدته عن قرب وهو يقوم بتمارينه الرياضية، وعندما لاحظ سعادة ان ابنة الجيران الصغيرة ايلين تصعد الى الطابق العلوي لرؤيته وهو يقوم برياضته الصباحية، وانها مهتمة بذلك، درج على مناداتها يومياً عندما يهم ببدء تمارين الصباح، لقد اصبحنا انا و "عمو انطون" صديقين حميمين.
وتؤكد لوغي وايلين انهما تعلمتا الاعتناء الشديد بنظافة الاسنان حتى اليوم متأثرين من النظافة الشديدة التي كان انطون سعادة يوليها لأسنانه، كما تتحدثان عن نظافة ملابسه وانه كان يرتدي الثياب النظيفة والانيقة وربطات العنق الجميلة بشكل مثير للاعجاب (2).
تتابع ايلين ذكرياتها وتقول: انها وجدت نفسها تلتصق "بعمو انطون" كلما سنحت الفرصة، وتروي انها تعرّفت بواسطة السيد يوسف العشي وزوجته على اولاد اختها ميشيل الله وسمعان الله وردي، وكانا يعملان في الصحافة ويقطنان في الحي نفسه، حيث كان سمعان يعمل مراسلاً لوكالتي رويتر واسوشيتد برس، وفي لقاء بينه وبين الاخوين الله وردي في الدار حول البحرة، سأل سمعان الله وردي انطون سعادة عن مهنته فأجابه بأنه صحفي..
سمعان: في اي جريدة؟
سعادة: جريدة الجريدة.
سمعان: الجريدة يجب ان يكون لها اسم!
سعادة: اسمها الجريدة.
لم يقتنع سمعان بكلام محدثه، لانه لم يكن يعلم ان هناك جريدة اسمها الجريدة، وتصدر في البرازيل، وظن انه يستخف بهما.
لم يكن الجوار يعرف الكثير عن سعادة، حيث لم يكن لديه الوقت الكافي للتعاطي مع الجيران، وكانت اسئلته تنصب حول الاستغراق في التفكير والتأمل، وكانت اسئلته تنصب حول صفات رجال الصحافة والسياسة وعناوينهم ومراكز عملهم، فهو قادم الى دمشق كي يعمل ويؤسس، وبذلك يتعرف تدريجياً على الاوساط الصحفية والسياسية الدمشقية. وقد كان سعادة ايضاً دائم التنقل بين لبنان ودمشق، ولذلك كان يتغيب عن الدار دونما سابق انذار او معرفة من احد، وفي احدى زياراته الى لبنان، طالت غيبته نسبياً عن دمشق، فاحتار اهل الحي، وخاصة اقرباء صاحب الدار آل الله وردي، الذي تسرب الشك الى نفوسهم، واقنعوا صاحب الدار بضرورة اخبار مخفر الشرطة.... ودعاهم لتفتيش غرفة سعادة، ولما لم يجدوا شيئاً الا البزات الجميلة والانيقة والثياب الشديدة النظافة وبعض الكتب والمجلات والرسائل، غادروا الغرفة. وعند عودة سعادة اخبروه بذلك، معتذرين له عما بدر منهم خلال غيابه.
وتقول ايلين ايضاً انه كان يقتني اسطوانات موسيقى وغناء ارجنتيني، وكان سكان الحي يستمتعون بسماعها (3).
خلال تعرفه على اجواء دمشق اتفق سعادة مع مدرسة " الجامعة العلمية " لصاحبها سليمان سعد على اعطاء دروس في اللغة الانكليزية، وفي اوائل عام 1931 ترك حي الخمارات وسكن في منزل قرب الصالحية، قرب مدرسة الجامعة العلمية في حي الشعلان (4) ليكون قريباً من عمله في المدرسة. سكن سعادة في الصالحية مع محمد روح غندور (انتمى الى الحزب وكان من اوائل الرفقاء)، واحمد غندور وجاك صادر (من الشوير)، وفي شهر ايار عام 1931 ترك التعليم ليعمل في الصحافة، وحلّ محله في تعليم اللغة الانكليزية للطلاب الاستاذ معروف صعب، واثر ذلك نشأت صداقة متينة بين الزعيم ومعروف صعب الذي اصبح لاحقاً اميناً في الحزب السوري القومي الاجتماعي (5).
