إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

التاسيس بين سايكس-بيكو السياسية والاجتماعية

راجي سعد

نسخة للطباعة 2018-12-05

إقرأ ايضاً


أتت ذكرى تاسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي 86 هذا العام وامتنا ما زالت تصارع التنانين التي تاتيها من كل حدب وصوب وتنهش ما تبقى من لحمها بعد تاسيس بلفور لوعده وسايكس وبيكو لتفسيماتهم السياسية. هذه التنانين اليوم تجدد اساليبها للقتل والبطش والتفتيت فلا تكتفي بسايكس بيكو السياسية في 1916 التي وصلت الى اهدافها بقيام كيان عنصري لأتباع الديانة اليهودية في فلسطين وطرد وتشريد الشعب الذي عاش على هذه الارض منذ بدء التاريخ الجلي، فتسعى الى تثبيت هذه الكيان شرعيا وقانونيا واحكام سيطرته الاقتصادية والسياسية على سوراقيا من الفرات الى النيل. المتآمرون الجدد يحاولون الوصول الى اهدافهم عبى خلق سايكس-بيكو جديدة تفصل وتفرز كل الطوائف والاديان والاعراق وتحولها الى "قوميات" لها كياناتها العنصرية المتناحرة في ما بينها. هذا المشروع الصهيوني القديم الذي تتبناه اميركا وحلفاؤها الاوروبيين ولا يبدو ان روسيا تعارضه بدأ تنفيذه في سوراقيا منذ الحرب الاهلية اللبنانية وينفذ بخطوات ثابتة ومتسارعة منذ الغزو الاميركي للعراق وعلى مراحل من دون اي مقاومة فعلية قادرة على ايقافه. نستطيع ان نجزأ تنفيد هذا المشروع الى ثلاثة مراحل كما يلي:

1. المرحلة الاولى هي مرحلة اضعاف الدول السوراقية من دون المس بحدودها السايكس-بيكوية من خلال فرض نظام عنوانه "الديمقراطية-التوافقية" ومضمونه الفيدرالية يكون فيها الجيش الفدرالي ضعيفا والرئيس صوري والسلطة سلطات موزعة على الطوائف والاعراق.

2. المرحلة الثانية هي مرحلة انهاك وتفتيت الدول السايكس-بيكوية عبر تفجيرها داخليا وتآكلها البطيئ لكي تصبح دول فاشلة بالكامل.

3. المرحلة الثالثة هي مرحلة الغاء الدول السايكس-بيكوية واستبدالها بدول طائفية عرقية رديفة للصهيونية، او بالاحرى خلق سايكس-بيكو "متجددة" لكن اكثر فتكا واجراما.

الخطوة العملية الاولى لهذا النظام "الديمقراطي-التوافقي" ولدت في لبنان من خلال اتفاق الطائف الذي، بالاضافة الى تطييف السياسة، طيف المجتمع الذي فرزته الحرب الاهلية، والخطوة الثانية تبرعمت بعد الغزو الاميركي للعراق وفرض نظام المحاصصة العرقي-الطائفي الذي افرز ثلاث فدراليات غير معلنة، والخطوة الثالثة بدأت مع ما سمي ب"الربيع العربي" الذي ادى الى حرب ضروس على سوريا استغلت فيها الثغرات والنعرات الطائفية والفساد الداخلي فمولت ودعمت الجماعات الدينية السنية لل"ثورة" على النظام الشبه-علماني. ها هم مؤسسي وداعمي هذه "الثورة" يسعون اليوم للوصول الى اهدافهم في "وضع ترتيب لتقاسم السلطة بين المجموعات السكانية المختلفة على غرار المؤسسات التعددية في لبنان المجاور"، كما اعلن هنري كيسنجر في 2012، من خلال منع الجيش السوري من فرض سيطرته على ادلب التي يسيطر عليها الجماعات التكفيرية السنية والشمال الشرقي الذي يسيطر علية الانفصاليون الكردستانيين والشمال الغربي الذي تحتله تركيا وبذلك فرض تسوية ودستور جديد على الحكومة السورية يصنع في سوتشي او اسطنبول او جنيف. اذا نجحت اميركا وروسيا بفرض هذه التسوية الفدرالية على سوريا فبذلك تكون المرحلة الاولى قد تمت بنجاح وابتدا العد العكسي لمرحلة تفتيت سوريا لكي تصبح فاشلة بالكامل.

