حملت مشاركة المندوب السوري لدى الأمم المتحدة الدكتور بشار الجعفري مؤخراً في حفل أقامه عبد الله المعلمي مندوب المملكة العربية السعودية لدى المنظمة الدولية في مبناها الرئيسي بنيويورك على شرف وزير الدولة السعودي فهد عبد الله المبارك، والاحتفاء السعودي بتلك المشاركة، رسالة سياسية ودبلوماسية تتعدّى كونها مجرّد دعوة من مندوب لنظيره وتلبية للدعوة بل تندرج في خانة إحياء للعلاقات الدبلوماسية.
إذ يعتبر هذا اللقاء خطوة جديدة مهمّة في إطار المساعي الرامية إلى تطبيع العلاقات السعودية السورية بشكل متدرّج لأسباب واعتبارات عدة لها علاقة بمصالح البلدين.
فمن منظور العلاقات الدولية والدبلوماسية تعدُّ الدعوة السعودية إعادة لوصل أواصر مقطوعة وتعبيد لطريق تلتقي فيه المصالح التي تتفوّق دائماً على الخلافات مهما تأزمت أو لاح أفق مسدود لها تسعى الدبلوماسية دائماً لخرق ذاك الأفق وفي ذاك الاحتفاء السعودي بالوجود السوري محاولة سعودية لإيجاد حلقة تصل ما انقطع وتحقق مصلحة مشتركة عبر إحداث الصدمة في إحياء العلاقات والتي تتماثل مع تلك الصدمة الكهربائية التي يعطيها الطبيب للمريض حين يتوقف قلبه حتى يعود إليه النبض من جديد..
وفي الحديث عن المصلحة المشتركة لدى البلدين فأول ما يبادر إلى الذهن الحراك التركي في المنطقة من سورية إلى ليبيا فبعد «المستنقع» السوري الذي أغرق فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ها هو اليوم يتوجّه نحو «المستنقع» الليبي ناقلاً معه أذرعه القتالية المسمّاة بمقاتلي «المعارضة السورية» بعد أن فشل مشروعه في سورية، محاولاً أن يروي ظمأه المتعطش لإحياء أمجاد عثمانية في الأرض الليبية، وهذا ما وجدت فيه السعودية تهديداً لحليفها المشير حفتر، خاصة بعد أن نقل مقاتلي المعارضة لمحاربته، والذين لطالما دعمتهم السعودية بالمال والسلاح هذا من جهة. ورأت بتمدّد أردوغان تهديداً على وجودها في رأس هرم زعامة العالم الإسلامي من جهة ثانية، فوجدت بإعادة العلاقات مع سورية إلى المربع الأول خير حل للوقوف في وجه المشروع التركي، مستغلة وجوده كـ»عدو» مشترك بين سورية وبينها، معتمدة على ما يجمعها بسورية من أواصر عربية وتاريخية مشتركة في عالم عربي واحد، رغم أنها تناسته لمدة عشر سنوات..
في هذه الأثناء يظهر جلياً الدور الروسي في كل إجراء يتعلق بالحليفة سورية، حيث يضطلع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدور كبير في تفعيل المساعي الدبلوماسية بين الأطراف الفاعلة في الحرب السورية. فهو حريص على عودة العلاقات الثنائية السعودية – السورية، لأن ذلك سيسمح لروسيا بتيسير التنسيق مع قوى إقليمية في المنطقة، وسيعجّل من بلورة الحل السياسي الذي تعهّدت به روسيا لحليفتها السورية في سوتشي وأستانة وغيرها من المحافل الدولية، وربما فصل السعودية عن دعم الفصائل المعارضة التي حملت السلاح وقاتلت الدولة السورية وتوجيهها نحو دعم إعادة الإعمار في سورية..
وبالتالي محاصرة تركيا أيضاً عبر إحياء التحالفات المتناقضة بالنسبة للاستراتيجية التركية، والمتوافقة بالنسبة للاستراتيجية السورية وكذلك الروسية التي تعتبر دول المنطقة امتداداً حيوياً لإقليمها، وبالتالي إيجاد قاعدة مستقرة في هذه المنطقة ينعكس على استقرارها، ويحدّ من التهديدات التي لطالما تؤرقها في حدودها الجنوبية عبر إضعاف الناتو، حينما يجد الأخير أنّ الحضور الروسي قد رسّخ وجوده وتحالفاته وتبلور في مشروعه الأوراسي..
وبوتين مقتنع بأن انخراط المملكة العربية السعودية في إعادة إعمار سورية بعد إحياء العلاقات بين البلدين هو عنصر إيجابي جداً يستفيد منه اقتصادهما. مع العلم بأنّ المساهمة المالية الغربية في إعادة الإعمار لم تتبلور بعد وتفتقر تلك الدول إلى الحماسة التي تدفعها للمثل هذه الفكرة وبشكل خاص كونها تأتمر بما يمليه عليها قائدها الأميركي..
