رفقاء الخمسينات عرفوا جيداً الرفيق جوزف نصر، كما عرفوا شقيقته ماغي(1) التي، وإن لم تنتمِ الى الحزب، إنما كانت الى جانبه في سنوات النضال، خاصةً في السنوات التي أعقبت الثورة الانقلابية. فقد كانت مع المئات من الرفيقات، والمواطنات، من أمهات وشقيقات وزوجات الرفقاء الأسرى، تتحرك وتضرب عن الطعام، وتعتصم وتواجه أعقاب بنادق قوى الأمن الداخلي، وترفع صوتها متحديةً، جسورة.
وفاته:
وافت المنية الرفيق جوزف نصر صباح الثلاثاء 11 كانون التاني 2007. نقل جثمانه الى مسقط رأسه حمانا، وأقيمت الصلاة لراحة نفسه الساعة الثانية من بعد ظهر الخميس 13 كانون الأول في كاتدرائية مار الياس – حمانا. ويومي الجمعة والسبت تقبلت عائلته التعازي برحيله في كاتدرائية مار نقولا- الاشرفية.
*
فرادة جوزف نصر
نشر نائب رئيس الحزب في حينه الأمين محمود عبد الخالق الكلمة التالية، في العدد 14/02/2007 من جريدة "النهار":
بالأمس، فقدنا عزيزاً هو الصحافي الكبير جوزف نصر (المدير المسؤول في جريدة " النهار") وهو نفسه السوري القومي الاجتماعي العتيق، معتنق العقيدة القومية والمؤمن بمبادئ الحزب، والذي بإيمانه هذا تخطى الانتماءات الطائفية الضيقة شاهراً الانتماء الى نهضة تكافح من اجل بلوغ غايتها في الوحدة والحرية.
جوزف نصر هو من رعيل المناضلين القوميين الذين يحفظ لهم الحزب السوري القومي الاجتماعي، تضحياتهم وعطاءاتهم. ذلك الرعيل الذي خاض أخطر مواجهة مع النظام الطائفي في لبنان، وتعرض بسبب مواجهته للتصفية والقمع والتنكيل والاضطهاد والملاحقات وعذابات السجون.
قلائل هم الرجال الرجال... وجوزف نصر من هؤلاء الرجال القلائل الذين أقدموا على الأخطار من دون تردد ودفعوا ضريبة الانتماء الى الحزب، وضريبة الايمان بالوحدة الروحية والاجتماعية التي تجمع ولا تفرق.
بعزة المناضلين وشموخ الأباة وعناد المؤمنين بعقيدتهم، واجه جوزف نصر الطغاة، فاعتقل وسجن أكثر من مرة، لكنه لم يتـخلّ عن قناعاته. وميزة هذا الرجل لم تقتصر على صفاته وصدقية انتمائه، بل تعدت ذلك الى الجمع بين مهنته كصحافي بارع، ومسؤوليته في الحزب كوكيل لعميد الدفاع في أصعب مراحل الحزب وأدقها، وهذه فرادة طبعت مسيرة جوزف نصر الحافلة بالعطاء.
جوزف نصر مناضل من الدرجة الاولى، ومتفان في سبيل قناعاته ومدافع عما يؤمن به، مثقف بكل ما في الكلمة من معنى، وهو الذي استطاع بثقافته وابداعه وجرأته وقلمه ان يضبط اللحظة بكل محمولاتها متلبسة يأخذنا على حين غرة قبل ان تولد وتكتمل بشاعتها ورعبها كما هي عليه الآن.
جوزف نصر جزء من تاريخ الحزب ومن تاريخ "النهار". عزاؤنا لأهل بيتك وأحبائك وزملائك ورفقائك والبقاء للأمة والخلود لباعث النهضة انطون سعاده الذي بهدي مبادئه عرفنا حقيقة الوحدة المجتمعية ومعنى الحرية والصراع.