المرحلة الثانية، اي مرحلة الدول الفاشلة، بدأت في العراق ولبنان وتستعمل فيها عدة وسائل اقنصادية ونفسية "وارهابية" ففي العراق احدى الاسلحة المستخدمة هو سلاح المياه فامام سلب تركيا لمياه دجلة عبر سد اليسو وغيره سيعاني الجنوب "الشيعي" من شح خطير للمياه بينما الشمال "الكردستاني" يبني السدود على روافد دجلة و"يقطع" ما تبقى من مياه دجلة عن الوسط والجنوب. الاسلحة الاخرى التي تستعمل هو الفساد المستشري في الدولة وتدهور الوضع الاقتصادي واعطاء امتيازات سياسية واقتصادية لبعض المجموعات كالاكراد. في سوريا لن يكون الوضع اقضل حالا من لبنان والعراق اذا قام النظام الفدرالي فيها فستبدأ النزاعات على تقاسم المغانم وسيستشري الفساد والشعور بالغبن بين كل عرق وطائفة وسيترافق مع تدخل خارجي يؤجج الصراع الطائفي والمذهبي.

كل هذه العوامل ستكون ارض خصبة للانفصاليين والتكفيريين وغيرهم لاعلان "استقلالهم" او "خلافتهم" وستؤدي في النهاية الى الدخول في المرحلة الثالثة وهي مرحلة انشاء الدول الانفصالية العنصرية الصهيونية والارجح ان الخطوة الاولى ستكون في اعلان دولة كردستان في شمال العراق وانضمام محافظة الحسكة السورية اليها وتتبعها دولة شيعية عربية في البصرة وربما الاحواز ودولة سنية في بغداد قد "تتوحد" مع دولة سنية في حلب ووادي الفرات ودول سنية اخرى في الاردن وسيناء بعد تمرير صفقة القرن ودول درزية ومسيحية وعلوية في الغرب الساحلي اللبناني السوري.

قد تختلف التقسيمات النهائية حسب التطورات الميدانية واعتبارات اخرى لكن النتيجة لن تختلف بمدى ويلاتها على الشعب السوراقي. ان سايكس-بيكو-2 الاجتماعية الجديدة والقوميات الجديدة السنية والشيعية والمسيحية والدرزية والعلوية والكردية ستكون الاوكسيجين الذي سيغذي القومية اليهودية على الاستمرار والسيطرة على "ارض اسرائيل" من الفرات الى النيل عبر الهيمنة الاقتصادية واشعال الحروب المستمرة بين هذه "القوميات".

السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو هل بالامكان مواجهة هذه المشروع التدميري بعد ان حقق انجازات كبيرة لا يستهان بها. ان انطون سعاده هو اول من حذر من خطر الحزبية الدينية على مصير الامة وكيف ستجر هذه العصبية الدينية الى ويلات كبيرة ستستغلها الصهيونية لصالحها. في مقال له في 1921 بعنوان "السوريون والاستقلال" كتب سعاده "ولقد سبَّبَتْ التعصبات الدينية في سوريا معضلةً هي أشبهُ شيءٍ بالمعضلة البلقانية من المنازعات والانقسامات الوخيمة العواقب. والمعضلة السورية هي معضلات عدة، لا تلتئمُ مع مصلحة أمة تريدُ النهوضَ إلى مستوى الأمم الحية قط. ... وكلُّ هذه المعضلات منحصرة في معضلة واحدة، فإذا لم يبادر السوريون إلى حلها، قبل أن يتفاقم شرُّها، جَرَّتْ عليهم ويلات لا تُعدُّ ولا تُحصى. وإحدى هذه الويلات، الآخذة في الحلول في الأراضي السورية، هي الصهيونية" (الأعمال الكاملة. المجلد الأول 1921 - 1934).

