يعرض الأمين جبران جريج في الجزء الرابع من مجلده "من الجعبة" للمرحلة التي تلت مغادرة زعيم الحزب للوطن متوجهاً نحو المهاجر. فيقول: " ان المجلس الأعلى بدأ بعقد جلساته ممارساً الصلاحيات الممنوحة له من الزعيم، فكان أول قرار اتخذه هو اعتبار تاريخ 28 تموز 1938 يوم ذكرى المهاجر وذلك تسجيلاً لمغادرة الزعيم أرض الوطن من قبرص في التاريخ المذكور (الجزء الرابع ص277).
أما القرار الآخر " فهو الدعوة لعقد مؤتمر عام يضم جميع المسؤولين في المركز وهيئات المنفذيات في كل أنحاء الوطن السوري، وحددت الدعوة لعقد المؤتمر في بيروت، بتاريخ 24 ايلول 1938 " وعرف بمؤتمر الاستعداد.
قبل ذلك، يورد الأمين كامل أبو كامل(1) في مذكراته المخطوطة " أن جميع أعضاء المجلس الأعلى، بعد أن غادر الزعيم الوطن، كانوا يتخوفون من الانزلاق في الخطأ نسبة لحداثتهم في تسلم مسؤولية ضخمة. لهذا كان تخطيط المجلس ان يقوي بنية السلطة التنفيذية، ويسهر على تقديم المعونة للمنفذين العامين في ادارة منفذياتهم وكان الأمر بغاية السهولة لأن البعض من أعضاء "السلطة التشريعية" الذين هم أعضاء في السلطة التنفيذية كانوا يزوّدون المجلس بكل ما هو حاصل في الحزب، مثلاً: نعمة ثابت عضو المجلس الأعلى هو رئيس السلطة التنفيذية بالوقت نفسه، كذلك مأمون اياس وجورج عبدالمسيح. وبعد مرور وقت قصير قرر الأمين فخري معلوف السفر الى أميركا، فانتخب المجلس الأمين نعمة ثابت رئيساً للمجلس".
أما عن انعقاد مؤتمر الاستعداد فيقول الأمين جريج في الصفحة 278 من الجزء الرابع ان القيادة الحزبية " قد اتخذت عدة تدابير لتأمين سرية عقد هذا المؤتمر ولذلك عُيّنت أمكنة متعددة للوفود الحزبية القادمة من المناطق، ذكرتها في كل دعوة مرسلة لكل منطقة على حدة، كما أنها عيّنت في كل مركز التقاء دليلاً يكون في انتظار الوفد لنقله الى مكان انعقاد المؤتمر السري(2).
يضيف: " كان الحضور كاملاً لولا حادث وقع صدفةً كاد يعرّض المؤتمر الى الإلغاء مما اقتضى عدم حضوري، وحضور الرفقاء وديع الياس(3) فريد صباغ(4) منير الملاذي(5) وعمر ترمانيني(6). انعقد المؤتمر في منزل الرفيق أحمد مفتي(7) في محلة برج ابو حيدر. دام انعقاده حتى ساعة متأخرة من المساء. كان أبرز موّجه فيه الأمين فخري معلوف رئيس المجلس الأعلى. انفض المؤتمر وكل الحاضرين مستوعب خطورة المرحلة القادمة وكلهم استعداد لمجابهتها ".
*
أما عن هذا الحادث، وعن الاعتقالات التي جرت، فنعرض موجزاً عنها استناداً الى ما اورده الأمين جريج في الصفحات 280-287:
" كان الأمين جبران جريج مسؤولاً عن مكتب جريدة "النهضة"، أحد مراكز الإلتقاء، فيما كان الأمين أنيس فاخوري مسؤولاً عن مكتب المحاماة للأمين عبدالله قبرصي الكائن في البناية المجاورة.
بينما كان الأمين انيس متوجهاً الى مكتب الأمين قبرصي بانتظار وصول الرفقاء فيدلّهم الى مكان انعقاد المؤتمر السري، اعترضه حارس البناية بحجة أن المكاتب تقفل يوم الآحد.