*
وفي عدد "النهار" بتاريخ 12/12/2007 نشر الصحافي حبيب شلوق المقالة التالية تحت عنوان:
"جوزف نصر قسّيس الليل الى فجر "النهار"
" لم يكن "الأستاذ جوزف" حتى الأمس القريب يسلّم بأن الموت قريب، على رغم السنين العديدة التي طواها، وان كان رجلاً مؤمناً ايمان الارثوذوكسي المستقيم الرأي بالموت والحياة الثانية، ذلك لأن ثقته بنفسه كانت أكثر من عادية، ربما لأنه لم يكن يخاف الموت بل كان يواجهه في محطات كثيرة من حياته.
" جوزف نصر المدير المسؤول لـ"النهار" الذي كان يتباهى بأنه رافق "المعلم" (الأستاذ غسان تويني) منذ بداية عمله في "نهار" والده المرحوم المؤسس جبران تويني، هو من رعيل مطلقي نهضة "النهار" إذ بدأ العمل فيها أواسط الأربعينات أيام كانت الجريدة في سوق الطويلة، حاملاً معه عقيدته القومية السورية الاجتماعية بعدما كان إنجذب الى فكر الزعيم أنطون سعاده، وغاص في العمل الحزبي حتى الأعماق، وتقلّب في مناصب حزبية عدة بينها وكيل عميد الدفاع، وكان من أترابه قوميون كبار بينهم أسد الأشقر، وغسان تويني، وعبدالله سعاده، وعبدالله قبرصي، ونعمة تابت، وانعام رعد، ومصطفى عز الدين، وجورج عبد المسيح، أي كان أحد أعمدة الحزب في عز "وقفات العز"، وقبل ان يقلب "ابو كريم" شفتيه متألماً من تشرذم وانقسام.
" و "ابو كريم" كما كان يحلو للخلّص أن يسموّه تيمناً بنجله كريم، وفي مقدمهم الأستاذ غسان والشهيد جبران تويني ومعاصرون وأصدقاء كثر له، بدأ عمله الصحافي عام 1947 محرراً رياضياً في جريدة "كل شئ" التي أسسها النقيب محمد بعلبكي والمرحوم سعيد سربيه، ثم مسؤولاً عن باب "كل شئ رياضي" فيها.
" وانتقل بعد ذلك الى "النهار" ليزاول التحرير والكتابة السياسية، وكانت كتاباته تنضح فكراً عقائدياً واضحاً، ومعارضة شرسة مكشوفة للتجديد للرئيس بشارة الخوري وانتقاداَ عنيفاً للحكم بإعدام الزعيم أنطون سعاده، مما سهّل على "العهد الدستوري" الذي كان يحاول تأمين التجديد للخوري، إدخال جوزف نصر السجن، "بتهمة تهديد الأمن القومي"!
" وفي السجن تعرّف الى غسان تويني السجين الآخر بتهمة المعارضة أيضاً، وترسخت صداقتهما و " تعمدت" بمناقشة قومية وبطعام السجن وشرابه.
" خرج جوزف نصر من السجن بعد سنة، وكان سبقه الى الحرية الأستاذ غسان تويني الذي سجن ثلاثة أشهر فقط، وعاد "ابو كريم" الى الصحافة، وعمل عام 1951 في "صدى لبنان" التي إشترى إمتيازها زميله في الحزب الذي أصبح صهره محمد بعلبكي، لينتقل بعد ذلك الى "الأحرار" مع نقيب الصحافة كميل يوسف شمعون، فالى "البناء" الناطقة بإسم الحزب القومي. وتخللت تلك الحقبة محاولة الإنقلاب التي قام بها الحزب ضد الرئيس فؤاد شهاب، وأدت الى حملة توقيفات لم يعرف لبنان لها مثيلاً، وكان جوزف نصر من الموقوفين بجرم "كتم معلومات".
" ويروي النقيب محمد بعلبكي أن خطيئة جوزف "في رقبتي"، إذ قال له ذلك اليوم أنه سيتوجه الى ديك المحدي لرؤية "الشباب" في منزل أسد الأشقر، فطلب منه جوزف ان يرافقه... ورافقه. واعتقل الجميع وسيقوا الى المدينة الرياضية "السجن الواسع"، أولاً ثم الى ثكنة الأمير بشير.
" يومها نقل القوميون الضباط المعتقلين الى منزل أسد الأشقر، ويروى عن ألسنة قادة قوميين ان عدداً من الضباط الذين خُطفوا فاجأوا قادة الإنقلاب بقولهم: "أوقفوا فؤاد شهاب ونكون معكم!".
