لم يُوقِع حائط برلين أيّ ضحايا، ولكنه غيّر بالعمق مشهد الجغرافيا السياسية، وبعد مرور عقد من الزمن ونيّف، كانت أحداث 11 أيلول الشرارة التي انطلقت منها الولايات المتحدة وأوروبا نحو المنطقة، بذريعة «محاربة الإرهاب» لتعبث فيها خراباً وتدعم الفصائل والتنظيمات الإرهابية في منطقتنا تحت مسمّى «معارضة معتدلة» أو «ثوار» ليصبح الوضع متوتراً بشكل كبير جداً.
فالولايات المتحدة دائماً تبحث عن مشاريع بهدف تعيين العدو الخارجي الذي يتربّص بها ويهدّد أمنها، لتبدأ في عقد التحالفات وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات بين «حلفائها» ولا يُخفى على أحد بأنه لا يوجد للولايات المتحدة حلفاء، بل أتباع فقط. وعندما تصبح الدولة حليفاً «تابعاً» لواشنطن، سيصبح من الصعب عليها أن تقاوم الضغط، وستظهر في هذه الدولة فجأة أنظمة مضادة للصواريخ وقواعد عسكرية جديدة، وإذا لزم الأمر أسلحة هجومية، والحجة «محاربة الإرهاب»!
فما هو الإرهاب الذي تريد محاربته حينها والآن؟ ولماذا لم تصل مع الأمم المتحدة لتعريف محدّد حول الإرهاب؟
أليس لمآرب ومصالح وغايات في الذات الأميركية – الصهيونية، حتى تسمّي المقاومة في لبنان وفلسطين منظمات إرهابية وتضع سورية وإيران في محور الشر لدعمهما تلك الفصائل المقاومة متناسية للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وحق الشعوب المشروع في الدفاع عن النفس وغيرها الكثير من مواد ميثاق الأمم المتحدة.
لم تمض أسابيع معدودة على القمة الأميركية الإسلامية في الرياض حتى بدأت تتفاقم الأوضاع في الخليج ليتمخّض عنها الأزمة القطرية في وتيرة سريعة من التصعيد الدبلوماسي والاقتصادي على الدولة الصغيرة بحجمها والكبيرة بفعلها الوظيفي الإقليمي.
وهنا يُطرح التساؤل التالي: لماذا هذا العداء المفاجئ مع قطر؟ أمعقول أنّ قطر رفضت دفع الأموال لأميركا كجارتها السعودية! نعلم بأنه غير صحيح وكلام لا يجد للعقل منفذاً، فالأموال القطرية موجودة في البنوك الأميركية وتستطيع الأخيرة ببساطة حجز الأموال القطرية وفرض العقوبات بنفسها، كما فعلت مع سورية وإيران وروسيا وغيرها الكثير.
لنعد إذاً إلى البرنامج الترامبي الذي أكد مراراً لشعبه بقدراته المتمثلة بالقضاء على الإرهاب من جهة وإنعاش الاقتصاد الأميركي من جهة أخرى. وهذا ما أحرزه أو ما أراد أن يُحرزه في قمم الرياض المبهمة، حيث جاء بنفسه بمشاريع بحجة محاربة الإرهاب، ولكن الهدف الاساسي هو تحصيل الأموال للخزينة الأميركية عبر صفقات مشبوهة مع الدول «الإسلامية» التي فشلت في تحقيق المشاريع الأميركية ودفعته للقدوم بنفسه لتحصيل تلك الغايات.
وليس خافياً على أحد بأنّ ما يحكم العلاقات الدولية هي سلسلة من النظريات التي تتفنن الإدارة الأميركية في العزف على قيثاراتها وتحقيق مصالحها قبل مصالح غيرها حتى لو كان في إطار تعاونيّ مرحلي كما مع «دول الخليج»، لتبدأ الأزمة القطرية تتبلور يوماً بعد يوم مع التدريج الدبلوماسي الأميركي بكونها «شرطي العالم» وإثارة الفوضى الخلاقة في الخليج العربي من خلال خلط أوراق جديدة واحتواء مشيخات الخليج بهدف إتاحة التغيير وإيجاد المزيد من التناقضات والصراعات بينها، وهذا ما كشفته من خلال توجيه الاتهام لقطر بكونها تحوي وتدعم الإرهابيين وبالتالي التعامل معها على أساس أنها دولة مارقة قد انتهى دورها المرحلي التي وجدت لأجله.
وبالتالي فإنّ إدانة الإرهاب لا يمكن أن تكون انتقائية، في حين تتذرّع بشن حرب وقائية واستباقية ضده، وإنّ الاجتماع الذي عقده الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع قادة الدول الرجعية في المنطقة، والتي ما زالت مستمرة في دعمها للإرهاب التكفيري، له معانٍ كبيرة.
إن الزعم بمحاربة الإرهاب الداعشي المدعوم أميركياً وسعودياً مكشوف دولياً، لأن كلاً من قطر والسعودية تدعمان الإرهاب في سورية والعراق، غير أن قطر تدعم الإخوان المسلمين والنصرة الإرهابية، في حين القائد السياسي لداعش يتمثل بالسعودية. وهذا ما يفسّر ردة الفعل التركية تجاه الأزمة القطرية وتصريحات أردوغان المندّدة بالعقوبات الخليجية تجاه قطر التي دفعته لإقامة قاعدة عسكرية في الدوحة لكونه مبدئياً مع حليفته القطرية، ورأى أنه لا بد من الوقوف معها للحافظ على مكاسب حققتها تركيا طوال سنوات العدوان على سورية.
أما السعودية ومن ورائها أميركا، فأرادت الانتقام الجسيم من الدوحة ولدورها في المنطقة الداعم للاخوان المسلمين، فاتجهت إلى تنظيم تحالف يحمّل الوزر الإرهابي لجبهة النصرة الإخوانية منفصلة عن داعش، وبالتالي تحجيم الدور التركي ليكون كبش الفداء القطري مهيأ أمامها وإسقاط تهمة دعم الإرهاب عن السعودية.
إيران التي تابعت ما يجري بالقرب منها وجدت الفرص متاحة أمامها لجني ثمار ما زرعه ترامب فزادت من مكاسبها وفتحت باب العون للدوحة الجريحة من أخواتها.
وهنا يبرز تنامٍ في العلاقات بين روسيا وكل من إيران وتركيا في نقطة تحول كبرى في سياسة إدارة موارد الطاقة ناهيك عن احتواء الثلاثة للأزمة القطرية، والتي اعتبرها ترامب كدولة مارقة وقد آن الأوان لإنهاء دورها الإقليمي والضغط عليها لتصبح أمام خيارين: إما الرضوخ والاستجابة للطلبات التي أملاها عليها جيرانها، وبالتالي تتجه نحو تنفيذ ما بعدها وتقديم تنازلات جديدة ونقل الحكم من الأمير الحالي تميم بن حمد آل ثاني إلى آخر…
أو أن تقوم الدوحة بالتقدّم خطوة إلى الوراء والالتفاف نحو إيران وروسيا وتركيا وهو ما قامت به إلى الآن مما يدلّ على الاتجاه نحو التصعيد العسكري واستعمال القوة ضدّها.
فهل السيناريو اليمني سيُعاد إخراجه في قطر لتصبح على شفير غزو سعودي أم ينهار «الجدار» الخليجي كجدار برلين دون غزو؟
|