عندما أسس الحزب السوري القومي الاجتماعي في 1932 وضع سعاده نصب اعينه مواجهة الحزبية الدينية وويلاتها بانشاء قومية مجتمعية علمية متجددة نعيد الحياة الى المجتمع الواحد فتدفع الويل الصهيوني عنه وتتخلص من سيطرة الأجانب عليه، فيعمل السوريون متّحدين لفلاح ونهضة هذه الامة. للاسف لم يسمع الشعب السوري او لم يُسمح له ان يسمع نداء سعاده الذي اغتالوه في بيروت في 1949 قبل تاسيس مجتمعه القومي في لبنان والشام وارسال جيشه القومي لتحرير فلسطين. الحزب بعد سعاده ورغم التضحيات الجسام أخذ يفقد وهجه تدريجيا، وساهمت العوامل الداخلية مع عوامل خارجية لا يستهان بها الى تهميش دوره في لبنان والشام والغائه في فلسطين وعدم تمكنه من دخول العراق.

ان فشل الحزب في مواجهة سايكس-بيكو-1 السياسية بعد غياب القائد هو دليل حتمي بانه سيفشل في مواجهة سايكس-بيكو-2 الاجتماعية الاشد خطورة وفتكا بالامة اذا لم يقم لاعادة تقييم دوره جذريا على كل المستويات. الذي يظن انه يستطيع ان يمارس الاعمال ذاتها بالاسلوب ذاته ويتوقع نتائج افضل فهو لا يستعمل عقله شرعا اعلى له ولا المعرفة دستورا له.

إن حال الحزب اليوم شبيهة برواية النسر عندما وصل الى منتصف عمره فاصبح منقاره معكوفا اكثر واصبحت مغالبه لينة وبالكاد يستطيع ان ينتزع الفريسة وفقد رشاقته لثقل وزنه وكثافة ريشه. في هذه الحالة تحتم على النسر ان يختار بين خيارين: اما الاستسلام للموت البطيء او ان يدخل في عملية تغيير وتجدد مؤلمة وطويلة تعيد اليه حيوته ونشاطه.

بدأ النسر رحلة الانبعاث باستجماع قواه والصعود الى قمة الجبل ومن ثم نتف ريشه وضرب منقاره على الصخر حتى انكسر وغرس اظافره في الاغصان الى ان اقتلعت. مر النسر بعد ذلك في مرحلة مؤلمة تحمل فيها الالم والجوع الى ان نمى ريشه ومنقاره واظافره فبدا رحلة طيران متجددة معلنا ولادة جديدة لنسر ظن اعداؤه انه انقرض.

على الحزب السوري القومي الاجتماعي ان يحول هذه الرواية الى حقيقة فيعيد تجديد نفسه بالتمسك بالاسس والمبادئ والغاية، ولكن باعادة تقييم نظام النهج والشكل الذي اثبت عدم فعاليته او فشله. ان مسيرة التجدد في الحزب يجب ان تشمل كل دورة الحياة الحزبية من ادارية وتنظيمية وثقافية واعلامية لمخاطبة العقول والقلوب والوصول الى الشعب. لا يعقل لحاملي رسالة التجدد والخلق والابداع في امتنا ان لا يتفاعلوا مع متغيرات العصر فيجمدوا عقولهم ولا يطوروا اساليب العمل لمجاراة العصر.

اذا كانت الامة السوراقية بين الحياة والموت كما وصفها سعاده في الثلاثينات من القرن الماضي فالامة اليوم على فراش الاحتضار، واذا لم نواجه سايكس-بيكو الجديدة ببعث وتجدد قومي معاكس له، مستعملين لذلك كل الوسائل العقلية والروحية والمعرفية العصرية للانقاذ، فسيكون مصير الامة المصغرة والطبيعية الفشل والزوال.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024