ترافقت الاتهامات الموجهة للرئيس الأميركي دونالد ترامب في الداخل الأميركي مع تغييرات في السياسة الأميركية الخارجية التي كانت ولا تزال في خدمة السياسة الداخلية، ولتحقيق المصلحة الأميركية لمديرها أياً يكن والكائن اليوم دونالد ترامب، الذي بات التحقيق معه الشغل الشاغل للديمقراطيين في المقابل بات شغله الشاغل تحقيق إنجازات خارجية ترفع أسهمه داخلياً وتزيد من تأييد الجمهوريين له..
وبعد إعلانه الانسحاب من شمال سورية، وتضييق الخناق عليه في سلسلة التحقيقات الجارية ضدّه، عاد من جديد لتحصيل ربح في سورية يُنسي مؤيديه ما «عفّسته» إدارته «المهزوزة» فقام بإرسال دبابات وعربات مدرعة للسيطرة على مناطق احتياطات النفط في الحسكة وشرق دير الزور، زاعماً أنه يريد أخذ «حصة» أميركا من النفط السوري وسيعقد صفقة في هذا الشأن.
كما أكد البنتاغون عزم ترامب إبقاء قوة محدودة، في شرق سورية، لحماية حقول النفط. ولتأكيد الأطماع الأميركية التي لم تكن وليدة اللحظة، أعلنت وزارة الدفاع الروسية في 26 تشرين الأول الحالي، أن «النفط المنتج في هذه المناطق يجري بيعه تحت رعاية قوات أميركية وشركات عسكرية غريبة خاصة».
وحتى يعزز ترامب موقفه ويشدّ عضد هذا الإجراء أعلن للمرة الخامسة على التوالي مقتل «البغدادي» في زيادة لرصيد التفوق «الترامبي»، عسى أن يترجمه في الانتخابات الرئاسية الجديدة ويموّه ما يسجله الديمقراطيون ضدّه في سلسلة التحقيقات التي يخضع لها مع إدارته بعد فضيحة اتصاله مع نظيره الأوكراني..
وإذا ما نظرنا إلى موقف ترامب الحالي نظرة عابرة، فإننا سنعتبره «انقلاباً» على موقفه السابق، الذي دعا خلاله إلى سحب القوات الأميركية من سورية، والتي لا تحوي حسب تعبيره، سوى «الرمال والموت»، ولكن إذا ما تعمقنا بنظرتنا إلى موقفه سنجده موقفاً متسقاً بالكامل مع رؤيته للمصلحة الأميركية التي يراها «أولاً» فوق مصالح العالم أجمع..
وإذا ما عدنا إلى تصريحاته عام 2016 التي شنّ خلالها هجوماً لاذعاً على أسلافه الذين خاضوا الحروب في العراق وأفغانستان وسورية دون أن يحصلوا على «غنائم» تلك الحروب، قائلاً: «في الأزمنة السابقة، عندما تخوض حرباً تكون الغنائم من حق المنتصر».. إنما تناسى ترامب من المنتصر وأن الغنائم التي تحدّث عنها هي نتيجة حروب افتعلتها بلاده ضدّ تلك الدول لتحقيق مصلحتها وستعود مهزومة كهزيمتها في حربها مع فيتنام..
وبالتالي يحاول ترامب تبرير سرقته للنفط السوري، بذريعة حمايته من «داعش»، بينما يناقض ترامب نفسه فقد أعلن أكثر من مرة انتهاء الحرب مع «داعش»، وانتصار أميركا على الإرهاب بحسب زعم مدير البيت الأبيض، حتى أنه أعلن أول أمس، الأحد، تصفية قائد تنظيم «داعش» الإرهابي أبو بكر البغدادي، وإذا ما كان ذلك صحيحاً رغم النفي الروسي، وعدم إظهار دلائل دامغة تؤكد مقتل البغدادي الذي قتل خمس مرات وفق الإعلانات الأميركية.. إنما إذا فرضنا جدلاً أنّ هذا الإعلان صادق، فإنّ ذلك يعني انتفاء الذريعة الأميركية وهي «محاربة الإرهاب» التي برّرت عبرها بقاء قواتها في سورية..
وبالتالي فإن بقاء أميركا في شرق سورية يهدف لتحقيق أهداف تتجاوز في رؤيتها الاستراتيجية المصلحية «غنيمة» النفط السوري، لتتخطّى حدود أطماعها بتحقيق أهداف أكبر من ذلك بكثير، أهمها محاولة إبقاء القوات الأميركية كـ»خنجر» مغروس في الخاصرة السورية، وورقة تضمّن لها مصالحها بعد أن خسرت جميع أوراقها في تسع سنوات من الحرب على الأرض السورية، تحقيقاً لأهداف عدّة تبدأ باستنزاف الدولة السورية وضرب الجهود التي تبذلها مع حلفائها لفرض سيادتها على كامل الأرض السورية، وإعادة الحياة فيها إلى سابق عهدها..
ونستذكر اعتراف المبعوث الخاص السابق للرئيس الأميركي إلى التحالف المناهض للإرهاب، بريت ماكغورك، بأن «ترامب عبّر مراراً، في أحاديث شخصية، عن اهتمامه بما يمكن عمله بالنفط السوري».
ووفقاً لـ»ماكغورك»، فإنه درس الأمر مع وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون، الذي أشار حينها إلى «الافتقار إلى قاعدة قانونية تسمح باستغلال الأميركيين للذهب الأسود السوري».. وبالتالي فإن الرؤية الأميركية في تمركز قواتها شرق سورية تتخطى النفط السوري وتصل لتأمين مصالحها موصولة بمصالح ربيبتها «إسرائيل» في أيّ تسوية مستقبلية للأزمة السورية، بعد أن فقدت كل أوراقها على الأرض السورية وباتت تلك الأرض «محرقة» للمصالح والغايات الأميركية..
لتبدو أنّها عاجزة عن تحقيق أهدافها في سرقة نفط سورية، أو التخطيط للبقاء في سورية لمدة طويلة، فهذا الهدف سيفشل كما فشلت أهدافها السابقة. وظهرت سورية وحلفاؤها بمظهر المنتصر الذي يقطف ثمار نصره و»باتت الغنائم من حقها».. لتظهر محاولة ترامب الأخيرة محاولة براغماتية كبراغماتية أسلافه.. فلن يستطيع قطف ثمار النصر السوري عبرها لا بإعلان مقتل البغدادي الذي وتبعاً لسياسات أميركا سيُعاد تدويره في مكان آخر من بقاع الأرض، ولا بحراسة النفط السوري الذي وتبعاً لسياسات سورية ستعيد بسط سيطرتها على كامل أراضيها..
|