إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

استشهاد سعاده: من نكبة فلسطين الى نكبة أمة

راجي سعد

نسخة للطباعة 2014-07-16

إقرأ ايضاً


"رغماً من أن الحركة الصهيونية غير دائرة على محور طبيعي، تقدمت هذه الحركة تقدماً لا يستهان به. فإجراءاتها سائرة على خطة نظامية دقيقة، وإذا لم تقم في وجهها خطة نظامية أخرى معاكسة لها كان نصيبها النجاح". بهذا الاستشراف المبكر في العام 1925، وضع ابن الواحدة والعشرون من العمر يده على الداء فابتدا أنطون سعاده مسيرته النضالية الحافلة في ايجاد الدواء فكرا ونهجا وممارسة. لوضع الخطة المعاكسة كان سؤاله الاول من نحن وعندما استنتج الجواب بعد بحثه العلمي في كيفية نشوء الامم، بدأ يسأل عن الاسباب التي جلبت علينا كل هذا الويل وهل نحن شعب او أمة جدير بالحياة. في 1932 اكتملت نسبيا اجوبته على هذه الاسئلة فاسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اعلن فيه اننا شعب وامة واحدة لاننا مجتمع واحد متواصل الحياة وتربطه روابط اقتصادية وثقافية ونفسية واحدة ومصالح مشتركة من سيناء الى فلسطين والاردن صعودا الى لبنان ودمشق وحلب والاسكندرون وشرقا الى الموصل وديار بكر وجنوبا نحو بغداد والبصرة والاحواز. هذه البيئة المميزة التي اتتها الغزوات من كل حدب وصوب وجوفتها الصحراء بشكل هلال، لم تنهزم ولم تجف ارادة الحياة في شعبها رغم الويلات والمآسي التي مرت وتمر بها.

بعد اغتراب قسري عن الوطن في اميركا الجنوبية، عاد الزعيم الى الوطن في آذار 1947 ليجد نفسه في نزاع غير متوازن مع المشروع الصهيوني الذي يضع اللمسات الاخيرة لتاسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. أعاد حزبه الى الطريق الصحيح فاستاصل بذور الكيانية منه واعتبر ان المسالة الفلسطينية هي مسالة لبنانية في الصميم وشامية وعراقية في الصميم. اعلن ان الحزبية الدينية هي لعنة الامة لانها تخدم اهداف العنصرية الصهيونية التي تنمو وتزدهر بعنصريات مماثلة لها ولو اختلفت الديانة. كانت نهضة امته هدفه الاول والاخير وراى ان الخطر الصهيوني هو خطر وجودي يتهددها ويجب مواجهته اولا بالاخاء القومي الذي يفصل كل ما هو سياسي عن الديني ويزيل الحواجز بين مختلف مكونات الامة من طوائف واعراق ليوحدها نفسيا وسياسيا.

لم يهادنه الاقطاع الديني والسياسي والطائفي في لبنان واعتبره خطرا وجوديا عليه. كان على راس هؤلاء البطركية المارونية التي كانت قد اسست علاقات وطيدة مع الحركة الصهيونية سعيا لاقامة وطن مسيحي في لبنان، تُوجت باتفاق بين البطريرك عريضة ممثلا البطركية المارونية وحاييم وايزمان رئيس الوكالة اليهودية في 30 آذار 1946 على التعاون وعلى تاكيد البطركية دعمها لهجرة اليهود الى فلسطين واقامة دولة يهودية فيها وعلى تاكيد الوكالة على الطابع المسيحي للبنان. القوى والطوائف الاخرى رات ايضا في سعاده تهديدا لمصالحها وسلطتها فرجال الدين وخاصة المسلمين رفضوا دعوته للفصل بين الدين والدولة ورجال الاقطاع السياسي راوا فيه تهديدا مباشرا لزعاماتهم بعد ان استطاع حزبه ان يخرق كل المجتمعات المغلقة الموالية لهذا الاقطاعي او ذاك. كان على راس هؤلاء الزعماء رئيس وزراء لبنان رياض الصلح الذي "تخل عن الوحدة السورية من اجل منصب في بيروت" كما قال عنه ابن عمه سامي الصلح والذي، بعد تاسيس دولة اسرائيل في ايار 1948، قام بستة لقاءات سرية مع مدير قسم الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاسرائيلية، الياهو ساسون، في باريس في أواخر 1948. رغم تناقضاتهم، اجتمع كل اركان الدولة اللبنانية وخاضوا حربا داخلية ضروس ضد سعاده منذ رجوعه الى الوطن، تصاعدت منهجيا وادت الى مهاجمة كل مراكز حزبه وتدبير هجوم الكتائب على مطبعة الحزب في الجميزة مما دفعه الى اللجوء الى دمشق في حزيران 1949. قبل اجتماع زعيم الانقلاب المدبر اميركيا في الشام بسعاده في 15 حزيران مساء، كان حسني الزعيم قد اجتمع صباحا مع وزير الخارجية الاسرائيلي موشيه شاريت التي حثه على دفع انطون سعاده لاعلان الثورة (مقابلة ضابط المخابرات سامي جمعة الذي حضر الاجتماع، المحرر، العدد 200، تموز 1999). امام وعد حسني الزعيم بدعمه وتزويده بالسلاح وكل ما يلزمه وحملة الدولة اللبنانية الشعواء على الحزب، اعلن سعاده الثورة في 4 تموز فما كان من حسني الزعيم الا ان غدر به وسلمه الى السلطات اللبنانية في 7 تموز. بعد محاكمته صوريا بارك رئيس الجمهورية بشارة الخوري المقرب جدا من البطركية المارونية ورياض الصلح رئيس الوزراء مرسوم اعدامه فنفذ في فجر 8 تموز 1949. بعد هذا الاعدام الذي ربما هو الاسرع في التاريخ جرى تعاطف شعبي مع حزب سعاده في الشام ولبنان واصبح من اهم القوى الفاعلة في الجيش السوري الى ان دُبرت مؤامرة قتل عدنان المالكي فزُج بالقوميين في السجون وانتهى بذلك اي وجود فعال للحزب في الشام.

