من بين الفروع العديدة التي تنشأ تباعاً، في لبنان والشام، قرأت مؤخراً عن إنشاء مديرية في نطاق بلدة حوش بردى، تابعة لمنفذية بعلبك، وتعيين الرفيق غسان أديب ابو حيدر(1) مديراً لها.
أعادتني الذاكرة فوراً إلى رفيق تميّز بأدائه الحزبي في ستينات القرن الماضي، إلا أنه رحل باكراً وهو في اوج نشاطه وعطائه، هو الرفيق غسان أبو حيدر الذي كان نشيطاً جداً في الفترة 1967 – 1971، ويذكره جيداً وبلوعة، الرفقاء الطلبة الجامعيون، رفيقاً بشوشاً، ضاحك الوجه، ممتلئاً حيوية، محباً وقومياً اجتماعياً وعياً وأخلاقاً وممارسة. ومثلهم، أذكره دائماً بكثير من الحب، ومن معرفة وطيدة لما كان عليه من فضائل النهضة والالتزام الواعي والصادق بالحزب. أحببته وأحبه الجميع، حتى خصومه السياسيين، فقد كان دافئ اللسان، مناقبياً، مهذباً، لا يعرف الحقد، إيجابياً في تعاطيه، مبدئياً في مواقفه، صلباً في إيمانه وقناعاته، صادقاً مع الجميع، يمازح أساتذته وأصدقاءه وزملاءه ورفقاءه، ويبقي الخيط الرفيع من التهذيب والاحترام المتبادلين. فما من أحد إلا أحبه، ولا واحداً ممن تعرّف إليه إلا احترمه، أو تعاطى معه كصديق وفيّ.
كان طالباً في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية عندما وقع له بتاريخ 29/03/1971 حادث اصطدام مروّع في بلدة بحمدون بين سيارة يقودها صديق عمره وزميله الرفيق ركان دندش(2) وبين سيارة أخرى، وبعد صراع مع الموت في المستشفى، واسلم الروح.
*
طالما تردد إلى منزلنا مع الرعيل الحزبي الرائع الذي نشط وتفانى في تلك السنوات، ليتني أتمكن، وغيري، من تسطير روائع تلك المرحلة، وإني أدعو من عاشها، ونشط حزبياً أن يدوّن مذكراته لتبقى لأجيالنا قدوة ووفاء.
وفاته:
مأتمه في بلدة "حوش بردى" (بعلبك) كان مهرجاناً حاشداً سار فيه الآلاف من الرفقاء والمواطنين، وقد اصطف مئات من رفقائه الطلبة على جانبي الطريق يؤدون تحية الحياة لرفيق الحياة محمولاً على الأكف، وفي مقلتيّ كل منهم دمعة، وخشوع، وحزن لا يعرفه إلا من يكابده بصدق.
وفي ذكرى الأربعين أقام له مجلس فرع الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية في كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية، حفلاً تأبينياً شارك فيه جمهور من أهله ورفقائه وزملائه وتكلم فيه كل من الطلاب غازي جعجع، اميل يمين، جورج أبو زيدان، الرفيق بطرس مطر، السيد جورج زكي الحاج نيابة عن شباب منطقة حوش بردى وجوارها، شقيقه الرفيق مروان، واختتم الحفل التأبيني بكلمة لعميد الإذاعة إنعام رعد.
*
الكراس:
وزع رفقاء، واصدقاء الرفيق غسان أبو حيدر كرّاساً يحمل اسمه، وتضمّن كلمات قيلت فيه، وصوراً للمأتم الحاشد الذي أقيم له.
من تلك الكلمات اخترنا التالي:
لم يمت.. إنه أنا وأنت
الرفيق بطرس مطر(3)
إن حزننا على غسان هو من حرقته، لأنه لن يفِ النذر الذي أقسم عليه. لقد قضى تحرقه أمنية لم يحققها، وقضية لم يستطع أن يوفيها حقها عليه إذ فاجأته المنية. إن ذكراه دعوة لنا جميعاً ولكم لنترك الأسى والحزن، طالما الدماء التي في عروقنا وديعة الأمة فينا، ونمضي إلى القتال مصممين على النصر. فلو عاد غسان بيننا لما ارتضى ندبه ولا أقر حزناً.
لو عاد لكان صرخة في ضمير هذا الوطن كما كان، لا تحبط عزيمته مصيبة، ولا يثني تصميمه على النصر فاجعة.
ماذا أقول؟ لو عاد؟
إنه لم يمضِ عنا، إنه في كل واحد منا نحن رفقاءه ومواطنيه. إنه الصرخة المدوية في حناجرنا تقود نضالنا إلى النصر. إنه الزخم فينا يقوي مسيرتنا إلى المعركة، معركة المصير. إنه خالد بيننا نتذكر توصياته كلما هممنا على عمل، ونسترشد خطاه كلما ألمت بمسيرتنا المصاعب.
كلا إنه لم يمت، إنه أنا وأنت عقدنا العزم وسرنا مصممين مناضلين حتى النصر.
*
لقد علّمتني كيف أحب.
الرفيق ابراهيم منصور(4)
غسان، أيها الرفيق الغائب الحاضر. يا من كنتَ أكبر من الكلمة، فكيف تستطيع الكلمات مهما كثرت أن تفيك حقك؟
اعذرني يا رفيقي إذا لجأت إليك لأستمد كلمة أقولها فيك الآن. لقد كنت حتى في آخر رسائلك، الموجه والناصح والهادي والمعبر عن اسمى معاني الحياة وأنبلها، كنت مؤمناً بأن ابناء الحياة لا يقهرون بالموت. أنا مدين لكَ يا غسان، في حياتك وموتك. لقد علمتني كيف أحب، وعرفتني على من احب. وتركت خلفك يا غسان، إذ ذهبت، عذاباً وسع الصدر، وحزناً وسع الحياة.
