إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الهرولة الى تركيا ... بدون ماء

راجي سعد

نسخة للطباعة 2009-11-23

إقرأ ايضاً


"يا دار هلّي وافرحي برجوع كامل للحمى". بهذه العبارات عبر جدي عن فرحته بالمولود الجديد لاحد الاصدقاء الذي تشبه ملامحه ملامح جده الراحل كامل. بعبارات شبيهة هللت حكومتا سوريا والعراق والصحافة العربية في تشرين الأول الماضي بعودة السلطان رجب طيب اوردغان على صهوة جواده الى عاصمة الخلافة العباسية واجتياز حاشيته حدود عاصمة الخلافة الاموية من دون تاشيرة, مبشرين العاصمتين بالخير والازدهار وموقعين اتفاقات ترمي الى زيادة التبادل التجاري اربعة اضعاف عن مستواه الحالي.

في اقل من اسبوع وقعت تركيا مع سوريا والعراق عدة اتفاقات قربت سوريا منها بتاسيس مجلس استراتيجي والغاء تاشيرات الدخول بين البلدين, وعمقت علاقاتها الاقتصادية مع العراق بتوقيع اتفاقات من المتوقع ان تزيد التبادل التجاري بين البلدين من 5 مليار الى 20 مليار في السنوات القادمة. اهم هذه الاتفاقات هو تصدير الغاز العراقي, الموجود في معظمه في مناطق ذات اكثرية كردية في شمال العراق, الى اوروبا عبر تركيا ضمن خط أنابيب نابوكو (الاسم نسبة الى نبوخذ نصر) المبارك أميركيا والمحارب روسيا لمنافسته الغاز الروسي الذي يتخطى تركيا ويصل أوروبا عبر البحر الأسود ضمن خط أنابيب "سوث ستريم".

الغائب الحاضر عن هذه الاتفاقات كان موضوع المياه. اكثر من 40 اتفاقية مع العراق لم تتضمن اي منها اتفاق مائي شامل يضمن للعراق حصته من نهري دجلة والفرات. عندما سئل أوردغان عن الموضوع خلال المؤتمر الصحفي مع المالكي في 15 تشرين الاول تجنب الجواب بالقول ان "بعض الصعوبات والازمات التي تتعلق بالمياه تتطلب تفاهماً بين العراق وتركيا وسوريا في هذا المجال". وعندما اثار اياد السامرائي, رئيس مجلس النواب, الموضوع معه ابدى" تفهمه لازمة المياه في العراق" واكد ان "معدل تدفق نهر دجلة خلال الشهرين الماضيين هو نحو 550 م3 في الثانية". وزير الموارد المائية العراقي والقيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني, عبد اللطيف رشيد, أوضح هذه التصريحات بقوله ان الجانب التركي طلب المزيد من الوقت قبل اقرار اتفاقية مائية متكاملة مع العراق مشيرا الى ان تركيا ذكرت ان المفاوضات مع روسيا أخذت 25 عاما قبل التوصل الى اتفاقية. كل هذا يدل على عدم وجود نية تركية لتوقيع اتفاق مائي بعيد المدى مع سوريا والعراق كما وقعت مع روسيا واليونان في السابق, والذي يزيد الشكوك في النيات التركية هي استمرارهم في العمل في مشروع سد اليسو الضخم, الذي دشنه أوردغان في آب 2006 على دجلة, دون التنسيق مع سوريا والعراق حسب ما يقضي القانون الدولي.

ازمة المياه في سوريا والعراق, التي يتفهمها أوردغان, تبدو جلية اليوم بانخفاض منسوب مياه الفرات الى 42 بالمئة ومياه دجلة الى 55 بالمئة عن معدلهما الاجمالي الذي كان يصل الى العراق. خلال الصيف الماضي, هددت المجاعة 300 الف سوري على حوض الفرات بسبب قلة الامطار ونضب مياه الفرات, ففقدوا اراضيهم الزراعية ونزح قسم كبير منهم الى دمشق ومدن الساحل بحثا عن العمل. سكان حوض الفرات في الشرق واجهوا مصير مماثل فهجر سكان قريتين قرب شط العرب بيوتهم لانعدام مياه الشرب وهجر آلاف آخرون ارزاقهم على طول النهر الى المدن. النتائج الاقتصادية كارثية فالعراق لن يستطع تامين اكثر من 40 بالمئة من احتياجاته الزراعية هذا العام, حسب مدير التخطيط في وزارة الزراعة, صلاح عزيز. هذه الازمة ستزداد حدة بعد اكمال تركيا مشروع اليسو على دجلة في 2013, الذي سيحجب المياه كليا عن شمال العراق خلال اشهر الصيف عندما يكون بامس الحاجة اليها وسيؤمن لتركيا السيطرة على نسبة 35 بالمئة من مياه دجلة "المصدرة" الى دول المصب. عندئذ لن يستطيع العراق ولا سوريا تامين احتياجاتهما وستهب تركيا لانقاذهما فتصدر منتوجاتها الزراعية المروية من دجلة والفرات اليهما.