خلال هذه الفترة وبعد قيام دولة اسرائيل استمرت الحركة الصهيونية في التخطيط البعيد المدى لايجاد صيغة تصبح فيها الدولة اليهودية جزءا لا يتجزا من نسيج المنطقة الاجتماعي يضمن لها الاستمرارية والشرعية. اول من كشف عن هذه الخطط كان الصحفي الهندي كرانجيا في كتابه بعنوان "خنجر اسرائيل" في 1957 الذي تضمن وثيقة سرية صهيونية عن خطة تقضي بتقسيم سوريا الى ثلاث دويلات درزية وعلوية سنية وتقسيم لبنان الى دولتين مارونية وشيعية وتقسيم العراق الى دولة كردية ودولة عربية والحاق المنطقة الجنوبية بشاه ايران. وثيقة اخرى نشرت في مجلة "كيفونيم" فى عام 1982 التى تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية بعنوان استراتيجية اسرائيلية للثمانينات دعت ايضا الى تقسيم العراق وتقسيم لبنان الى دويلات طائفية وفصل جنوب السودان. بعد الغزو الاميركي للعراق وبعد ان نضجت المخططات، نشر الصحافي رالف بيترز المقرب جدا من وزارة الدفاع الاميركية في 2006 خريطة "حدود الدم" التي اظهرت المشروع الاميركي الصهيوني لتقسيم المنطقة الى دولة كردية، وشيعية، وسنية عراقية تشمل الجزيرة الفراتية، وسنية سورية تشمل دمشق وحلب وكونفدرالية اقلوية في لبنان "الاكبر" على الساحل تضم فيدراليات شبه مستقلة درزية ومسيحية وعلوية وغيرها.

هذه الخطط الصهيونية الطويلة المدى نفذت على مراحل. المرحلة الاولى يمكن تسميتها بزرع البيئة الحاضنة للفتنة. بعد صراع على السلطة وانقلابات عديدة لم تكن المخابرات الاميركية وغيرها بعيدة عن معظمها، وصل حزب البعث العلماني المبادئ الى الحكم في سوريا والعراق وعلى راسه في السبعينات قائد من الاقلية العلوية في سوريا وقائد من الاقلية السنية في العراق. هذا الواقع بالاضافة الى استعانة الحكم الجديد بحاشيته المقربة وقبيلته وطائفته لحماية النظام، سهل للقوى المعادية استغلال مشاعر الاكثرية "المغبونة" وتاجيجها لخلق صراع مذهبي في كل منهما لاستغلاله في الوقت المناسب. في 1975 اندلعت الحرب الاهلية في لبنان التي ما لبثت ان تحولت الى حرب طائفية تاججت بعد الغزو الاسرائيلي في 1982 وادت الى مذابح وفرز طائفي في معظم المناطق فاصبح لبنان بعد اتفاق الطائف "المرحلي" جاهز لنظام الفيدراليات عندما يحين الوقت المناسب. في 1979 انتصرت الثورة الاسلامية الايرانية وقضت على حكم الشاه الذي لم يلقى اي مساعدة تذكر من حلفائه في الغرب. رغم ان هذا الانتصار حول ايران الى دولة معادية لاسرائيل الا ان وجودها كدولة شيعية زرع الرعب في الممالك السنية الخليجية، فشجعوا ومولوا العراق على خوض حرب استنزاف خلقت صراع سني-شيعي اقليمي مرير وانهكت البلدين، وكان لكيسنجر ما اراد عندما دعى الى هزيمة البلدين. هذه الثورة تمددت في الثمانينات فاسست حركات شيعية موالية لها في المشرق والجزيرة العربية تحت مسمى "حزب الله" وكان اهمها في لبنان. في أواخر الثمانينات انتصرت ثورة اسلامية اخرى سنية اصولية بقيادة بن لادن في افغانستان عندما طردت الروس من افغانستان بمساعدة اميركا والغرب، وبرزت حركة حماس في فلسطين بعد ان سهل لها الاسرائيليون التمويل ليس غراما بها بل لكي يخلقوا نزاع داخلى فلسطيني مع منظمة التحرير.

