في هلنسكي وفي مدة تقارب الثلاث ساعات طغى فيها حضور الرئيس الروسي على نظيره الأميركي المثير للجدل بشخصيته..
استثمر فيها كل منهما خبرته لتحصيل مكاسب ستشكل مع الأيام انعطافاً حقيقياً في مجريات الأحداث وإعادة لتصنيف الأولويات على «رقعة الشطرنج»..
الرئيس الروسي الذي لطالما عرف بتعامله مع الأمور بصورة واقعية براغماتية، لكونه آتياً من خلفية سياسية واستخبارية جعلته يتعامل بدقة مع كل تفصيل. وهو الآن نفسه ذاك الذي أتى عام 2000 ليعمّم مبدأه في الحكم «مبدأ بوتين» في إعادة تموضع روسيا كقوة عظمى في عالم متعدّد الأقطاب لا يرضخ لهيمنة القطب الواحد مواجهاً كل ما ترتّب على هذا التوجّه من عواقب وتحديات..
في حين أنّ نظيره الأميركي لا يعنيه في الأمر سوى «الأموال» و»المديح الذاتي» إن لم يجده في فريقه لا يتأخّر في مدح أعماله بنفسه عبر تغريداته المثيرة للجدل.. ففي تغريدة على تويتر أول أمس، كتب ترامب «وتتحدّث وسائل الإعلام فقط بأنني كنت فظاً مع القادة، لكنها لا تتحدّث أبداً عن الأموال!».
ولعلّّ تغريدته قبل عامين خلال الحملة الانتخابية: «علينا أن نلتقي في النهاية مع بوتين، وأن نجلس معه ونشرب الفودكا ونحدد الأمور»، قد تحققت نبوءته، كما تحققت نبوءته في «بريكست» كما صرّح في لندن منذ أيام.
إلا أنّ هناك تفاصيل أخرى يمكن أن تتحدث في بعض الأحيان عن أسرار السياسة العالمية وخفاياها أفضل من مئة مجلد يجتهد في كتابته المحللون والمنظرون وجهابذة الخبراء السياسيين.
وبدءاً من مصافحة الرئيسين التي لفتت الانتباه وأثارت اهتمام المختصين على الفور، وصولاً إلى تصريحات المؤتمر الصحافي المشترك الذي أثار سخطاً وغضباً في الداخل الأميركي، الذي اعتبر أن «ترامب خسر الجولة تماماً في هذا اللقاء»، فتوالت الهجمات على مدير البيت الأبيض من كل حدب وصوب لتتهمه بأنه «سلّم نفسه إلى بوتين، وبأنّه قدم مصلحة روسيا على المصلحة الأميركية».
إلا أنّ نباهة وذكاء بوتين الآتي من عالم الاستخبارات ودقائقها، ظهرت بسرعة بديهته، ومهارته بإخراج ترامب من «التوازن»، فبوتين لن «يأكل الطعم مرتين» فتهميش الأميركي للدور الروسي عقب أحداث أيلول حينما أراد بوتين مشاركة الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، لن ينجح اليوم.
والنجاح اليوم سجل في خانة بوتين، لما أظهره من حسن إدارة ونباهة في ثلاث ساعات لخّصت فيها مواقفه القوية وردود ترامب الشاهدة بقوة نظيره.. وكتب ترامب في سلسلة تغريدات «أن قمة الاثنين في هلسنكي مع بوتين يمكن على المدى الطويل أن تتوّج بنجاح أكبر من اللقاءات مع حلف الأطلسي التي شكلت بدورها انتصاراً واضحاً»، مؤكداً أنّ «روسيا وافقت على مساعدتنا في ملف كوريا الشمالية»، وبما أنه صرّح بموافقة روسيا ما يؤكد الاعتراف بالتعددية القطبية وزوال الاصطفاف الأميركي في القطب الواحد.
استطاع «القيصر» الروسي إثارة الخلاف في الداخل الأميركي وتلقين نظيره ما أراد قوله من دون أن يدري الأخير مغبة ذلك حتى عاد إلى بيته ليجد ما هبّ ودب من نقد ولوم وعتب ليبدو جلياً أنّ جميع الملفات التي تمّ التباحث فيها ستصب على المدى القريب والبعيد في احتساب الدور الروسي كشريك للأميركي. وهو ما أراده بوتين منذ العام 2000 وقد تحققت إرادته، كما تحققت نبؤة نظيره باحتساء «الفودكا»، إنما كانت «بصحة القيصر» هذه المرة.. وكذلك سيحمي الأميركي أيضاً مصالح الروسي، لأنه سيجد نفسه أمام خيار أنّ المصلحة هي في تقاسم المسؤولية الدولية مع نظرائه الدوليين..
|