ولذلك قصة جديرة بالذكر، فلقد امتنع طلاب مادة اللغة الانكليزية عن حضور الدروس حتى يعود استاذهم انطون سعادة، فاتصل الاستاذ معروف صعب بادارة المدرسة كي تعيد الاستاذ، فأجابت الادارة بأن سعادة هو الذي قرر ترك التدريس كي يعمل في الصحافة. حينها خاطب الاستاذ صعب تلاميذه مثنياً على محبتهم لأستاذهم الذي لا يعرفه شخصياً، لكن هذه المحبة تشجعه على الاقتداء به، ولذلك فهو سيعمل للحصول على محبتهم كما كان توصل سعادة الى ذلك.
هذا الكلام اوصله لسعادة احد طلابه، فبادر مباشرة الى الحضور، والتقى مع الاستاذ معروف صعب في الادارة، ونشأت بينهما صداقة متينة، ولازمه صعب، وانتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي.
في الصحافة
في هذه الفترة كان انطون سعاده قد وسّع تعرفه على الاوساط الصحفية والسياسية حيث كان قد نشر في جريدة القبس في العام 1930 مقالاً بعنوان: (المناطق الاجنبية المستقلة في سورية)، كما انه نشر في 18 ايار في جريدة الف باء الدمشقية رسالة الى لويد جورج مما يدل على انه اخذ يتبوأ مكانة مرموقة في الاوساط الصحفية والسياسية الدمشقية، وكانت الكتلة الوطنية قد قررت اصدار صحيفة يومية تنطق بلسانها وتدافع عن سياستها، فحصلت على ترخيص بإصدار جريدة يومية سياسية باسم "الايام" وعلى ترخيص آخر باسم جريدة "اليوم" حتى اذا عطلت السلطات الانتدابية "الايام" حلّت محلها "اليوم" ومنح الامتياز الى كل من هاشم الاتاسي. ابراهيم هنانو، جميل مردم بك، سعدالله الجابري، لطفي الحفار، فخري البارودي, وقد عهدت الكتلة الى عارف النكدي برئاسة التحرير والى الدكتور نجيب الارمنازي بسكرتارية التحرير، وتولى نصوح بابيل طبع الجريدة بعد ان نقل مطبعة بابيل اخوان من مكانها في العصرونية الى منزل آل العظم في شارع فؤاد الاول- ( مبنى المحافظة الان)- بعد ان اتفق مع الجهة المسؤولة في الكتلة على ان تشغل الالات الطابعة والعمال وادارة المطبعة الطابق الاول من الدار، وان يشغل الطابق الثاني قلم تحرير الجريدة، ويفرز قسم منه ليكون مقراً لاجتماعات قيادة الكتلة الوطنية.
وفي العاشر من شهر ايار 1931 صدر العدد الاول من جريدة الايام بثمانية صفحات وكانت تصدر مسائية (6).
تعرّف سعادة على رئيس تحرير الايام الاستاذ عارف النكدي الذي يقول: "جاءني ذات يوم شاب وسيم الطلعة، مشدود العضلات، يتكلم بتهذيب رفيع، يطلب مني عملاً له في الجريدة، سررت به، سررت لمجيئه طالباً عملاً مني مباشرة دون ان يتوسط احداً من النافذين كما هي العادة. فسألته عن الابواب التي يريد ان يتعاطاها في التحرير فرد علي بسرد سلسلة من الابواب والمواضيع من ضمنها الترجمة عن الانكليزية، ولما كان التحرير بحاجة الى من يعمل في حقل الترجمة اسندت إليه ترجمة رواية لإيدي ستانهوب فقبل وقبلت.." (7)
وانطلق سعادة في ميدان الصحافة، فكتب ونشر الى جانب الترجمة عدة مقالات في جريدة الايام.