بعد الحرب الايرانية العراقية وأمام صعود التيارات الاسلامية الشيعية والسنية المعادية لبعضها البعض ايديولوحيا، اصبحت المنطقة جاهزة لمرحلة "الفوضى الموجهة" او مرحلة الدول الفاشلة تحت مسميات "الديمقراطية التوافقية" و"التعددية" وما شابه وذلك تمهيدا لتقسيمها الى النظام الشرق-أوسطي الجديد او سايكس-بيكو-2. في انتخابات 2000 الاميركية وصل جورج بوش المسيحي الصهيوني الى سدة الرئاسة ووصل معه مجموعة "المشروع من اجل قرن اميركي جديد" امثال ديك تشيني ورونالد رمسفيلد وبول وولفوبتس ورتشارد بارل من الصهاينة الذين شجعوا وعملوا على غزو العراق. بعد تدمير "البرجين التوأمين" في نيويورك واتهام بن لادن بتنفيذ الهجوم، استطاعت هذه المجموعة ان تُسيّر الادارة الاميركية على غزو العراق لخلق الفوضى الموجهة فيه تمهيدا لتقسيمه الى ثلاث دول كردية وسنية وشيعة. تبع ذلك تفجير سوريا داخليا تحت عناوين الديمقراطية والتعددية التي خدرت الراي العام "الوطني" واقتادت بعضه للسير في الخطة الاميركية الصهيونية لتقسيم سوريا.

امام هذه الواقع النكبوي لم يبقى من يدافع عن وحدة سوريا والعراق ويمنع الصهيونية من الوصول الى المراحل التقسيمية النهائية من خططها الا مؤسسة الجيش في كل منهما رغم تعرضها لحملات شعواء لتطييفها واعتبارها تمثل احد الطوائف. الجيش السوري استطاع ان يحافظ على وحدته ولم يسمح بفصل الساحل عن دمشق او حلب وحصل على ثقة ودعم الشعب بانتخابه الرئيس الاسد بنسبة كبيرة. الامر اختلف في العراق فالنظام السياسي "الديمقراطي التوافقي" الذي اسسته اميركا والذي اعطى حكم ذاتي وامتيازات كثيرة للاكراد وبعض الامتيازات للشيعة وجعل الاقلية السنية تشعر بالقهر والغبن، مهد لتقسيم العراق نفسيا وسياسيا وانعكس ذلك على مؤسسة الجيش الفتية. رغم ضعف الجيش فهو يبقى الامل الوحيد للحفاظ على وحدة العراق الهشة.

دفاع الجيشين عن وحدة البلدين كل على حدى لا يكفي ايضا، فامام تداخل وترابط المجتمع على ضفاف الفرات ودجلة في سوريا والعراق ووجود داعش والبشمركة الكردية في كلا البلدين، لا خيار امام الجيشين السوري والعراقي الا ان ينسقا ويوحدا جهودهما بجدية لمواجهة مشاريع الانفصال والتقسيم. بموازاة ذلك، ولكي يكتب لاي عمل عسكري النجاح، يجب ان تواكبه عملية سياسية تُأسس لتحالف جبهوي واسع يضم اطراف كردية وسنية وشيعية وغيرها تُأمن بوحدة سوريا والعراق من كل اقطار الهلال الخصيب لمواجهة التجييش الطائفي والعرقي والتاكيد على قومية المعركة.

عندما حذر سعادة في 1925 من الخطر الصهيوني لم نكترث الى ما يقوله، وعندما اعلن ان الحزبية الدينية هي لعنة الامة لعناه واعتبرناه ملحد وعدو للدين، وعندما اعتبر ان المسالة الفلسطينية هي مسالة تعني كل شامي ولبناني وعراقي في الصميم اعتبرناه يبالغ في تشخيص الخطر الصهيوني. اليوم وبعد 65 سنة على غيابه وبعد ان اعتبرت الصهيونية ان الحزبية الدينية هي نعمة النعم وبالغت في استعمالها الى اقصى الحدود لتشريع وجودها وسلبها لفلسطين وتحويلنا الى قطعان بشرية هائجة تتقاتل على سماء آخرية وهمية فتخسر الارض والسماء معا، لن يوقف نكبة هذه الامة السورية-العراقية الا تبني الحد الادنى من الذي دعى اليه سعاده من أخاء وتضامن قومي.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024