وحتى روسيا وإن كانت ترغب في الضلوع بالمرحلة الجديدة إنما لا تملك تلك الإمكانات المالية التي تتيح لها المساهمة فيها بشكل فاعل. ما جعلها تدير المرحلة سياسياً ودبلوماسياً عبر استراتيجية توفيقية تصالحية وتشاركية وتدوير الزوايا بين الأطراف الفاعلة والمؤثرة لإيجاد مصالح مشتركة بينها وترسيخ للتعاون الدولي الذي لا يتعدّى حدود السيادة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول..
أما الهدف الأساسي الذي يمكن أن تحققه سورية من خلال إعادة العلاقات مع السعودية، فهو العودة إلى الجامعة العربية، وتذكير محيطها العربي بكونها «سيف العرب وترسه»، حاملة شعار «العفو عند المقدرة» ليدرك محيطها بأنّه أخطأ عقداً من الزمن وبأن سورية أرضاً وشعباً وسيادة قادرة على الصفح كما كانت قادرة على الصمود، وتدرك دمشق جيداً أهمية الوزن السعودي لتحقيق مآربها التصالحية مع محيطها لكون الرياض فاعلة وذات تأثير في العالم العربي، وسيتبلور الغرض السوري وكذلك السعودي مع الأيام..
وفي الحديث عن الغرض السعودي، باتت السعودية أكثر قناعة بأن إعادة العلاقات السعودية السورية إلى مجراها ومربعها الأول، سيساعدها في تحقيق أهداف عدة أولها إيجاد وسيط طبيعي مع إيران لتجاوز التصعيد الإيراني السعودي، وفتح أفق لإنهاء النزاع اليمني الذي اهتدى الأمير محمد بن سلمان ولي العهد إلى أن استمراره عقبة كأداء أمام مشروعه الرامي إلى تنويع مصادر الثروة السعودية وتجاوز مرحلة الاعتماد شبه الكلي على عائدات النفط.
وهذا ما يفسر ذاك الاحتفاء الدبلوماسي، والانقلاب في السياسة السعودية تجاه سورية، ومحاولتها طي صفحة الخلافات عبر هذا الاختراق الدبلوماسي الذي لم يكن وليد الصدفة، بل كان بلورة للتوجه الانفتاحي السعودي، في إطار مدروس بعناية لبدء صفحة تحالفية جديدة تحمل عناوين المرحلة الجديدة..
أضف إلى ذلك، الأسباب التي دفعت بالسعودية نحو الانفتاح على سورية هي رغبتها بمواجهة التحالف القطري التركي فقد رأت بالهجوم المزدوج الذي شنّه الجعفري ضدّ نظيريه التركي والقطري في الأمم المتحدة، قاسماً مشتركاً يمكنها التعويل عليه لإحياء العلاقات الثنائية، مستفيدة من العدو المشترك لكليهما. وقال الجعفري أمام الجمعيّة العامة إنّ «الاتهام الصّريح لدعم النظام القطري والنظام التركي للإرهاب جاء على لسان الشيخ حمد بن جبر آل ثاني، رئيس الوزراء الذي ظهر على شاشة تلفزيون بلاده وقال إن قطر والسعوديّة وتركيا صرفت 173 مِليار دولار لتقويض الحكومة الشرعية في سورية»، مهدّداً بمعاقبة النظام القطري على فعلته «المشينة».
ورغم أنّ اللقاء الذي جمع بين ولي العهد واللواء علي مملوك في السعودية منذ سنوات قليلة برعاية روسية لم يترجم أي تقارب حقيقي، إنما سيترجم اليوم بتطور حقيقي، وبرعاية روسية كما أسلفنا الذكر، فالظروف قد تغيّرت وباتت الحاجة لإحياء العلاقات الثنائية حاجة ملحّة فالأموال السعودية ستساعد سورية في مرحلة الإعمار، والعمق السوري سيساعد السعودية في تحسين علاقاتها مع إيران في ظلّ خسارتها الحرب اليمنية وفشل رهاناتها على الحماية الأميركيّة..
في المحصلة ستحمل الأيام المقبلة عودة فاعلة ومؤثرة للدور السوري في محيطه العربي يعنون باستعادتها مقعدها في الجامعة العربية، وفتح السفارات العربية في دمشق بعد أن قامت الإمارات بالخطوة الأولى سنجد السعودية قد فتحت سفارتها وفكت ارتباطها نهائياً بالمعارضة السورية.
|