• في العدد العاشر تاريخ 21/05/1931 نشر مقالاً بعنوان: "الولايات المتحدة تدعو اوروبا الى نزع السلاح وتتخذه شرطاً لتأمين السلام في العالم".
• في العدد 19 تاريخ 01/06/1931 نشر مقالاً بعنوان
:" خطة فرنسا المعارضة للاتفاق بين المانيا والنمسا" .
وكذلك مقالاً بعنوان:" رأي البلشفيك في العالم القديم" . وقد تم تعطيل جريدة الايام من قبل سلطات الانتداب في 9 تموز 1931 حيث صدرت جريدة اليوم كبديل عنها.
غاب انطون سعادة بعض الوقت خلال صيف 1931 حيث جاء الى لبنان، ثم عاد ليتابع عمله في جريدة "اليوم". واخذ يكثف من مقالاته السياسية حتى اصبح له تقريباً مقال يومي، وقد زاد عدد تلك المقالات عن خمسين مقالاً في الفترة ما بين الاول من تشرين الاول 1931 ونهاية العام.
يقول نصوح بابيل عن هذه الفترة:" كنا نلتقي يومياً تقريباً إما في المطبعة، او في مركز سبينز على شاي الساعة الخامسة، وكنا نناقش الآراء السياسية " .
كل ذلك يدل على ان سعادة تبوأ مكانة مرموقة في عالم الصحافة والسياسة في دمشق، ولا بد من دراسة مقالاته جميعاً بدقة واستهداف لمعرفة كيف توجّه ونما فكر سعادة بعد احتكاكه بالاوساط الدمشقية.
ان اهتمام سعادة بدمشق واهل الشام عموماً بعد تأسيسه الحزب عام 1932 واضح وجلي،.. بدلالة زياراته المتكررة بعد التأسيس لفروع الحزب في كافة المدن الشامية خاصة بين عامي 1937 و 1938 ومتابعته عمل المسؤولين وتوجيههم وارشادهم، وكذلك زياراته المكثفة بعد عودته من المهجر عام 1947 وبين عامي 1948-1949 فلم يترك مدينة إلا وزارها والقى فيها الخطب والمحاضرات والندوات، حيث عمّ الانتشار الحزبي.
كل ذلك يدل على استمرار النهج الذي بدأه سعادة من دمشق بعد عودته الاولى من الاغتراب في 30 تموز 1930 حتى استشهاده في 8 تموز 1949 حين دفع حياته ثمناً لقضية آمن ان محور بداياتها.. دمشق.
*
هوامش
(1) سُمي حي الخمارات لانه كان يجري فيه تخمير العرقسوس وهو شراب تشتهر به مدينة دمشق، وقد انتقلت صناعة تخمير العرقسوس لاحقاً الى كافة احياء دمشق واحتفظ الحي باسمه "حي الخمارات". وكان يقطن فيه العديد من المثقفين ورجال العلم والادب والقانون والاطباء والمحامين والمهندسين.
(2) ذكريات ايلين ديمتريادس "صور من الطفولة" مخطوط محفوظ لدى الامين فايز شهرستان.
(3) المرجع السابق
(4) انني اتذكر هذه المدرسة جيداً لانني انتسبت اليها لعامين دراسيين بين 1937-1939 وكانت بالقرب من منزلنا في الصالحية القريب جداً من شارع الشعلان حيث مقر المدرسة، علماً اننا في صيف 1939 انتقلنا الى حي الخمارات للسكن مع عائلة ديمتريادس كما اسلفنا، وكان زميلي في هذه المدرسة وعلى مقعد واحد الرفيق الصيدلي سامي الوف.
(5) جبران جريج. انطون سعادة 1904-1932، مؤسسة فكر للابحاث والنشر بيروت 1982 ص:118 وما بعدها.
(6) نصوح بابيل. صحافة وسياسة "سورية في القرن العشرين" رياض الريس للكتب والنشر لندن 1987 ص:62.
(7) جبران جريج مرجع سابق ص: 123
|