" وفي ما يشبه استراحة المحارب خرج جوزف نصر من السجن ليزاول التدريس في الكلية الشرقية في زحلة، ثم ينشئ مزرعة أبقار في البقاع تبعده بعض الشيء عن هموم السياسة ومتاعب الصحافة. لكنه سرعان ما عاد الى مهنة البحث عن المتاعب.
" وبين صحيفة وأخرى عمل جوزف نصر في شركة "الكات" التي أسسها النائب السابق إميل البستاني، وقبلها في مديرية الإعاشة ايام الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك التاريخ وجوزف نصر في كل مكان وملجأ لكل محتاج. و"النهار" التي تركها في الخمسينات يبدو أن جزءاً كبيراً من "أبو كريم" ظل فيها. وعاد الحنين يحمله إليها مجدداً، ولكن هذه المرة في "الحمراء" بعدما انتقلت الجريدة مع غسان تويني من قلب بيروت التقليدي حيث أسسها جبران الجد، الى قلب بيروت النابض، وقبل أن تنتقل ومعها جوزف نصر الى وسط الحداثة مع جبران الإبن الشهيد.
" في 01/10/1963 عاد ابو كريم الى "النهار" ليواكب إنطلاقة جديدة لها، إتسمت بالمعارضة الشديدة للعهد الشهابي، وقاست مع الأستاذ غسان الكثير من المعاناة "والإضطهاد الرسمي" لكنها حظيت بإلتفاف شعبي حولها عززه لبنانيون كبار مثل الرئيس كميل شمعون والرئيس صائب سلام والعميد ريمون إده والزعيم كمال جنبلاط وغيرهم كثر، مما وطّد علاقة جوزف نصر بهؤلاء السياسيين ولا سيما منهم العميد ريمون إده الذي سجّل له "ابو كريم" وقوميون كثر موقفه الرافض بشراسة لـ" الإعتقالات العشوائية" بعد محاولة الإنقلاب.
" ورافق جوزف نصر في تلك الحقبة أئمة "النهار" غسان تويني ولويس الحاج وميشال أبو جوده وفرنسوا عقل وإميل داغر وغيرهم، وكانت الطبقة التاسعة عند الأستاذ غسان أطال الله عمره والطبقة السادسة عند الأستاذ ميشال ابو جودة رحمه الله "مصنعين" للقادة السياسيين إن لم نقل للرؤساء، وفيهما كان يلتقي القادة السياسيون ويخططون ويوجهون وينفّذون. وفي الانتخابات كان الفقيد يداً يمنى للنائب غسان تويني في كل معركة خاضها. وبعد وفاة المرحوم ميشال ابو جودة، تولى جوزف نصر منصب المدير المسؤول في الجريدة ثم انتخب عضواً في مجلس نقابة الصحافة خلفاً لأبو جودة أيضاً.
" وتميّز جوزف نصر في عمله الصحافي خصوصاً في "النهار" بالعطاء حتى الرمق الأخير. وكان بشهادة عارفيه أهم محقق عرفته الصحافة اللبنانية، نظراً الى ما اتصف به من جرأة وفضول واندفاع وإحتراف، مما جعله لا يتراجع أمام أي مهمة وفي أي وقت من الليل والنهار. كذلك تميّز بسعة إطلاع ومعرفة عميقة بلبنان، محافظة محافظة ومدينة مدينة وضيعة ضيعة بل دسكرة دسكرة، ما ليس متوافراً لدى أي صحافي. ونمّى تلك المعرفة من خلال ملاحق "النهار" التي ولدت في الستينات وكان بينها ملحق يومي للمناطق.
" كذلك ربطته صداقة حميمة بالأرض، وغاص في أحوال الفصول والطقس، وصار من روّاد الإهتمام بالأحوال الجوية وغيرها. ومن هنا نشأت صداقة حميمة بينه وبين مدير مرصد الجامعة الأميركية في بيروت نقولا شاهين، انتقلت بعده الى العائلة فتعامل معها في أحوال الطقس وما إليها.