لن أنساك، ولن أنسى خفقان قلبك. حسبك وحسبنا عزاءً بأننا لم ولن نُقهر بالموت طالما أنك حيّ في كل قطرة ونبضة وخلجة وخفقة مع كل الذين عرفت وعرفوك.
*
لو كان لي أن أنفذ إليك!
الرفيق فؤاد معلوف(5)
غسان،
عهدنا وإياك رفقاء طريق طويل.. ولكنك كنتَ سبّاقاً.
انتزعك الموت منا كما تنتزع الكأس الباردة عن شفة الظمآن واللقمة من فم الجائع،
وسنبقى إليك جائعين..
لو كان لي أن أشق هذا الحجاب لأنفذ إلى ابتسامتك الحلوة!
لو كان لي أن ألقاك!
لقد اشتقتك فعلاً..
غسان، إن كل غسان مثلك لا يموت!
*
كلمة شقيقه، الرفيق مروان أبو حيدر
يا أصدقاء غسان،
لسنوات قليلة مات أبي، كنا إلى جانبه، أذكر كلماته الأخيرة، قالها لحظة أغمض عينيه، قالها لغسان: "عش مرفوع الرأس أبداً.. لا تحن جبينك لأحد".
ولأيام قليلة مات غسان، مات وهو مرفوع الرأس، وأحسّني اليوم مسؤولاً أكثر من أي يوم عن وصية أبي! "لا تحن جبينك لأحد"
غسان.. كأنه لحظة غاب ترك في صدري اثنين: عنفواناً كبيراً، ومحبة كبيرة.
لقد علّمني غسان كيف اؤمن وكيف أحب. كان لي أكثر من أخ، كان أباً وأملاً، ومثالاً. أنا لم أبكه لأنه مات، بكيت لأنه مات هكذا.. الميتة التي كان يكره.
منذ وُلِدَ كأنه وُلد لقضية كبيرة، كان يحب بلا مقابل، ويعطي بلا مقابل. تطلعاته كانت بعيدة، إيمانه كان راسخاً بنفسه وبالآخرين.. كان إنساناً طيباً كبيراً، وعندما أقسم بصراحة على أن تكون دماؤه لأمته، كم كان مخلصاً لنفسه!
أنا لم أبكِ لأنه مات، بكيت لأن رجلاً مثله كان يمكن أن يفعل الكثير من أجل مجتمعه، هذا المجتمع الذي يعيش على أمل أن يحيا..
يا أصدقاء غسان،
يا رفقاءه،
لم يمت غسان، في عيني كلٍّ منكم أراه، في كل نكتة حلوة أسمعها أتلمسه، في كل يد تصافحني أحسه، وأحسه قلباً طيباً وصدراً كبيراً،
وأنتم رفقاءه تعرفونه، لقد عاش بصدق، عاش للآخرين، وذروة عطائه كانت في التزامه، كأنه لحظة مات، مات ساعة وُلد، تماماً مثلما عاش للذين لم يولدوا بعد..
يا أصدقاء غسان، كلما رأيتم ركان، قولوا له أني أحبه.. قولوا له أن غسان الذي راح في غفلة من غفلات القدر لا يحب أن يراه حزيناً. قولوا له أن الحزن لم يكن مهنة غسان، كان يتجاوز الحزن، على أمل الفرح الكبير.
لو كان بوسع الواحد منا أن يموت فداء الآخر، لكان ركان في الطليعة، فداء غسان!.
يا رفقاء غسان،
يا اصدقاءه،
باسم كل رفيق لغسان وصديق، باسم كل نقطة دم أعطيتموها ليعيش، باسم كل دمعة ذرفت في وداعه، باسم كل حرقة وكل غصة، باسم كل الذين عزّ عليهم أن يغيب..
أعاهدكم على أن أكون جندياً للقضية التي من أجلها عاش. ويوم تنـتصر النهضة القومية الاجتماعية في بلادي، تهتزّ تحت التراب عظامه وتشهق عيناه بفرح كبير. كم كان رسولاً!
هذا هو غسان.
*
هوامش:
(1) كان الرفيق الراحل أديب أبو حيدر اقترن من شقيقة الرفيق غسان، وتولّى مراراً مسؤوليات حزبية في نطاق منفذية بعلبك. ابنه الرفيق غسان (تيمناً بخاله الرفيق الراحل غسان) يمسك الراية حالياً ويسير.
(2) تضرر الرفيق ركان، وأصيب بكسور ألزمته المكوث في المستشفى لفترة، ولم يعرف برحيل صديقه ورفيقه غسان إلا بعد مدة، فانضم إلى المئات من رفقائه في الحزن الكبير على رحيله. والرفيق ركان نشط طيلة السنوات الصعبة، وكان له أداء حزبي مميز، وما زال عند إيمانه، وأخذه بعقيدة الحزب والتزامه بكل مفاهيم النهضة.
(3) بطرس مطر: كان رفيقاً مميزاً بوعيه ونشاطه. تولى مسؤولية مدير مديرية كلية الآداب. الشقيق الأصغر للأمين غسان مطر. خسرناه باكراً جداً.
(4) فؤاد معلوف: من دوما (البترون). شقيق الرفيق عبد النور معلوف. كان طالباً في كلية الحقوق، ومن الأصدقاء المقرّبين للرفيق الراحل غسان. بدوره رحل في عز عطائه. كان انتقل للإقامة في نطاق منفذية زحلة.
(5) ابراهيم منصور: من مشغرة. كان طالباً في كلية الحقوق. أحد أصحاب شركة "باستور" للمعدات الطبية.
|