" تم الاتفاق بين الامينين جريج وفاخوري على أن يتوجه الأمين أنيس الى مكان المؤتمر مصطحباً معه عدداً من الرفقاء الذين كانوا قد وصلوا، وبقي الأمين جريج في مكتب "النهضة"، ومعه الرفيق عمر ترمانيني، أحد مسؤولي الحزب في منفذية حلب، والرفيق الركن منير الملاذي، وكيل عميد التدريب. لم يمض وقت طويل حتى وصلت قوة من الشرطة، وداهمت مكتب الجريدة، تسأل عن الاجتماع الحزبي .
" تصديت لها اسألها "ماذا تريد وبأمر من يدخلون هذا المكتب". اجابني المفوض "بصل" الذي كان على رأس القوة بسؤال آخر وعيناه تشيحان في انحاء الشقة تريدان استيعابها كلها، بجميع دقائقها: "اين اجتماع الحزب"، قلت له بكل برودة وبلادة: " ليس هنا اجتماع لا للحزب ولا لسواه،. هنا مكتب جريدة، (واشرتُ الى اللوحة المكتوب عليها اسم الجريدة المعلقة على الشرفة) ولا يحق لكم الدخول إليه وتفتيشه دون اذن من نقابة الصحافة وحضور مندوب عنها. لذلك احملكم مسؤولية تصرّفكم هذا، اللاقانوني.
" تهيّب الموقف. أمر افراد الشرطة بالانسحاب، لكنه طلب مني ان ارافقهم الى المخفر. اغلقت الابواب وأقفلت الباب الرئيسي بالمفتاح وانصرفت معهم مخفوراً ضمن صف ثنائي من الشرطة الى مخفر البرج، يرافقني عمر ترمانيني ومنير الملاذي اللذان لم يقبلا ان يُخلى سبيلهما.
" غدونا ثلاثة في المخفر ثم اصبحنا خمسة باضافة وديع الياس مجاعص وفريد صباغ اللذين اوقفا ايضاً من امام مكتب الامين قبرصي وهما ينتظران دليلهما الى مكان المؤتمر. طال انتظارهما لغياب الامين انيس فاخوري كما مرّ بنا وبهذه الفترة كان حضور الشرطة فتوقيفهما في مخفر البرج. تمّ تفتيشنا فصودرت مني رسالتان كان قد بعث بهما اليّ رفيقي الوكيل الركن ملاذي عندما غادر بيروت في جولة تدريبية حزبية الى لبنان الشمالي.
تصرف شجاع
يروي الأمين جريج، أنه عندما كان في مكتب المستنطق صبحي المحمصاني، دخل شخص وقف له المستنطق صبحي احتراماً واجلالاً، " وقع نظر الشخص القادم على عروة سترتي، كان معلقاً فيها زر يرمز الى شعار الحزب، الزوبعة الحمراء. كانت هذه الازرار نادرة الوجود. كانت من صنع مديرية برلين المستقلة. انقضّ عليها كالشاهين، مدّ يده لنزعها من محلها. كانت يدي اسرع من يده إليها، فحميتها. وقعت يده فوق يدي. كان دركي واقفاً عند الباب الذي ظل مفتوحاً، يحمل بندقيته. حاول التدخل. صرخت به صوتاً دوى في الارجاء "شو دخلك، خليك مطرحك". حماس الشباب دفعني للاستعداد الى معركة. تدخل المحقق المحمصاني وقال لي بدماثة خلق وهدوء اعصاب: "لا يجوز لك هذا التصرف مع حضرة المدعي العام الاستاذ فرنان ارسانيوس"(7). قلت له وقد عادت الحكمة الى رأسي: "تشرفنا، الآن قد عرفت. من فضلك اسحب يدك". سحبها على الفور. نزعت الزر ووضعته للجهة الداخلية من العروة. قال لي المحقق: "ان الزر يتبع الملف". تجاهلت طلبه ".
السجن
يتابع الأمين جريج: " أُبلغت صدور مذكرة توقيف واحالتي الى سجن الرمل، الذي كنت اعرفه من قبل. حللت ضيفاً على الغرف "5" و "6" و "7" من البناية الاولى. قضيت فيها خمسا وخمسين يوماً. دعيت الى التحقيق في اثنائها مرة واحدة. جرى هذا التحقيق في مكتب إدارة السجن على يد المفوض في الشرطة محيي الدين القباني، وذلك بعد مضي شهر تماماً وكمالاً، على توقيفي".