ان سياسة السيطرة على ثروة العراق المائية والغذائية استراتيجية تركيا ثابتة بعنوان "النفط للعرب والمياه لتركيا" وتساهم فيها ايران والولايات المتحدة ايضا. بعد الغزوالاميركي للعراق, اوقف الاميركيون الدعم الحكومي عن الزراعة وازالوا الرسوم الجمركية, فادى ذلك ان افلاس قسم كبير من المزارعين وترك ارزاقهم والهجرة الى ازقة المدن, فكانت النتيجة ان بلغ استيراد القمح والارز اكثر من مليار دولار من الولايات المتحدة كل عام. كذلك عندما حولت ايران نهري الكارون والكرخ عن شط العرب نحو الداخل الايراني, هبت لانقاذ العراق فبدات بتصدير مياه الشرب للبصرة بالسفن في اواخر أيلول الماضي. انها اكبر عملية نهب وسلب تتعرض لها امة وشعب في القرن الواحد والعشرين وجذورها تعود الى بداية القرن العشرين.

ان اخطر ما نتج عن معاهدة سايكس بيكو وتوابعها في اوائل القرن الماضي ليس التقسيمات السياسية للمشرق السوري العراقي فحسب, بل الاهم من ذلك هو فقدان سيطرة هذة الامة على مواردها المائية على دجلة والفرات وروافدهما. ان 95 بالمئة من مياة الفرات و70 بالمئة من مياه دجلة تنبع من خارج الحدود التي رسمها سايكس الانكليزي وبيكو الفرنسي لامتنا. أن رسم الحدود السورية والعراقية على منحدرات جبال طوروس وزغروس بدل اعالي هذه الجبال, كما ترسم الحدود الدولية عادة, افقد البلدان السيطرة على دجلة والفرات وروافدهما واصبحا تحت رحمة تركيا وايران.

رغم هذا الظلم التاريخي فهذا لا يبررعدم دفاع حكوماتنا الجدي اليوم عن الامن المائي وسعيها للربح السريع من الغاز والبترول. ان الصراع العبثي على بترول وغاز كركوك, الذي سينضب خلال خمسين سنة, ومصلحة اقليم كردستان واميركا في تصدير الغاز عبر خط نابوكو جعل كل الفرقاء بحاجة لدعم او رضى تركيا, فشلت قدراتهم على مواجهتها والدفاع عن الامن المائي. سوريا من جهتها وبغياب تفاهم مع العراق وبوجود وعود بتصدير الغاز القطري عبرها الى خط نابوكو ولاولية صراعها الوجودي مع اسرائيل, انفتحت على تركيا ففكت الطوق الاميركي عنها وساعدت ايضا على زعزعة التحالف الاستراتيجي التركي-الاسرائيلي, لكن يبدو ان هذا سيكون على حساب الامن المائي.

ان توقيع الاتفاقات الاقتصادية الكبيرة كخط نابوكو والهرولة الى أنقرة في كل المجالات بدون التوصل الى اتفاق مائي بعيد المدى افقد العراق وسوريا اهم اوراق الضغط لديهما. ان هذه الاتفاقات توحي للعالم ان دول المصب لا تعترض على المشاريع المائية التركية على دجلة والفرات وتعطيها غطاء شرعي للاستشمار في المشاريع الخطيرة المتبقية على دجلة كسد اليسو وسيزر وغيرهم. ان النظرية التي تقول ان التعاون او بالاحرى تقديم التنازلات سيدفع تركيا في ما بعد الى اعطاء العراق وسوريا حقوقها لم تثبت تاريخيا بعد, فالقوة دائما كانت "القول الفصل في تثبيت الحق القومي او انكاره" وخسارة الامة عوامل قوتها لن ينزل عليها الرحمة والشفقة من أحد. آخر شاهد على ذلك هو اتفاق اوسلو الذي لم يِؤدي الى استرداد الفلسطينيين اي من حقوقهم السليبة بل زاد احوالهم سوءا.

كم ستكون فرحة نبوخذ نصر وشعبه كبيرة لو ان اسمه اطلق على خطوط تواصل تعانقت فيها عاصمتا الخلافة العربية, فعمقا العلاقات الاقتصادية وفتحا المعابر وفاوضا كجسم واحد في موضوع المياه, بدل التجريح المتبادل وسحب السفراء. ان المشرق السوري- العراقي مهدد بوجوده في هذا القرن اذا خسرنا المياه, فبعد انتهاء تركيا من مشاريعها ستصبح لقمة العيش لاكثر من 5 مليون مهددة ومدننا لن تسطتيع ان تستوعب هجرة هؤلاء من اراضيهم. في خلال تاريخها استطاعت امتنا المشرقية ان تواجه الغزوات المتتالية وتستوعبها لكن الغزو اليوم من نوع آخر فهو يهجر شعبنا ويستوطن مكانه في فلسطين, ويهجر شعبنا ويوطن الصحراء مكانه في العراق والجزيرة السورية, فيا معتصماه ... ويا سرجوناه.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024