" وخلال عمله في ملاحق "النهار" كتب جوزف نصر مجموعة تحقيقات عن المناطق في سلسلة مشهورة تحت عنوان "في مجاهل الجمهورية"، ولم يترك زاوية ولا قضية ولا مشكلة إلا تناولها في تلك التحقيقات. ولم يكن يتردّد في التوجه الى أقاصي الأرض إذا كان في ذلك إفادة لإستكمال خبر او تحقيق او الحصول على معلومة معينة تطلبها رئاسة تحرير الجريدة.
" وفي هذا الإطار يروي صديقه ورفيقه لسنين طويلة رئيس التحرير فرنسوا عقل، أطال الله عمره، ان الاستاذ غسان اتصل ذات ليلة ماطرة جداً بـ"ابو كريم" ليقول له ان البَرَد تساقط في منطقة عكار بحجم البيض، وأدى الى أضرار جسيمة ومزّق خيم النايلون، طالباً منه التوجه الى عكار "لأنو بدي صورة على الصفحة الأولى". وإنطلق نصر الى عكار قبل منتصف الليل بقليل وعاد فجراً لتصدر "النهار" في اليوم التالي منفردةً بتحقيق بقلم "ابو كريم" وصور عن "جريمة البَرَد".
" ومن مميزات جوزف نصر أيضاً أنه خلال حرب لبنان التي إمتدت طويلاً ولم يشارك فيها بل مقتها، كان يحرص على التنقل بين بيروت وبيروت ويجهد لتأمين مرور الصحافيين والموظفين بين الضفتين. وفي وقت إنصرف الناس كل الى الإهتمام بشؤونه إنصرف "ابو كريم" الى تكريم من لم تسمح الظروف بتكريمهم كما يجب، ووفى كثيرين حقهم بتكريمهم والكتابة عنهم بعد الوفاة، حتى بات مرجعاً عن كل من كتب عنهم. وأذكر ذات يوم أنه طلب من كاتب هذه السطور الحلول محله في مثل هذا التكريم لأنه كان مريضاً، وكان ما كان... ولكنني لم أكن أنتظر أن أصل الى مثل اليوم، فأكتب عن أمير من أمراء هذا النمط في الكتابة.
" و "ابو كريم" الهاوي الخيول إستنبط زاوية لسباق الخيل في "النهار"، كان فيها مرجعاً ومستنداً، وكان أيضاً ملاذاً لأي شاك ومصغياً الى كل زميل وعضداً لأي مغبون، وصديقاً صدوقاً، حتى إذا "طلع خلقه" كان ذلك للحظات، ولم يكن يتردد في الإعتذار عن أي خطأ إرتكبه وإن عن غير قصد وحتى ولو كان لزميل من جيل ولديه.
" رحل "ايو كريم" أمس عن 88 عاماً (من مواليد 1919)، وغداً سيعود الى حمانا التي أحبها حتى العبادة. كانت حمانا بالنسبة إليه عاصمة العالم وعروسه. وإليها كان من حين الى آخر يدعو أصدقاءه ليتمتع بحديقة حول المنزل إعتنى بها ورتبّها على ذوقه، فتتحلّق حول الشقيق الوحيد ست شقيقات مع عيالهن، وأخوة من عائلته الثانية "النهار".
" "ابو كريم" سنفتقدك كثيراً. صوتك سيغيب لكن صداه سيرجع كل يوم يا قسيس ليل "النهار" من الفجر الى النجر.
" "ابو كريم" ... عذراً إذ أجدني أكتب عنك من دون إذن منك ".
*
إقترن الرفيق جوزف نصر من السيدة برناديت ريشار ورزق منها: إيمان وكريم.
شقيقاته الراحلات سعدى، ماري، شمس، نيللي، منيرفا، وماغي.
إنتمى الى الحزب في أربعينيات القرن الماضي.
هوامش:
(1) كانت مخطوبة من الأمين محمد بعلبكي عندما حصلت الثورة الانقلابية. بقيت وفيةً له، كما بادلها الوفاء. فإقترنا بعد خروجه من الأسر. التقيتُ بها كثيراً في ستينات القرن الماضي وما زلت أذكر منزل العائلة الذي كان في شارع مار الياس، منطقة كركول الدروز
|