مفاجأة
ويضيف في الصفحة 289: " كنت خارجاً الى النزهة عندما اقترب مني دركي متوسط العمر وسألني، هل انت جبران جريج ؟
- نعم
- قال لي : بيسلم عليك ابني، رفيقكم كمال هرموش(8). سررت بهذا السلام وبادلته بالمثل. صار كلما كانت نوبته يأتيني بالسلام وأقابله بأحسن منه فنشأت بيننا علاقة ود وايناس، وان بوقت قصير وقصير جداً. حكى لي قصصاً كثيرة. اروع تلك القصص التي رواها لي كانت تلك التي اختصت بالزعيم:
" كان ذلك سنة 1937. كان مركزي في مخفر المريجات، اول قرية على مقلب ضهر البيدر الشرقي، جاءتنا تعليمات مستعجلة بأن نضع حاجزاً على الطريق لايقاف السيارات المتجهة صوب دمشق. أُعطيَت اشارات سيارة بنوع خاص. الاوامر تقضي بتفتيشها واجراء توقيف من فيها. منذ ساعات الليل الاولى كانت نوبتي فأوقفت سيارة تنطبق عليها المواصفات المبلّغة إلينا. كان فيها ما عدا السائق سيدة ورجلان.
" طلبت منهم النزول فترجلوا. اختفى الرجلان وبقي بين يديّ السيدة والسائق. امرتهما بالدخول الى المخفر. رافقتهما وأعلمت الرقيب بالامر. قال لي: "ويحك، فلت انطون سعاده منّا ". كنت اسمع بانطون سعاده وكنت أحس بميل إليه. ميل عاطفي لرجولته ولمواقفه الجريئة في محاربة السلطة الاجنبية. لذلك غصّ قلبي عندما عرفت ماذا جنيت ولكني سررت لاختفائه. ما مضى ردح يسير من الزمن حتى باغتنا بحضوره. عزّ عليه ان تتوقف سيدة بسببه. زاد احترامي له وتقديري. انه شريف ونبيل. ان تصرّفه يدلّ على شهامته وفروسيته. الرجل الثاني ما بيّن له اثر. اخلينا سبيل "الست" والسائق ".
معلوماتنا ان "الست" كانت الرفيقة وداد ناصيف والرجل الثاني كان الرفيق جورج عبد المسيح.
ملاحظة: نعتمد نقل المقاطع عن مؤلفات الامين جبران جريج، كما جاءت دون اي تعديل.
*
هوامش
(1) كامل ابوكامل: من بعقلين. تولى في الحزب مسؤوليات كثيرة، محلية ومركزية. منها عميد دفاع، وعضو مجلس أعلى.
(2) أمر مشابه حصل في "يوم الحشد" في 2 آذار 1958، مراجعة النبذة في أرشيف تاريخ الحزب على الموقع التالي www.ssnp.info
(3) وديع الياس مجاعص: ابن عمة الزعيم، وقد رافقه يافعاً فطالباً فزعيماً. للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى الموقع المذكور أنفاً.
(4) فريد صباغ: من ضهور الشوير، رافق سعاده منذ بدايات تأسيس الحزب وتولى مسؤوليات معظمها في العمل السياسي. مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
(5) منير الملاذي: من أبطال الحزب. كان وكيلاً لعميد التدريب ومدرباً عاماً. تعرّض للاعتقال وللتعذيب الشديد. مراجعة ما عممنا عنه في أرشيف تاريخ الحزب على الموقع المشار اليه أنفاً.
(6) أحمد مفتي، تولى مسؤولية خازن منفذية بيروت.
(7) يصح الاطلاع على النبذة المعدة عن الامين شكيب ابو مصلح على الموقع المذكور آنفاً.
(8) كمال هرموش: نأمل أن نتمكن من انهاء نبذة عن الرفيق المميز عارف هرموش، وعن رفقاء آخرين من آل هرموش منهم الرفيق كمال.
|